العراق، هو البلد العربي الوحيد الذي يجاور مباشرة أو بنحو غير مباشر عدة أمم فعالة في تاريخ المنطقة، أي الأتراك والفرس والأكراد والأرمن والأذريين، ويجاور دولتين كبيرتين غير عربيتين هما إيران وتركيا. ومن الطبيعي أن تتأثر علاقات العراق وأوضاعه السياسية والاجتماعية سلباً وإيجاباً، بهذه العلاقات التاريخية التي أوجدت، بعد قرون من التفاعل والتعاملات، ما يسميه بعض الباحثين «الفَرْشَة الانثربولوجية» المنسجمة في الدول الثلاث إضافة الى إقليم الشام، تتساوق معها على الصعيد الحياتي شبكةٌ من التمظهرات الاجتماعية والثقافية المعبر عنها في تشابهات وتشابكات كثيرة في ميادين الفنون والآداب والعادات الاجتماعية والمذاهب الطائفية الدينية. وإذا قَصَرنا كلامنا على جيراننا الشماليين، نجد أنّ النُخَبَ العراقية والعربية عموماً تجهل الكثير عن تاريخ الجارة تركيا ما بعد الحرب العالمية الأولى. لعل أهم ما يجهله العراقيون والعرب هو سبب تلك الحساسية الخاصة التي ينظر بها الأتراك نحو قضية وحدة الأراضي التركية ومكانة الوطن التركي واستقلاله في الوجدان الجمعي للشعب التركي. في عِداد الأفكار الخاطئة التي يحملها العراقيون والعرب، وبخاصة ذوو التوجهات الأيديولوجية الإسلامية، هناك فكرة تذهب إلى أنّ الغرب «المسيحي» هو الذي دمّر الخلافة الإسلامية في زيها العثماني. وحتى يومنا هذا، يحتفل بعض الإسلاميين السلفيين، في بعض بلدان الخليج والمغرب العربي، بهذه المناسبة، فيلبسون السواد حزنا وحداداً على سقوط الخلافة العثمانية!
إنّ الواقع التاريخي، وخصوصاً وقائع سنوات سقوط السلطنة العثمانية، تكشف لنا عن حقائق معاكسة تماماً. إذ ولِدَت تركيا الحديثة في لهيب حرب مقاومة باسلة، عُرفت تاريخياً باسم «حرب التحرير التركية» قادها العسكريون الوطنيون الأتراك، وفي مقدمتهم مصطفى كمال، الذي لم يكن جمهورياً آنذاك بل مؤسساً لتنظيم «قوايي ملليّة ـ القوات الوطنية» في 1919. ويذهب الباحث د. عزيز العظمة، في كتابه المهم «العلمانية من منظور مختلف» (ص 136) إلى أنّ كمال كان مؤسسَ جمعية «الموحدون» وهدفها الرئيس «إقامة خلافة مستقلة عن السيطرة الأجنبية». كانت، إذاً، حرب مقاومة في مواجهة حروب التصفية والإلغاء التي شنتها دول الحلفاء، بهدف قضم وتفتيت الكيان التركي.
حين سقطت اسطنبول بيد الحلفاء، نقل مصطفى كمال ورفاقه مركز القيادة ومقر الجمعية الوطنية التركية الى مدينة أنقرة واتخذوها عاصمة لهم. هنا، بدأ شيخ الإسلام والخليفة العثماني ينشطان ويحرضان مدن الأناضول للانتفاض ضد مصطفى كمال وقيادته، وكانت الطائرات الغربية تلقي بمنشورات تحمل فتاوى شيخ الإسلام والخليفة التي أهدرت دم «الكافر» مصطفى كمال على المدن التركية! أما الخليفة ذاته فقد لاذ بحماية القوات البريطانية الغازية التي نقلته بعد ذلك إلى بارجة حربية بريطانية «جاعلاً من هذا الموقع العائم نقطة مرجع لمسلمي العالم» على حد تعبير الباحث د. عزيز العظمة. ومع ذلك، تعاملت القيادة الوطنية في أنقرة مع الخليفة كأسير ومختطف من قبل الغزاة، وأصدر مفتي أنقرة فتوى بضرورة تحرير الخليفة من الغربيين، لكنّ الخليفة اختار أنْ يضع نفسه تحت تصرف البريطانيين. حينها طالبت الجمعيةُ الوطنيةُ التركيةُ مجلسَ الشريعة بخلع الخليفة وتنصيب عبد المجيد الثاني مكانه بشرط توقيع الأخير على اعتراف بسيادة الجمعية الوطنية وبتنازله عن السلطة السياسية واكتفائه بالسلطة الروحية. فكان لها ما أرادت، وهكذا طويت صفحة الخلافة العثمانية وبدأ عصر الجمهورية التركية!
