لا يزال الموقف الروسي على حاله من الأزمة السورية، لا بل يصبح أكثر تشدّداً على الرغم من الضغوط الدولية ضد موسكو. فالرئيس فلاديمير بوتين حذّر من أنّ «التحرك خارج المجلس لن يكون مجدياً، ولن يفضي إلا إلى تقويض سلطة الأمم المتحدة». بتعبير آخر، إنّ الزعيم الروسي يهدّد بأن أي تحرّك لإسقاط نظام الأسد على «الطريقة العراقية» ستكون له ارتداداته على مستوى النظام العالمي! في 2003 اعترضت روسيا، ومعها فرنسا وألمانيا، على اجتياح العراق بقرار أميركي ـــ انكليزي من خارج مجلس الأمن الدولي. ولكن تفوّق الولايات المتحدة الأميركية لم يمكّن هذه الدول من القيام بما هو أبعد من الاحتجاج ودفعها الى التمسّك بالنظام العالمي المعمول به منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبالأمم المتحدة كمؤسّسة عالمية ضامنة للسلام بين الدول، خشية أن تفرض واشنطن نظاماً عالمياً جديداً يكرّس قوتها العالمية. الوضع اليوم مختلف. إنّ روسيا، بزعامة فلاديمير بوتين، تحاول أن تفرض نفسها قوة دولية في عالم متعدّد الأقطاب. فبعدما أحكم قبضته على الحكم في الداخل وأنهى النزاع في الشيشان الذي استنزف روسيا طيلة سنوات
، توجّه «القيصر الجديد» نحو الخارج لاستعادة مكانة روسيا العالمية ابتداءً من العوالم القريبة جغرافياً: القوقاز وآسيا الوسطى وبلدان البحر الأسود ودول أوروبا الشرقية. في الوقت نفسه، راح يدعم إيران في ملفها النووي، وأعاد إحياء التحالفات مع دول أخرى، أبرزها سوريا التي تحتلّ موقعاً مركزياً في سياسة روسيا الشرق ـــ أوسطية.
لا شك أنّ قاعدة طرطوس البحرية لها أهميتها الكبرى. فهي القاعدة العسكرية الوحيدة لروسيا على المتوسط، البحر ذات الأهمية الاستراتيجية الأولى في العالم. لكنها ليست السبب الوحيد للموقف الروسي الداعم لنظام بشار الأسد على رغم تصدّعه والرافض لأي قرار أممي يُسقطه بالقوة. فما هي الأسباب الأخرى؟
أولاً، إنّ سقوط نظام الأسد يؤدي الى خسارة روسيا آخر حليف لها وإلى خروجها من الشرق الأوسط، المنطقة الأكثر أهمية في العالم بسبب غناها بالثروة النفطية والغاز واحتضانها لأهم المعابر البحرية (هرمز، باب المندب، وقناة السويس) والمطلّة على بحور ثلاثة (البحر المتوسط، البحر الأحمر وبحر الخليج) والتي تصل بين الغرب وجنوب شرق آسيا.
ثانياً، إنّ روسيا تخشى وصول المعارضة السورية إلى الحكم، مدعومة من قبل أميركا وأوروبا ومموّلة من السعودية وقطر والتي تحتضنها تركيا. وبالتالي سيكون لهذه الدول نفوذ كبير في سوريا على حساب النفوذ الروسي. الوعود التي قطعتها المعارضة للكرملين بالحفاظ على قاعدة طرطوس البحرية لا تكفي. فموسكو تريد أن تكون هي صاحبة النفوذ الأول، وربما الوحيد، في سوريا كي تحافظ على دور لها في الشرق الأوسط. لذلك تسعى إلى أن تكون الراعية الأولى لأي حل للأزمة السورية. من هنا دعواتها المتكرّرة الى إقامة حوار بين النظام والمعارضة وإعلان استعدادها لاستضافته. وفي هذا الإطار يندرج استقبال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لرئيس المجلس الوطني السوري، عبد الباسط سيدا، وميشال كيلو على رأس وفد سوري معارض.
