هالني أثناء زياراتي إلى بيروت تراجع المعرفة عن فلسطين في أوساط الشباب اللبناني مقارنة بالستينيات والسبعينيات. كما هالني غياب القضية عن أذهان كثيرين من اصدقائي الفلسطينيين خارج لبنان، وانصرافهم إلى نجاحهم الفردي وشؤون عائلاتهم. فقد سيطرت على عقول الشباب اللبناني صورة جزئية عن المخيمات وصراع فتح وحماس والسلطة الفلسطينية الخ... وغابت الصورة الكبيرة عن فلسطين كقضية أرض وشعب مسالم وحضاري طُرد من وطنه بالقوة العسكرية الغاشمة. وفي الحالة الثانية، أي في أوساط فلسطينيي الانتشار، أصاب بعض الفلسطينيين، وبعامل الزمن، اليأس ومرض النسيان، كما أصابت بعضهم الآخر إغراءات الحياة المادية والاستقرار.
ولا شك أنّ الجيل العربي الجديد يؤيّد صمود الشعب الفلسطيني بشكل عفوي، ولكن ثمّة خطر أن يكون هذا التأييد مبنياً على هبّات عاطفية «فايسبوكية» لا تلبث أن تخبو. ويجب أن يرتكز الدعم حتى يصبح عقلانياً إلى حقائق راسخة نقدّم هنا بعضها:
أولاً، مِن أكاذيب الصهيونية أنّ «فلسطين هي أرض بلا شعب أعطاها الانكليز لشعب بلا أرض». وجاء في الدعاوى الصهيونية: «أنّ فلسطين والبلدان المحيطة بها من سهول حوران ووادي الأردن وبلاد جلعاد وسهل البقاع هي أراضٍ مهملة ويمكن أن نعيد لها ازدهارها مثل أيام الملك سليمان والملك داوود، فينمو عدد اليهود بسرعة لتصبح من أكثر مناطق العالم ثروة وإنتاجاً للغذاء». والحقيقة أنّ سوريا ولبنان وفلسطين كانت بلداناً مأهولة بملايين السكان بمدنها العامرة عام 1900 ولكن صوّرتها الدعاوى الصهيونية أنّها كانت جاهزة أرضاً للاستيطان اليهودي. وفلسطين كانت بلداً مثل لبنان وسوريا، فيها مئات القرى وعشرات المدن الفلسطينية المزدهرة. وهذه حقيقة دامغة بآلاف الصور الفوتوغرافية وبالأدّلة، ولم تكن صحراء بل كانت مزروعة بالكامل حتى كان من الصعب العثور على قطعة أرض غير مزروعة في فلسطين.
ثانياً، تنتشر دعاوى اسرائيلية كاذبة وكثيرة أنّ الفلسطينيين باعوا وطنهم لليهود. وهذا افتراء لا يروّجه الاعلام الغربي فقط بل بعض العرب العنصريين أيضاً وخاصة في لبنان زمن الحرب.

غابت الصورة الكبيرة
عن فلسطين كقضية
أرض وشعب طُرد من
وطنه بالقوة
فالجريمة التاريخية بحق فلسطين كانت أنّ اليهود عشية التقسيم عام 1947 لم يملكوا أكثر من 6 في المئة من مساحة فلسطين - وهذا مسجّل في أرشيفات الادارة الانتدابية البريطانية - ونسبتهم لم تزد عن 33 في المئة من عدد السكان بعد هجرتهم الكثيفة من أوروبا والتي سهّلتها سلطة الانتداب. إلا أنّ خريطة التقسيم عام 1947 منحت اليهود 54 في المئة من كل فلسطين والشعب الفلسطيني صاحب الأرض 46 في المئة. ولقد رفضت الحركة الصهيونية قرار التقسيم لأنّها تريد كل فلسطين. فابتلعت الأراضي الأميرية والأراضي التي امتلكها العرب أيضاً ولم يسجّلوها وهاجمت واحتلت بقوة السلاح وبارتكاب المجازر، مدناً فلسطينية كبرى وأراضي شاسعة وطردت سكانها الفلسطينيين.
