من يتابع التصريحات الروسية، وخاصة منذ تنصيب بوتين رئيساً، فسيجد اختفاء أي دور لوزارة الخارجية السورية في الشأن السوري، مقابل توسع وتضخم دور وزارة الخارجية الروسية في الإعلان عما سيحدث في سوريا، أو ما يجب أن يحدث، ولا سيما على صعيد السلطة السورية! مقابل ذلك، على كلّ من يريد أن يعرف تحوّلات المعارضة السورية وتوجهاتها وإمكان اتحادها أو لا، أن يسمع ما يتحدث به موظفون صغار في وزارات خارجية دول تبدأ من تركيا ولا تنتهي في واشنطن ومؤسسات دولية متعددة.
ولفهم تعقيدات الوضع السوري إجمالاً، ومحاولة معرفة إن كانت الأمور تتجه نحو الحل أم نحو التعقيد، عليك إجراء تقاطع بين ما يصدر عن وزارات خارجية الجهة الأولى مع وزارات خارجية الجهة الثانية.
الطامة الكبرى، ليست في هول ما سبق فقط، بل في ترافق ما سبق مع خطاب سوري (سلطوي ومعارض) يجعل من السيادة الوطنية والحفاظ عليها، لازمة مبتذلة تتكرر في خطاب الطرفين. للوهلة الأولى، يبدو الأمر غريباً على نهج النظام السوري، الذي لطالما لقن خصومه دروساً في السيادة والاستقلال، وخاصة جاره اللبناني، معتبراً أنّ الساحة السورية هي أرضه الداخلية التي لم ولن يسمح لأحد بالتدخل فيها.
واستفاد النظام على مدى عقود طويلة، من قدرته على إقناع الآخرين بفكرة هذه السيادة، التي تلاطفت الدول الكبرى معه فيها ولم تنازعه عليها سابقاً، إذ كان تطرق دول ومؤسسات دولية مثل واشنطن والاتحاد الأوربي لوضع حقوق الإنسان في سوريا مثلاً، وهو موضوع عالمي ومتاح للتدخل الدولي، خطاً أحمر للنظام. وكان خصومه الذين لم يكونوا ينظرون للإنسان وحقوقه إلا من باب الاستغلال السياسي، يعودون راضخين دائماً، رغم أنّها سيادة لفظية لا أكثر ولا أقل، إذ كانت السياسة السورية منذ عقود تقوم على فكرة «تعاون بقدر الضرورة مع ممانعة بقدر المستطاع، اختبئ وانتظر حتى تهدأ العاصفة».
وتكاثفت هذه النغمة منذ بداية الانتفاضة حتى الآن، إذ بينما كان السفراء الغربيون يبيتون ليلتهم في حماه، ويتجولون في المدن السورية ويحضرون عزاءات الشهداء، كان الموقف الرسمي عدم المساس بالسيادة الوطنية! وكذلك الأمر حين وقّعت سوريا اتفاق المراقبين العرب وبعده اتفاق المراقبين الدوليين، كان تعليق السلطة أنّ سوريا لم توافق على شيء يمس بسيادتها، في الوقت الذي كان فيه المراقبون يجولون ويصولون في المدن السورية، وأيضاً في الوقت الذي لم تبقَ فيه أجهزة استخبارات إلا ونشطت في الداخل السوري، كما تشير تقارير منشورة في صحف غربية!
