ُثمة مشكلة جدية في النقاش الدائر اليوم حول الحراك في المنطقة. والمشكلة هنا لها وجهان: الأول هو صدور النقاش عن نخب لا تقيم كثير وزن للمعطى المعقّد الذي أفرزه الصدام بين النظم المافياوية المجرمة والشرائح التي سحقتها. والثاني هو أنّ الحساسية اليسارية الطارئة على وعي تلك النخب تجاه الديكتاتوريات، قد عطّلت أو تكاد حساسية أخرى (تجاه الإمبريالية التي ترعى المافيات الحاكمة) لا تقل شأناً عن سابقتها. في الشقّ الأول، تظهر النخب التي تصنع الخطاب الأيديولوجي وتعممه على الميديا العميلة لرأس المال قدراً لا بأس به من «السذاجة». وهي ليست سذاجة ناجزة إذا شئنا الدقة أكثر، لأنّها غالباً ما تأتي مسبوقة بخبث أيديولوجي رصين. مثلاً في سوريا تتعفّف النخبة تلك عن خوض نقاشات تطاول معاناة الشرائح التي توالي النظام (وهي ليست بالقليلة) على اعتبار أنّ نقاشات مماثلة ستأكل حتماً من رصيد «الثورة»، وتهزّ تماسكها الأيديولوجي الظاهري. طبعاً يتناسى هؤلاء أنّ رفاقاً لهم في اليسار قد أدانوا مجازر النظام وميليشياته بالقدر ذاته الذي أدانوا به جرائم «المعارضة الطائفية» المسلحة، ومن دون أن ينال ذلك من تماسك سرديتهم لما يحدث في البلد. طبعاً هذا جزء من التعقيد الذي ترفض السردية اليساروية المبتذلة مناقشته أو رؤيته حتى. وبدلاً من ذلك، ولكي تغطي عجزها عن مجاراة الواقع، تنساق إلى إجراء محاكمات أخلاقية دنيئة لكل من يرفض رؤية الصراع من منظور مغاير لمنظورها الاختزالي. والمؤسف هنا أنّ البطش النظامي الإجرامي الذي طاول بعض النخب اليسارية (علي فرزات وسلامة كيلة مثلاً) قد فاقم من عزيمتها على رفض أي محاولة للقول بأنّ الصراع الذي يدور على أرضنا إنما هو معقّد بعض الشيء، ويكاد يقع في منزلة بين منزلتين: فلا هو طبقي تماماً، ولا هو طائفي تماماً أيضاً، بل هو خليط من هذا وذاك. والمعضلة هنا أنّ الإقرار بذاك التعقيد من جانب النخب الرافضة له سيرتّب عليها لاحقاً التزامات لا طاقة لها عليها في الوقت الراهن. فأن تقرّ من موقعك المعارض بأنّ للصراع «بعداً طائفياً» يعني أن تكفّ عن تقريظ كل فعل مسلح مناوئ للنظام بحجة وبغير حجة، ويعني أيضاً أن تبادر إلى المماهاة بين «طائفية النظام» و«طائفية المعارضة»، إذ إنّك تعلم كيساري تمام العلم بأنّ «طائفية الطرفين» وظيفية، وبأنّ العنف الذي يصدر عن ميليشياتهما وظيفي أيضاً، حتى لو لم يبدُ لك الأمر كذلك. لقد طرأت تحوّلات جذرية على بنية الصراع في سوريا، ومن المضحك حقاً أن تستمر النخب المهيمنة على صناعة «الخطاب الثوري» بعنادها وبإعراضها عن رؤية الحفريات التي أحدثتها تلك التحولات في وعي السوريين لذاتهم ولبنيتهم الاجتماعية. ومن جملة ما يعرض هؤلاء رؤيتهم واقع التفكك الاجتماعي الذي بدا أنّ السوريين في المناطق الساخنة قد أدركوه لمجرد أنّ شريحة وازنة منهم قد اصطدمت بالنظام. ثمّة ما ينبئ بتكرار سيناريو حمص الدموي في كل المناطق المختلطة التي حسمت خياراتها (خيارات جماعاتها طبعاً) سلفاً. من هنا يبدو الحديث عن حراك مماثل في دمشق نكتة سمجة. لقد قلت ذلك مرة لرفيق(ة) عنيد(ة). لا يكفي في هذا الموضع أن تكون منحازاً إلى الثورة. فالانحياز لا يعني شيئاً إذا جرى توظيفه في بنية اجتماعية «متفسخة» وممسوكة فوقياً فحسب. عندما أتيت إلى دمشق في شباط الماضي كنت أحمل في داخلي «ضغينة حقيقية» تجاه المناطق التي بقيت