لا شك في أنّ انشقاق العميد مناف طلاس وانشقاق السفير نواف الفارس يشكلان ضربتين موجعتين للنظام السوري وكسباً للمعارضة السورية. لكنّها خسارة وكسب معنوي. فالعميد طلاس، بحسب مصادر، كان قد أُعفي منذ بضعة أشهر من مهماته في قيادة اللواء 105 في الحرس الجمهوري. وبالتالي انشقاقه لن يؤثر على القوة العسكرية العملانية لهذه الوحدة العسكرية، أقوى الوحدات العسكرية في النظام إلى جانب الفرقة الرابعة. إضافة إلى أنّ طلاس انشق بمفرده، لا على رأس لوائه. فهو لم يستطع، أو لم يعمل ربما، على الانشقاق مع عدد من الضباط الذين كانوا تحت إمرته أو غيرهم. أما السفير الفارس، فهو دبلوماسي وليس زعيم تيار سياسي. وهو ليس من الطبقة السياسية الأولى. لم يتبوأ يوماً مقعداً وزارياً ولا مقعداً نيابياً. وبالتالي وزنه السياسي وشبكة علاقاته داخل النظام ليستا بالحجم الذي سيؤثر سلباً على تماسك النظام. فارس أعلن من قطر انشقاقه وانضمامه إلى «صفوف الثورة». قد يكون انضمامه المحتمل إلى أحد المجالس أو الهيئات السياسية للمعارضة سهلاً، ولن يلقى اعتراض المعارضين. لكنّه لن يحقق «قيمة مضافة» تقوّي الجبهة السياسية المعارضة وتوحّدها في وجه النظام.
لم يصدر عن العميد طلاس أي إعلان حتى الساعة. وانضمامه إلى «صفوف الثورة»، دونه عقبات ومحاذير كثيرة. فهو، إذا ما تقرّر، سيشكّل مادة خلافية، تُضاف إلى الخلافات المتعدّدة التي لا تسمح بتوحيد المعارضة السورية، على الرغم من الضغوط العربية والدولية. إذ إنّ اللواء طلاس هو ابن العماد مصطفى طلاس وزير دفاع نظام حافظ الأسد وصديقه ورفيقه منذ المدرسة الحربية. شارك إلى جانب الأسد الأب في انقلاب 1966 الذي أوصل ضباط البعث إلى السلطة. ولم يعترض على عملية «تطهير» الجيش السوري من العديد من الضباط السنّة، ما فتح الطريق أمام الضباط العلويين إلى تبوّء المراكز الأساسية في المؤسسة العسكرية. شارك طلاس في انقلاب 1970 على صلاح جديد، الذي أوصل حافظ الأسد إلى رأس الهرم في سوريا. وجوده (كما وجود عبد الحليم خدام) في قمة السلطة، على مدى ثلاثة عقود، وفّر الغطاء السنّي لنظام الأسد «العلوي». كذلك شارك عملانياً في كافة حملات القمع التي قام بها النظام ضد معارضيه من إسلاميين وشيوعيين ووحدويين وغيرهم. وأهم هذه الحملات مجازر حماه في 1982. استمرّ طلاس «وفياً» لصديقه حافظ الأسد حتى بعد مماته. فهو أدى دوراً أساسياً في تسهيل انتخاب بشار رئيساً للجمهورية في 2000.
بقي طلاس الأب إلى جانب الأسد الابن، وساعده في توطيد سلطته داخل الطبقة الحاكمة. وكان (مع عبد الحليم خدام) ضد أي انفتاح سياسي في سوريا يمكن أن يهدّد النظام. ففي تصريح له اتّهم الناشطين في «ربيع دمشق» بأنّهم إسلاميون وينتمون إلى الإخوان المسلمين، الجمعية المحظورة في سوريا بحسب القانون 49 من عام 1980. بذلك وفّر، مرّة أخرى، الغطاء السياسي لحملات الأجهزة الأمنيّة على المعارضة باعتقال ناشطي المنتديات وزجّهم في السجون.
أما طلاس الابن، فكان أحد رموز نظام بشار الأسد وقريباً من الحلقة الضيّقة الحاكمة. كان صديقاً لماهر الأسد وعمل تحت إمرته في الحرس الجمهوري. وبالتالي اسمه مرتبط بالعديد من الممارسات الديكتاتورية التي قام بها النظام ضد معارضي «ربيع دمشق» و«إعلان دمشق» (2005 ـــ 2007). إضافة إلى أنّ شقيقه فراس طلاس هو أحد رموز الفساد في نظام بشار الأسد؛ إذ استفاد من الانتقال إلى اقتصاد السوق الاجتماعي ليجمع ثروة تقدر بمئات الملايين من الدولارات.