الحق أنّ السلطة السورية، لم يكن يهمها في يوم من الأيام السيادة ودواعيها، بقدر ما يهمها الحفاظ على ذاتها كسلطة، جاعلة من خطاب السيادة ذاك مجرد أداة، تهدف إلى تلوين الكلام وتزويقه لحرفه عن معناه الحقيقي، وهو أمر أصيل في إيديولوجية الحكم البعثي، إذ سنعثر دوماً على مفردات تتكاثر في الخطاب اليومي، فيما لا وجود فعلياً لها على أرض الواقع، بدءاً بشعارات البعث الشهيرة وليس انتهاءً بالممانعة والصمود والتصدي و«من أين لك هذا؟» والإصلاح والتحديث. وهذه كلها شعارات لا تحيل إلا على عكسها تماماً، لكنّها من جهة أخرى أدت الفعل المرجو منها في تخدير الجماهير ورسم فضاء ما، لا يجوز القفز فوقه. فضاء مقدس بشعارات يعرف الجميع زيفها، لكن لا أحد ينتهكها أو يشكك فيها، وهذا فعلاً ما كانت تريده السلطة السورية على مدى عقود، ولا تزال تفعل، وإلى هذا تحديداً ينتمي مفهوم السيادة الذي يكرره مسؤولو سوريا اليوم، دون أن يسأل أحد منهم نفسه: لماذا هذا الحج السوري إلى الباب العالي الروسي قبل كل لحظة تسبق صدور قرار ما من مجلس الأمن الدولي؟ ولماذا هذا الاستفزاز الروسي اليومي حول ما الذي يجب أن يحصل في سوريا، وما الذي لا يجوز أن يحصل؟
من جهة أخرى، يخضع مفهوم السيادة للابتذال ذاته على لسان بعض المعارضة، التي تستدعي دولاً أخرى للتدخل لتخلصها من نظام مستبد، معتبرة أنّ هناك تدخلاً محبباً (أنقرة ــ قطر ــ السعودية ــ واشنطن)، وتدخلاً مكروهاً (إيران ــ روسيا ــ الصين...). عدا صيغ ضبابية أثناء التطرق إلى المسائل الوطنية، مثل كيفية تحرير الجولان والعلاقة مع إيران وروسيا والمقاومة الوطنية وموضوع لواء اسكندورن. وكان قول المرشد العام للإخوان المسلمين رياض الشقفة خير تعبير عن تلك الضبابية، حين قال في حوار مع قناة دبي: «ما إلنا علاقة بلواء اسكندرون... هي من تقسيمات سايكس بيكو والوقت ليس مناسباً لبحثها الآن... كلها أرض واحدة... تركيا وسوريا وغيرها»، وكذلك قوله السابق «الشعب السوري سيقبل تدخلاً من تركيا أكثر من الغرب إذا كان الأمر يتعلق بحماية المدنيين... قد نحتاج إلى طلب المزيد من تركيا لأنّها جارة»، علماً أنّ المعارضة السورية كانت دوماً تتهم النظام السوري ببيع اللواء للأتراك والجولان للإسرائيليين، والارتهان لسياسات إيران في المنطقة! ليغدو مفهوم السيادة في عرف بعض المعارضة مفهوماً سياسوياً براغماتياً قابلاً للبيع والشراء، أي الوجه الآخر للنظام، فيما خطاب السياسة الحقيقي يمكن له أن يناور بأي شيء إلا بما يخص السيادة الوطنية والدولة السورية، وهذا ما يغيب عن فكر المعارضة، التي تفتقر إلى خطاب دولة بالمعنى الحقيقي للكلمة.
هنا، يغدو تنازل المعارضة عن سيادتها الوطنية (حتى قبل أن تصبح سلطة) شماعة تغذي أسطورة النظام نفسه حول السيادة، إذ يوجه النظام مصافّ الأمور باتجاه الرأي العام السوري (الذي يعترف به هنا فجأة) ليُظهر أنّ بديله هو معارضة مرتهنة للخارج، تفرط بالسيادة الوطنية، متناسياً تفريطه هو بها أيضاً!
نحن أمام سلطة جعلت من موسكو بابها العالي الحديث، وجزء من معارضة تعددت أبوابها العالية من الدوحة حتى الرياض وواشنطن وأنقرة، في الوقت الذي لا يزال فيه الشعب السوري المنتفض يثابر يوماً بعد يوم في درب الحرية الشاق والطويل، غير عابئ بسلطته ولا بمعارضته ولا بأبوابهما العالية أيضاً.
* شاعر وكاتب سوري