ثالثاً، لا شك أن أحد أهداف واشنطن من إسقاط نظام الأسد هو إضعاف طهران ونفوذها في الشرق الأوسط، وهذا ما تخشاه موسكو لأنه سيؤدي الى إحكام القبضة الأميركية على المنطقة الأكثر استراتيجية في العالم. فهي بذلك ستسيطر على ثلثي احتياط النفط وحوالى نصف احتياط الغاز في العالم. من جهة أخرى، ان سقوط نظام الأسد وإضعاف إيران سيعزّز النفوذ الأميركي في آسيا الوسطى والقوقاز المحاذيتين جغرافياً لروسيا. فمنذ أكثر من عقد من الزمن، اتخذت الولايات المتحدة الأميركية من الحرب على الإرهاب ومن تطبيق العقوبات على إيران ذريعة لنشر قواعدها العسكرية في العديد من دول المنطقتين (أفغانستان، طاجيكستان، قرغيزيا، أذربيجان، وغيرها). وبذلك، فالقوات العسكرية الأميركية تتمركز عملياً بالقرب من الحدود الجنوبية الروسية (وعلى الحدود الغربية للصين). وبالتالي، فالموقف الروسي من الأزمة السورية لا يهدف الى الحفاظ على المصالح الروسية فحسب، إنما الإيرانية أيضاً. من هنا دعوة موسكو الى مشاركة طهران في الاجتماعات الدولية من أجل سوريا. هذه السياسة الروسية تشكّل إذاً جزءاً من الصراع الروسي ـــ الأميركي خارج الجغرافيا السورية، وحتى الشرق ـــ أوسطية.
رابعاً، هذا الموقف الروسي له علاقة بالنفوذ التركي المتنامي في الشرق الأوسط والذي يمكن أن يهدّد المصالح الروسية الاستراتيجية ليس في المنطقة فحسب، إنما أيضاً في القوقاز والبحر الأسود. لا شك أن سقوط نظام بشار الأسد سيؤدي الى تكريس قوّة تركيا الإقليمية في الشرق الأوسط بعد التقارب الحاصل مع المملكة العربية السعودية والعلاقات التي تنسجها مع النظامين الجديدين في كل من مصر وتونس، والدور الذي تلعبه في ليبيا. فتركيا تحتضن المعارضين السوريين منذ بداية الثورة، ولا سيما الإخوان المسلمين، الطرف الأقوى بينهم، وساهمت في تأسيس المجلس الوطني السوري في اسطنبول. وفيها تتمركز قيادة الجيش السوري الحرّ. كما تزوده بالسلاح والمعلومات الاستخبارية في حربه ضد النظام، وتسهّل انتقال الضباط والجنود الفارين من الجيش النظامي للالتحاق بالجيش الحرّ. وهي تؤمّن وصول المساعدات العسكرية والمالية الآتية من الخليج العربي الى الثوار في سوريا، ما يعني أنّ لتركيا دوراً أساسياً في سوريا ما بعد الأسد. هذا الدور سيكرّس النفوذ التركي في المنطقة الذي كان قد بدأ قبل «الربيع العربي» عبر سوريا ـــ «البوابة» الجغرافية المؤدية الى الشرق الأوسط. ولا شك أنّ بروز تركيا كقوة إقليمية في الشرق الأوسط سيساعدها على تعزيز دورها في الأقاليم الأخرى المحيطة بها، وهي القوقاز والبحر الأسود حيث المصالح الروسية الاستراتيجية. إنّ المعارك التي تدور اليوم في شوارع دمشق وحمص وإدلب وغيرها من المناطق تتخطى أهدافها الجغرافيا السورية إلى الصراع في الشرق الأوسط وحتى إلى الصراعات في مناطق جغرافية أخرى في العالم. وأي قراءة في الأزمة السورية يجب أن تأخذ بالاعتبار العوامل الجيو ـــ سياسية المتعدّدة لهذه الصراعات المعقّدة. بالنسبة لروسيا، إنّه الصراع الذي سيحدّد دورها في الشرق الأوسط، وإلى حد ما، دورها كقوة عالمية في وجه الولايات المتحدة الأميركية. فهل ستنجح في ظل الضربات الموجعة التي يتلقاها نظام الأسد، وانتقال الصراع العسكري الى قلب العاصمة والى حلب، ثاني أكبر مدينة سورية؟
* باحث في شؤون الشرق الأوسط،
أستاذ في جامعة الكسليك