أخذت الثورة السورية منحىً تصاعدياً منذ الأيام الأولى لانطلاقتها، فعمّت منذ الأسبوع الأول، دمشق ودرعا والسلمية وحمص ودوما وبانياس، والقامشلي والسويداء، واستمرت تتوسع وتتصاعد كل يوم. بعد 18 تموز 2012، دخلت دمشق بعد محاولة تدمير ريفها وأحيائها المهمشة كقائدة لهذه الثورة على مستوى سوريا، لتقدم دلالة أكيدة على أنّها ثورة شعبية وطنية، لا تمت بصلةٍ إلى أطراف حرب الثمانينيات إلا من ناحية النظام، وأنّها ليست أمراً طائفياً، لطالما حاول النظام إلباسها لبوسه. الثورة التي قالت عنها السلطة، والمتحالفون معها، إنها عصابات إرهابية وسلفية، وحركات بلدات طرفية هامشية سرعان ما ستنتهي، وإن المدن الكبرى لن تدخلها، وإنها محض فقاعات مقلدة ومستقدمة من دول عربية أخرى، أسقطت تلك الروايات، وأظهرت في استمراريتها أنّها ليست كذلك، وليست مؤامرة إمبريالية وخليجية أو من صنع قناتي الجزيرة والعربية «المغرضتين»... ولو كانت كذلك، لرفضها عموم السوريين، ولانزوت فعلاً وصارت أثراً بعد عين. الثورة السورية، ثورة أصيلة، جاءت في شروط بغاية التعقيد، ورغم انتكابها بمعارضة مهزومة في رؤيتها وأفكارها عن الثورة ــ حللناها في مقالات سابقة ــ وفي ظل شرط دولي، غير مواتٍ، وفي ظل نظام مجهز بترسانة عسكرية لدولة لها أبعاد إقليمية، وتنتمي إلى حقبة الحرب الباردة، فإنها استمرت وتطورت وتوسعت! ثورة دمشق الآن تغلق الستار على مسرحية تراجيدية استمرت عقوداً. مقتل جزء من خلية أزمة السلطة، أربكها تماماً؛ إذ أصيب عقلها الأمني والعسكري بمقتل، وهو ما انعكس تفتتاً في الجيش وإرادته ونفسيته، وانكماشاً للحفاظ على المراكز الأساسية الممثلة للسلطة. السلطة المجروحة والفاشلة. ومع استمرارها في شنّ هجماتها العسكرية على المدن بواسطة الحوامات والمدفعية، ضمن خطة خلية الأزمة المقتولة، فإنّ أحياءً كاملة في دمشق تنفضّ عنها بالتتالي، وهناك بلدات ومدن تعلن استقلالها تباعاً، بل وتسيطر القوى المسلحة على الحدود مع تركيا والعراق. وسيتابع العالم، في الأسابيع القادمة مزيداً من توسع الثورة وتقلص السلطة. الثورة خلية نحل يعمل السوريون فيها لصناعة قرص العسل الشهي!
تقلص مساحة سيطرة السلطة على الأراضي السورية، يعني حصيلة موضوعية: إفلاس النظام وشلل مؤسسات الدولة، وتفتت الجيش، وتدمير القوة العارية لديه، وانهيار تحالفاته بالكامل. هذا الواقع، سيفتح على جميع الاحتمالات، ومنها تغيير في الموقف الروسي. تصريح السفير الروسي من فرنسا قبل أيام، ليس بلا دلالة، التنكر له لاحقاً، لا يغيّر من أنّ رسالة الروس وصلت إلى النظام، ومن فرنسا. الدبلوماسيون لا يتكلمون عبثاً، هم يمثلون سياسات بلادهم! إذاً، تتعرض السلطة السورية لتأزم شديد. بعض فئاتها سيشبّك مع جهات دولية، وبعضها الآخر سيقفز قبل تحطم المركب المتهالك، وثالثها قد ينفذ حكم الموت ببعض قيادات السلطة، ويحسم المعارك. هذه من أبجديات السياسة في أي مكان في الدنيا.
أن تقصف سلطة ما أماكن في عاصمة الدولة، فهذا يعني أنّها أصبحت بمثابة عصابة خارجة عن القانون. وهي حكمت سوريا كذلك منذ عقود، ومنذ أن بدأت الثورة، لم تفعل شيئاً غير ذلك: اعتقال، وقنص، وقتل، وتعذيب، ومجازر، وتدمير. هذه السلطة هي الآن، محط مراقبة من الدول الإمبريالية، التي تبحث في التقليل من الخسائر ما أمكن، وعلى حساب الإمبريالية الروسية الغبية، للاستفادة من لحظات الانهيار القادمة لتقيم علاقات مع النظام القادم. في هذا الشرط القاتل والثوري بامتياز، لن يستمر النظام طويلاً وسيسقط سريعاً.
