تتعرّض الجزائرُ إلى ضغوط خارجية كثيرة تستهدف دفعَها إلى التدخل عسكرياً في شمال مالي للقضاء على الحركات الدينية التي تعتزم تحويلَه إلى إمارة إسلامية سلفية تطبق الحدود على «العصاة» وتزيل «مظاهر الشرك» بهدم المقامات والمزارات. وقد ازدادت هذه الضغوطُ إثر تبيُّن اندحار الحركة الوطنية لتحرير الأزواد، منذ إعلانها استقلالَ شمال مالي، أمام حركة أنصار الدين وحركة التوحيد والجهاد في إفريقيا الغربية (فقدان آخر مواقعها جنوبَ جاوو، في 11 حزيران/ يوليو 2012)، مما يعني تغيُّراً جذرياً لطبيعة الانفصال عن باماكو، إذْ لم يعد هدفُه دولةً طوارقية مستقلة بل إمارة إسلامية تلعب دور قاعدةٍ خلفية للمدّ السلفي في ساحل الصحراء ومجموع الغرب الإفريقي.وتمارِس هذه الضغوطَ على الجزائر منظمةُ دول غرب إفريقيا (CEDAO) وفرنسا، بالإضافة طبعاً إلى الطبقة السياسية المالية وهي ترى مدى عجز السلطة الانتقالية عن بسط نفوذها على الشمال بسبب ضعف شرعيتها وفقدان الجيش المالي قسماً كبيراً من أسلحته وعتاده وهو ينسحب منه أمام المتمردين.
وتخاف منظمة دول غرب إفريقيا أن يفشل تدخّلها عسكرياً في شمال مالي دون مساعدة جزائرية وأن تتحوّل المنطقةُ، بإخفاقه، إلى بؤرة تصدّر التمردَ الإسلامي إقليمياً، خاصة أنّ مشروعَ حركة التوحيد والجهاد في إفريقيا الغربية هو «إعادة أسلمة» كل هذا الجزء من القارة بمحاربة الوجود الأورو ــ أميركي فيه. أما فرنسا فتخشى ــ بالإضافة إلى آثار تقسيم مالي على مصالحها العسكرية والاقتصادية في هذا البلد ــ تداعياتِه في باقي بلدان الساحل، في النيجر القريب (وهو أحد أهم ممونيها باليورانيوم) وتشاد، الذي يُعد الركن الشرقي لـ«مملكتها الإفريقية».
وتقاوم الجزائر الضغوطَ الإفريقية والفرنسية باسم «مبدأ مقدس» هو رفضُ التدخل العسكري الأجنبي في بلدان الجوار حتى لو كان هدفُه «ضمان وحدتها الترابية»، وهو «مبدأ مقدس» آخر استندت إليه الدبلوماسية الجزائريةُ لرفض استقلال شمال مالي حالَ إعلانه في 6 نيسان/ أبريل 2012. وبطبيعة الحال، لا تفسّر المبادئ موقفَها بقدر ما تفسرُه معرفتها برمال هذه المنطقة المتحركة وهشاشة توازناتها السياسية والعسكرية والقبلية. هذه المعرفة ثمرةُ عقود من النشاط الدبلوماسي والاستخباري، بلغ أوجَه بلعبِ الدبلوماسيين الجزائريين أدوارَ وساطة في محادثات السلام بين باماكو وحركة الأزواد ربّما كانت ستُتَوج ــ لولا تفجر مستودع البارود الليبي ــ بحلّ يُخرج الطوارق من التهميش الاقتصادي والسياسي ويمنع تحوّل بلادهم إلى «أفغانستان جديدة».
وتخشى الجزائر أن يكون لتدخلها العسكري المباشر في شمال مالي (خاصة إذا لم يُحضَّر له بما فيه الكفاية) عواقبُ وخيمة عليها: اختطاف المنظمات الإسلامية المسلحة رعايا جزائريين آخرين (7 من موظفي قنصليتها في جاوو المالية اختطفوا في 5 نيسان/ أبريل 2012) أو رعايا أجانب على التراب الجزائري (3 أوروبيين اختطفوا في 23 تشرين الأول / أكتوبر 2011 من معسكر للاجئين الصحراويين بتندوف) وتعرُّضُها لهجمات إرهابية أخرى (بعد تفجير ثكنة للدرك الوطني في تامنراست، يوم 3 آذار/ مارس 2012).
ويبدو واضحاً أنّ هدفَ الجزائر في المرحلة الحالية ليس القضاءَ عسكرياً على جماعات إسلامية استطاعت ــ بسهولة نسبية ــ هزيمةَ منظمة عريقة كحركة التحرير الأزوادية بقدر ما هو تعزيزُ السلطة المركزية في باماكو. إذ لا مجال، من دونه، للحديث عن حلّ سياسي (أو عسكري) في شمال مالي، كما لا أمل من دون تعهد هذه السلطة بإنهاء تهميش إقليم الأزواد في إقناع سكّانِه بمحاسن «وحدة التراب المالي».
وبالموازاة مع سعيها إلى تعزيز الحكم المركزي في باماكو، تعمل الجزائر (باستعمال شبكة استخباراتها وربما أيضاً بمساعدة أعيان الطوارق الجزائريين) على إقناع زعماء قبائل شمال مالي والاستقلاليين الأزواديين بأنّ انفصال هذه المنطقة لا يعني اليوم شيئاً غيرَ تحولِّها إلى إمارة إسلامية ورهن حظوظها لمدة طويلة في مغادرة دائرة الفقر.
هذا الجهد الدبلوماسي والاستخباري يستهدف، كما نرى، محاربةَ السلفيين في شمال مالي بقوى محلية طوارقية تراها السلطات الجزائرية أقدرَ من جنود الـCEDAO والأطلسي على تقويض هيمنتهم، إذا وُفرت لها الشروطُ العسكرية اللازمة (تسليحها، وربما أيضاً تأطيرها، بعد التأكد من تخليها عن مطلب الاستقلال) وقُدّمت لها تنازلاتٌ سياسية كافية (حكم ذاتي حقيقي وتخصيص موارد كافية لتنمية الأزواد اقتصادياً).
* كاتب جزائري