إن تاريخ آل طلاس إلى جانب عائلة الأسد لا يسمح للعميد المنشق بأداء دور في المعارضة السورية اليوم. وتجربة عبد الحليم خدام، منذ 2005، تؤكد ذلك. فعلى الرغم من انفصاله عن النظام قبل سنوات من اندلاع الثورة، وإعلان معارضته له، ومشاركته في تأسيس «جبهة الخلاص الوطني» في 2006، لا تعتبر الثورة أنّ خدام جزء منها. رفض أعضاؤها انضمامه إلى صفوفهم. كذلك رفض في الماضي العديد من المعارضين وجوده معهم في جبهة الخلاص الوطني، ما أدى إلى انفراط عقدها في 2009. وللاعتبارات نفسها، رفضت المعارضة السورية بكافة مكوّناتها التقارب مع رفعت الأسد، شقيق حافظ الأسد المنفي منذ منتصف الثمانينيات، الذي حاول تسويق نفسه حلاً وسطياً للأزمة، قبيل اندلاع الثورة.
ولنفترض أنّ مناف طلاس أعلن انضمامه إلى الثوار، فمكانه الطبيعي سيكون في صفوف الجيش السوري الحر. إلا أنّ رتبته العسكرية (عميد) لا تسمح له بأن يكون تحت إمرة العقيد رياض الأسعد، مؤسس الجيش السوري الحر وقائده. فهل يمكن أن يتخلى هذا الأخير عن القيادة؟ وهل سيقبل المقاتلون أن يأتمروا به؟ وهل يقبل الناشطون الذي يناضلون منذ ستة عشر شهراً ويتعرضون لحملات القمع والتنكيل والقتل والتشريد والاعتقال أن يكون مناف طلاس قائداً لجيش ثورتهم اليوم؟ وهل يقبل المعارضون السياسيون أن يجلسوا مع واحد من كبار ضباط بشار الأسد وابن أحد أكبر رموز نظام حافظ الاسد؟
البعض يرى أنّ هذين الانشقاقين يؤكدان السقوط القريب لنظام الأسد. والبعض يعطي موعداً قبل/أو نهاية العام الجاري. ويؤكد آخرون أنّ العديد من السياسيين والعسكريين لا يؤيدون النظام، لكنّهم لا يجرؤون على إعلان انشقاقهم خوفاً على عائلاتهم ومصالحهم. وفي الوقت نفسه، يؤكد هؤلاء سيطرة الجيش السوري الحر على 40 أو 60 أو 70% من الأراضي السورية! إذا كان صحيحاً ما يقولون، ألا يوجد أي من عائلات هؤلاء السياسيين ومصالحهم في المناطق التي تخضع لسيطرة الجيش الحر؟ وأين هي عائلات نواب حمص وحماه وإدلب ودرعا حيث تدور معارك ضارية يُثبت فيها الجيش الحر سيطرته على العديد من الأحياء والمناطق؟ أين هي عائلات المحافظين والضباط وكبار الموظفين من أبناء هذه المناطق؟ ولماذا لا يعلنون انشقاقهم عن النظام؟
نعتقد أنّ الكلام على قرب سقوط النظام السوري لا يعدو كونه «أمنية» لدى بعض الأطراف اللبنانية والعربية والأجنبية. فهو لا يزال متماسكاً سياسياً. مؤسساته العسكرية والأمنية، ركائزه الأساسية، لا تزال هي أيضاً متماسكة وموالية، والانشقاقات فيها لا تعدو كونها فردية. هذا التماسك هو سرّ صمود النظام السوري قبل الدعم الخارجي الروسي والصيني والإيراني والتسهيل العراقي للدعم المادي. الانشقاقان اللذان حصلا قد يشجّعان على انشقاقات أخرى في أوقات لاحقة. على الرغم من ذلك، لا يمكننا الكلام على بداية سقوط النظام قبل حدوث انشقاقات في الطبقة السياسية الأولى (من مستوى نائب رئيس ووزير) أو عسكرية على مستوى وحدات كبرى أو أمنية على مستوى رؤساء أجهزة، وقبل أن يُحكم الجيش السوري الحر سيطرته الكاملة على منطقة، كبيرة أو صغيرة، في الداخل السوري (ونشك في أن تسمح قدراته العسكرية اليوم بذلك) تكون نقطة انطلاق لعملياته العسكرية ضد الجيش النظامي، على غرار ما حدث في ليبيا. متى سيحدث ذلك؟ لا يمكننا التكهّن. لكن الأكيد أنّه بعد انشقاق العميد طلاس والسفير فارس، سيتخّذ النظام السوري تدابير أكثر تشدّداً في الرقابة الأمنية، وربما فرض الإقامة الجبرية على أبرز رجالاته تنفّذها الأجهزة الأمنية والعسكرية الممسوكة جيداً من قِبل عائلة الأسد وأفراد من الطائفة العلوية القريبين جداً.
في ظل إمساك هذه الحلقة الضيقة بمفاصل السلطة الأمنية والعسكرية، وأمام تحوّل الصراع إلى طائفي بنحو واضح، لا يبدو سقوط النظام قريباً! ولم لا يصمد حتى عام 2014 موعد انتهاء الولاية الثانية لبشار الأسد، وخاصة أنّ الدعم الروسي له قوي؛ لأنّه يتعدى مسألة قاعدة عسكرية على البحر المتوسط إلى عوامل جيو ـــ سياسية كبرى تتخطى الجغرافيا السورية؟
* باحث في شؤون الشرق الأوسط، أستاذ في جامعة الكسليك