تبقى هناك قضية تقلق السوريين كافةً، هي أنّ هناك خشية من أن تنفلت مجموعات لها علاقة بالسلطة وسبق أن قامت بجرائم معروفة للسوريين جميعاً، وهي الشبيحة، ومجموعات لها علاقة واهية بالثورة، ومستفيدة من أجواء القتل العاري و«الطائفي» الذي قام به النظام، ومن غياب الأمن، لتقوم بتصفيات ذات طبيعة طائفية، وتشويه صورة الثورة، وإذكاء رواية النظام عن الثورة «السنية». هذه المجموعات، سواء موالية أو معارضة، بإمكانها اللعب على الحساسيات الدينية، واستخدام الإرث الطائفي، وإحداث تجييش بشع، يؤدي إلى قتل طائفي أو تهجير له الدلالة ذاتها.
في دمشق وفي كل سوريا، تسيطر حالة هلع وخوف على السكان، الموالين والمعارضين، فجيش النظام يقصف ويدمر، والجيش الحر يسيطر على كثير من الأحياء، وهناك انسحاب عسكري للسلطة من بعض الأحياء ومواقع في قلب العاصمة. وبالتالي ستحدث انفلاتات محدودة هنا وهناك؛ وهذا من عاديات الثورات، ولكنّها في الواقع السوري، تشكل خطورة كبيرة، نظراً إلى غياب السياسة على مدى عقود، وتصاعد التطييف الذي حاوله النظام وقوى في المعارضة وفي الثورة منذ بداية الثورة.
الثورة المتصاعدة في كل من السويداء والسلمية واللاذقية ومصياف وحمص وغيرها، تعكس رغبة متعاظمة في إرساء علاقات وطنية جامعة للسوريين؛ وتؤكد ضرورة تعميم قيم المواطنة والتلاحم الاجتماعي، هذه الرغبة وهذه الضرورة يمكن قراءتها في مطامح الثورة عبر لافتات تؤكد المواطنية. قطاعات المجتمع، الثائر، وغير الثائر، من مصلحتها العمل وفقها، وذلك منعاً لانفلاتات طائفية وعنفية، لن ينجو أحد منها ولن تستفيد منها سوى قطاعات «طائفية» من السلطة والمعارضة. الحق يقال، إنّ الثورة السورية ليست طائفية والنظام بدوره ليس كذلك، ولكن النظام يوظف الطائفية، وتيارات من المعارضة تحذو حذوه، وتستثمر في الوعي الشعبي الديني؛ ويعملان من أجل الهدف نفسه، وهما بالحقيقة يشوهان الثورة وسوريا، ويدمران إرثاً حضارياً وقومياً، أسهم بتشكيل الهوية الوطنية والقومية. وهي (أي الثورة)، تسعى الآن إلى تأسيس الهوية المواطنية، ودولة المؤسسات والقانون، وواقعاً اقتصادياً ووطنياً جديداً؛ وهذه من أهداف الثورة، التي كانت دائماً تسعى إلى التخلص من كل ما هو متخلف وطائفي ودموي، والوصول إلى سوريا لكل السورين. لكنّنا، على خلاف مع كثير من المحللين، نقول إن هذا الأمر لن يتحقق عبر هيئات المعارضة الحالية ولا عبر «النظام الديموقراطي» القادم. ولكنّه سيتحقق فقط، حالما تستطيع الطبقات الشعبية، الهيمنة على الدولة وتحقيق برنامجها الوطني الديموقراطي في الاقتصاد والنظام السياسي وفي كل شؤون الدولة، وإرساء أسس الدولة الحديثة.
فليصمت دعاة التدخل العسكري، ودعاة الحل الخارجي، الذين طرشوا آذاننا بضرورته منذ بداية الثورة، ولم يتحقق لهم ولن يتحقق لهم، كما قال ويقول لهم كل يوم دبلوماسيو العالم الإمبريالي، لا دبلوماسيو روسيا الإمبريالية فقط، وهي كذلك... فسوريا تكاد تنجز ثورتها؛ تكاد تشهر أمام العالم سلطتها الجديدة، وتقول للجميع: أنجزنا ثورتنا بأيدينا، ومساعدتكم لو حدثت لكانت فقط من أجل احتواء ثورتنا، ومساعداتكم تلك، التي هي محدودة وبائسة، هي جزء من حقوقنا المغتصبة، في أزمنة التبعية والسرقة والنهب والصفقات ورؤوس الأموال المودعة في بلادكم. ولكنّنا لن نغفر لكم صمتكم طوال زمن ثورتنا، ونحن نعرف أطماعكم الإمبريالية تماماً. أنتم لم تفعلوا شيئاً يذكر، لا في المقاطعة الاقتصادية، التي جاءت ببطء شديد، وبسبب توسع ثورتنا، ولم تقطعوا العلاقات الدبلوماسية إلا بعد مجزرة الحولة، وبقيت بعثات النظام فاعلة في المجال الدولي. أنتم لم تفعلوا شيئاً إلا تحت ضغظ الثورة وتطورها وتوسعها. هذه هي الحقيقة، وليفهمها المجلس الوطني وهيئة التنسيق ومختلف التشكيلات السياسية، التي لا تزال تضع بيضها في السلة الدولية والإقليمية والعربية، وتتابع وتشارك بمؤتمراتها الهزيلة، من أجل إسقاط النظام...
* كاتب سوري