هذه الصفحة المهمة من تاريخ تركيا، تفسر لنا الحساسية الشديدة التي ينظر بها الأتراك الى موضوع وحدة واستقلال بلادهم، وهي حساسية يمكن تفهمها، ولكن ليس على حساب حق الأمم والشعوب في تقرير مصيرها، غير أنّ ما يُصَعِّب تفهمها هو جهلنا بها. أما الحساسية الأكثر خصوصية فهي في نظرة الأتراك نحو العرب، وتفسيرها سهل نسبياً. إذ كان «العرب» يقاتلون إلى جانب الحلفاء الغربيين ضمن ما يسمى قوات «الثورة العربية الكبرى» بهدف إنجاز «استقلال» البلدان العربية، فكان الأتراك ينظرون إليهم كخونة وغدارين طعنوهم من الخلف. وقد قاتل مصطفى كمال ذاته ضد الجيوش البريطانية وقوات «الثورة العربية» معاً في معارك حلب، وذاق مرارة أن يقاتل «عرب مسلمون سنّة» مع البريطانيين والفرنسيين ضده. وهناك استثناءات معاكسة نادرة منها: قاتلت ميليشيات فلاحية وعشائرية عراقية جنوبية، مؤلفة من عرب مسلمين أيضاً ولكن من طائفة أخرى هي الشيعية، إلى جانب القوات العثمانية بقيادة خليل باشا ضد الغزاة البريطانيين في البصرة، وخاضت معركة «الشعيبة» الشهيرة التي تكبد فيها البريطانيون خسائر فادحة ولكن نهايتها لم تكن لصالح العثمانيين وأنصارهم في الميليشيات العراقية. إنّ الخلاصة التي تحكم وضع العراق الجيوسياسي الاستراتيجي وعلاقاته مع إيران وتركيا، تقول إنّ العراق يجد في إيران بعض ما يريده ولا يجده في تركيا، لكنّه أيضاً يجد في تركيا بعض ما يريده و لا يجده في إيران. غير أنه يجد في البلدين بعض ما لا يريده هنا وهناك.
المجتمع العراقي تعددي ومركب من حيث مكوناته المجتمعية، وليس ثمة نظام حكم أجدر به وأنسب له غير النظام الديموقراطي العلماني الاتحادي النابع من خصوصياته الوطنية. لذلك، فإنّ النسخة التركية من نظام الحكم، خصوصاً إذا أضيفت إليها الصيغة الاتحادية، تكون هي الأنسب والأقرب لطبيعة المجتمع العراقي وليس نظام «ولاية الفقيه» الإيراني. ثم إنّ تطور تركيا الهائل في ميادين البناء والتنمية نموذج لامع يحتذى وقدوة جديرة بالدراسة والمحايثة وليس الاستنساخ. وعلى هذا، يمكن الأمل والعمل على أن تكون تركيا حليفاً وصديقاً للعراق على المدى القريب أو البعيد. لكنّ هذا الهدف ليس سهلاً، فتركيا المعاصرة ليست مستقلة تماماً في مواقفها الاستراتيجية لأنّها عضو مهم في التحالف الغربي المعادي لشعوب الشرق، أي الناتو، كما أنها صديق تقليدي لعدو العراق والعرب الأول إسرائيل.
ولعل أسوأ ما تفعله أية حكومة تركية هو أن تنجر لصراعات ساسة وزعماء الأحزاب الطائفية العراقية من شيعة وسنة وأكراد فتقف مع هؤلاء ضد أولئك وتحمي هذا من ذاك، مما يؤدي إلى ضرب مستقبل العلاقات على مستوى الشعبين. من ناحية أخرى، ليس للعراق مشاكل قديمة أو جديدة مع تركيا، فليس لتركيا أطماع في أراضِ عراقية، سوى مشكلة مياه الرافدين، وهذه يمكن حلها نهائياً بتوصل البلدين الى معاهدة منصفة وعادلة لتقاسم مياههما ضمن مبادئ القانون الدولي، وكل ما يقال عن أطماع تركية في محافظة نينوى مبالغ فيه ولا يهتم به الأتراك أنفسهم إلا لجهة التلويح بالتدخل لحماية المكون التركماني العراقي في حال تعرضه للقمع أو الاضطهاد.
إن حالة تركيا هنا، تعاكس حالة جار العراق الشرقي، فإيران لا تخفي مطامعها في أرض العراق ومياهه وقد احتلت فعلاً أراضي عراقية هي «حقل الفكة النفطي» قبل فترة، وهي تلاحق وتنازع العراق على مياهه وشواطئه، وانتزعت الضفة الشرقية من شط العرب رسمياً بموجب اتفاقية «الشاهنشاه ــ صدام» في الجزائر في 1975.
أما ما يريده العراق، وموجود لدى إيران، فهو عداؤها الجذري للدولة الصهيونية، ولا قيمة لتسفيه هذا العداء من قبل بعض الأطراف لأنّه في جوهره مزيج نفسي من الأحقاد العنصرية والطائفية المتبادلة بين القوميين المتطرفين من العرب والفرس. إنّ هذا العداء الإيراني للحركة الصهيونية ودولتها يمكن اعتباره ضمانة من ضمانات الحفاظ على الاستقلال الوطني العراقي، دون أنْ يعني ذلك أي تهاون أو تساهل مع التدخلات الإيرانية الاستفزازية المستمرة في الشأن العراقي وضرورة وضع حد نهائي لها.
*كاتب عراقي