ثالثاً، دأبت الدعاوى الصهيونية على نشر أكاذيب أنّ «الجيوش العربية» هاجمت اسرائيل الوليدة في 15 أيار 1948 للقضاء عليها. فصدّق الاعلام الغربي هذا الادّعاء. وحتى اليوم لا يحيد أي مقال أو تعليق أو كتاب يظهر في دول الغرب عن هذه الكذبة. ولكن الحقيقة أنّ الحركة الصهيونية كانت تملك جيشاً منظّماً ومسلّحاً وإدارة عامة وحكومة أمر واقع تنتظر خروج الإنكليز. وقد أعلن قائد الجيش البريطاني في فلسطين الجنرال دارسي عام 1946 أنّ اليهود باتوا من القوّة بحيث سيحتلون كل فلسطين خلال 24 ساعة إذا انسحبت بريطانيا. والحقيقة أيضاً أنّ الجيش الصهيوني غزا المناطق الفلسطينية ضارباً بعرض الحائط قرار الأمم المتحدة، وذلك قبل أربعة أشهر من دخول الجيوش العربية. ونكتفي هنا بمذكرات الإرهابي مناحيم بيغن (الذي أصبح رئيس حكومة اسرائيل عام 1977) حيث يقول: «قبل أشهر من الحرب، قمنا بغارات متتالية على المناطق العربية عام 1947 وكنّا نقول لضباطنا إنّ أي غارات نقوم بها لا تكفي للسيطرة على الأراضي. ولذلك وفي اجتماع قيادة الإرغون في كانون الثاني 1948، وضعنا أهدافنا الاستراتيجية: القدس – يافا – قطاع اللد الرملة – ومنطقة المثلّث نابلس جنين طولكرم، ما يعني كل الأراضي الصالحة للزراعة والسكن من فلسطين». لقد شكّك الانكليز عام 1947 بمقدرة التنظيمات الصهيونية على ضبط الوضع إذا حاول اليهود ابتلاع أراضي ومدن كبرى تسكنها أغلبية فلسطينية، فطمأنهم قائد عسكري إسرائيلي: «لا تقلقوا! سنقوم ببعض المجازر المحسوبة بدقّة ونتخلّص منهم قريباً». وكان هذا قبل خمسة أشهر من دخول الجيوش العربية.
بدأ هجوم منظمة «الهاغانا «(جيش اسرائيل الرسمي في ما بعد) على القدس في مطلع نيسان 1948، واحتلت حي القطمون العريق، وذلك قبل شهرين من دخول أي قوّة عربية.
يعني أنّ أي قوّة عربية لم تدخل فلسطين قبل 19 أيار 1948، ولكن بعد فوات الأوان وبعد مرور أربعة أشهر على بدء الغزو الصهيوني. فقد دخلت قوّة أردنية للدفاع عن القدس الشرقية ودخلت قوّة عراقية للدفاع عن المثلّث وأوقفت الصهاينة في جنين. ولم يحدث قط أن هاجمت قوّة عربية مناطق محسوبة للكيان اليهودي في قرار التقسيم.
رابعاً، من أكاذيب الصهيونية التي لاقت رواجاً وقبولاً في الغرب أنّ «اليهود كانوا عام 1948 مثل داوود الفقير والضعيف يواجه جوليات الفلسطيني العملاق والجبّار، وأنّ مليون اسرائيلي في فلسطين هزموا مئة مليون عربي، أي مجموع سكان العالم العربي من المغرب إلى البحرين». وفي الحقيقة أنّ اليهود امتلكوا حكومة جاهزة وأجهزة أمن وشرطة وجيشاً مسلّحاً ومدّرباً وعملوا ضمن خطة. فكان عديد الجيش الاسرائيلي عام 1948 70 ألفاً (الهاغانا 55 ألف جندي، البالماخ 3500 جندي، الإرغون 4000 جندي، ومجموعات مختلفة 7500 جندي). كما أنّ الصهاينة حصّنوا مستوطناتهم وأنشأوا خطوطاً عسكرية داخل فلسطين ولغّموا الطرق الرئيسية وأقاموا حواجز ودشم بلوكات اسمنتية وأكياس الرمل. وفي المقابل بلغ عديد الجيوش العربية أقل من 20 ألفاً (مصر 10 آلاف جندي والأردن 4500 جندي والعراق 3000 جندي وسورية 2000 جندي). أي أنّ القوات الاسرائيلية كانت أربعة أضعاف تقريباً حجم القوات العربية التي جاءت من مسافات تبعد مئات الكيلومترات ودخلت فلسطين بشكل عشوائي ومن دون أي تقنيات حديثة أو تنسيق. وكذلك فإنّ أي مواجهات عسكرية وقعت، كانت على أراضٍ منحها قرار الأمم المتحدة للكيان الفلسطيني وهاجمتها الجيوش الصهيونية لاحتلالها. فكانت الجيوش العربية قليلة العدد والتجهيز وتدافع عن مدن فلسطينية ولم تهاجم أي منطقة يهودية. أما الشعب الفلسطيني فكان أعزل السلاح، اعتمد على أسلحة فردية ولم تكن لديه حكومة ولا أي جهاز دولة.
خامساً، منذ 1948 دأبت الدعاوى الصهيونية على نشر الأكاذيب أنّ الفلسطينيين تركوا بلادهم من تلقاء أنفسهم وكرّرت وسائل الاعلام الغربية هذه الكذبة. لقد هاجمت عصابات «الإرغون» قرية دير ياسين غرب القدس بقرار من الهاغانا في نيسان 1948، وارتكبت مجزرة أفنت سكانها من أطفال ونساء وشيوخ (250 شهيداً) رغم أنّ دير ياسين اشتهرت كنموذج لحسن الجوار مع جيرانها المستوطنين اليهود. وبعد أسبوع هاجمت الهاغانا أحياء الفلسطينيين في مدينة حيفا فأخذ الفلسطينيون يفرّون بالآلاف ويصرخون «دير ياسين دير ياسين». وفي 25 نيسان، قبل شهر من دخول الجيوش العربية، هاجمت الإرغون مدينة يافا الفلسطينية السكان والمحسوبة ضمن الكيان الفلسطيني بحسب التقسيم، وطردت سكانها ولم يُسمح لهم بالعودة. واحتل الصهاينة الجليل الذي كان بدون دفاع ودخلت الهاغانا مدينتي اللد والرملة وأمرت السكان بالتجمّع خارج بيوتهم خلال نصف ساعة ثم أمرتهم بالمغادرة فوراً على الأقدام وصادرت أملاكهم وكل وسائل النقل.
وعندما انتهت الحرب العربية - الاسرائيلية الأولى كانت اسرائيل قد احتلت أكثر من نصف الكيان الفلسطيني الذي لم يُسمح له أن يولد، أي 25 بالمئة من مساحة فلسطين وضمّت ما نهبته إلى مساحة الـ54 في المئة التي منحها إياها قرار التقسيم. فأصبحت اسرائيل تستولي على 79 في المئة من أراضي فلسطين عام 1949. وبقي 21 في المئة من فلسطين خارج الاحتلال الاسرائيلي وتشرّد 700 ألف فلسطيني خارج ديارهم. ولم تكتفِ اسرائيل بما ابتلعته بل شنّت الحرب تلو الحرب فاحتلت الضفة وغزة عام 1967 وشتّتت الفلسطينيين من جديد حتى أصبحت كامل فلسطين تحت سيطرتها. ومنذ 1993 وطيلة 20 سنة من المفاوضات، فاوضت القيادة الفلسطينية اسرائيل لإقامة دولة فلسطينية وانهاء الصراع، فلم تتنازل اسرائيل مطلقاً حتى عن 10 في المئة من فلسطين، بل كثّفت استيطان الضفة التي نما عدد المستوطنين اليهود فيها من 50 ألفاً عام 1993، إلى 600 ألف عام 2012. ولم تغب عن ذهن الصهاينة أفكار تهويد كل فلسطين وطرد من صمد من الفلسطينيين من وطنهم أو على الأقل سجن الشعب الفلسطيني في مجمّعات سكنية لا مخرج منها سوى الهجرة القسرية.
الشعب الفلسطيني يقاوم اليوم نتائج 70 عاماً من الظلم والاستعمار الاستيطاني. ويجب على الجيل العربي أن لا يكتفي برسائل الدعم بل ترجمة الدعم بالتظاهرات في العواصم العربية والغربية والتبرّع بالمال والضغط على الحكومات العربية أن تقوم بعمل مشترك لنجدة فلسطين.
* أستاذ جامعي