إلى حينها بمنأى عن الحراك. بدا لي المشهد وقتها أقلّ تعقيداً مما هو عليه الآن، تماماً كما تراه النخبة اليساروية المتألمة من موقعها المتعالي: شخص آت من مدينة طرفية منتفضة ضد النظام ومتمزّقة اجتماعياً (أصبحت شبه مدمرة اليوم) إلى عاصمة ممسوكة أمنياً وتعيش إيقاعاً هادئاً ومطمئناً بعض الشيء. حتماً ستكون جرعة الحماسة لديه زائدة عن اللزوم وأكثر من أن تحتملها عاصمة تعيش «موالاتها» يوماً بيوم «ومن دون ادعاءات كبيرة». ليس ثمّة مؤشرات على تغير واضح في مواقفه الجذرية ضد النظام، إلا أنّ الواقعية النبيلة التي يتحلّى بها شخص كهيثم مناع قد وجدت طريقها إلى خطابه. لو قدّر للنخب اليساروية أن تجاري هيثم في ربع ما يذهب إليه، لما بقي عجزها عن اللحاق بالواقع عميقاً إلى هذا الحد. والواقع في سوريا أبعد من أن نحصره في حمص وإدلب ودرعا وحماة وريف دمشق ودير الزور و...اإلخ. هنالك أيضاً طرطوس والسويداء والرقّة والحسكة والقامشلي واللاذقية و...إلخ. طبعاً لا تستحضر المحافظات «الهادئة» هنا لتغليب وجهة نظر تقول بأنّ في سوريا موالين أيضاً، وبأنّ بالإمكان وضعهم في مواجهة السردية التي تحتكر النطق باسم الشعب لمجرد أن بعضه قد ثار. هذه رؤية تعسّفية تصادر الواقع، وتجاري النخبة في إعراضها عنه ولكن على نحو مقلوب، فتغضّ الطرف مثلاً عن الملاحقات الأمنية التي تطاول بين الحين والآخر في السويداء معارضين صودف أنّهم مناوئون للنظام ولبيئة «إكليريكية» حاضنة له وطاردة لمن يناصبه العداء في تلك المنطقة. أضف إلى ذلك تجاهلها التام لما حدث في الحفّة مثلاً من تهجير للأهالي لمجرّد أنّهم احتضنوا حالة مسلحة مناوئة للنظام ولبيئته الحاضنة. وكما في السويداء واللاذقية كذلك في الحسكة والقامشلي و...إلخ. هذه عيّنات فحسب عن وعي موال لا يزال يرفض بدأب وعناد منقطع النظير رؤية الصراع كما هو، لا كما تعيد إنتاجه ماكينة النظام الإعلامية الرديئة. لكن قدرة الماكينة النظامية على التلاعب بالوقائع ليست مطلقة ولا تصلح وحدها لتفسير اصطفاف الموالين إلى جانب النظام. هنالك في مكان ما حساسيات طبقية وطائفية ومناطقية، تأبى أن تغادر بسهولة اصطفافاً بدا لها من طول إقامته وكأنّه الطبيعة بعينها. هي ذاتها «الطبيعة» التي اختار أهل حمص مغادرتها (بعضهم مكرهاً طبعاً) عندما علّقوا العمل بلازمة «الأمن والأمان» ووضعوها جانباً. معنى ذلك أن «الطبيعة» لدى بعض السوريين ليست كذلك لدى بعضهم الآخر. والسبب في ذلك بسيط وواضح: «الطبيعة» هنا مصنوعة وليست فطرية، وصناعتها ذات أثر وظيفي واضح. ولأنّها وظيفية رفضتها حوامل اجتماعية بعينها، وقبلتها أخرى. الأمر إذاً مركّب قليلاً، ولا يحتمل مقاربة تعسّفية تجرّد الفرد من حساسياته المناطقية والطبقية والطائفية وتحيله إلى وعاء فارغ تستطيب النخب المعارضة والموالية ملأه بنفايات نظرية من قبيل: «شبيح» و«مندس» و...إلخ. وإذا اخترنا لهذا الوجه من مقاربة النخبة للواقع اسم العجز فماذا عسانا نسمي الوجه الآخر الذي ينافح عن الإمبرياليات الغربية (ولو عن غير قصد) ويدافع دفاعاً مستميتاً عن إخراجها جزئياً من الصراع إلى حين «إسقاط النظام»؟ لنقل إنّ إخراج هؤلاء للغرب الإمبريالي من الصراع لم يكن بلا ثمن. والثمن اليوم هو إدخال روسيا في صراعهم (لا صراعنا) ضد النظام. فروسيا اليوم كما يرطنون هي إمبريالية صاعدة تريد الحفاظ على مصالحها في المنطقة. ونظام الأسد بعد أن يعاد تأهيله صورياً، سيحفظ لها الحد الأدنى من تلك المصالح، وبذلك تكون قد كسبت نفسها وحلفاءها المرضوضين، لكن من دون أن تظهر بمظهر من يعاند تطلعات شعب بأكمله ويقف في طريق تحرره من العبودية. للوهلة الأولى تبدو هذه القراءة «متماسكة بعض الشيء» وتكاد تلبي نهم اللاهثين وراء المماهاة بين «الإمبرياليتين» الأميركية والروسية. لكن هل بات بالإمكان حقاً أن نضع في سلة واحدة رأسمالية دولة ناشئة وإن تكن مافياوية الطابع، وأخرى تقليدية ومتموضعة على امتداد العالم في شكل مراكز للإنتاج والتصنيع وأطراف للاستهلاك وتصدير القوى العاملة الرخيصة؟ الأرجح أن من يحاول فعل ذلك إنما يفعل بتأثير الدعم اللوجستي والعسكري الذي تقدمه روسيا للنظام هنا فحسب، إذ لا يوجد في طول العالم وعرضه اليوم من يقول بصيرورة الرأسمالية الروسية المافياوية الحاكمة إمبريالية ناجزة. وإلا فليدلني أحدكم على الأسواق الطرفية التي تدخّلت الذراع العسكرية الروسية فيها بغرض إغراقها بفائض الإنتاج الروسي! كان ممكناً أن يجاري المرء مقاربات يساروية مماثلة لو اكتفت بتوصيف الطابع المافياوي للرأسمالية المحلية في روسيا. فمثلاً جلّ ما فعلته هذه الطبقة النهّابة في السنوات الأخيرة أنّها تدخّلت عسكرياً في جورجيا و«سلمياً» في أوكرانيا لتجهض ما اعتبرته حراكاً غربياً في المجال الحيوي التقليدي لها. واللافت في الأمر أنّ تدخّلاتها هذه ليست موفقة تماماً، إذا ما كان التوفيق هنا يعني النجاح في فرض نسق جنيني من الإمبريالية. وهو ما لم يحصل حتى اليوم بدليل الاعتراضات المتزايدة على محاكمة يوليا تيموشينكو، وكذلك النقاش الدائر اليوم حول اعتماد اللغة الروسية لغة رسمية في أوكرانيا. عندما يتكلم الرفيق سلامة كيلة مثلاً عن إمبريالية روسيا لا يعرض لنا دلائل فعلية على كلامه، ولا يناقش الأمر من زاوية من يرغب في تفكيك بنية الرأسمالية المافياوية في روسيا اليوم. يبدو أنّ الموقف الأخلاقي من وقوف روسيا إلى جانب النظام سيفتح المجال من الآن فصاعداً لتأويلات سياسوية لا تعنى بتفكيك بنية النظام في روسيا ولا بتظهير إمبرياليته المزعومة، قدر اعتنائها بتظهير موقف منه يلائم تموضعاتها السياسية الجديدة. وهي تموضعات أخلاقية جداً إذا ما قيست بالموقف من بطش النظام، لكنّها تفتقر تماماً إلى الأخلاق عندما تبادر إلى رؤية الصراع الدولي من منظار موقفها ذاك. والموقف من روسيا هو بالضرورة موقف من الغرب الإمبريالي ومن تموضع الروس إلى جانب دول البريكس «في مواجهته». هذا أيضاً واقع متحرك ينبغي مقاربته في حركته لا في سكونه تماماً، كالواقع في سوريا الآن. لكن أن تكون ضد روسيا ومن معها في سوريا فذلك يصعّب عليك المهمة في الخارج. بعضهم حسم أمره وموضع ذاته في مواجهة روسيا داخلياً وخارجياً. وهؤلاء ينتمون إلى الجناح اليميني في المعارضة السورية بشقها «العميل» لرأس المال الدولي. أما الآخرون الذين يتأرجحون ما بين اليمين واليسار فلا يزالون مترددين في حسم موقفهم من الصراع بين روسيا والغرب. يخافون أن يضعوا بيضهم كله في سلّة روسيا قبل أن يحسم الصراع إما لمصلحتها في سوريا وإيران، أو لمصلحة الغرب. تبقى «النواة الصلبة» لليسار السوري. وأقصد بها تحديداً تجمع اليسار الماركسي ومن تبقى من هيئة التنسيق الوطنية. على هؤلاء اليوم أن يستفيدوا من عجز رفاقهم عن اللحاق بالواقع. بإمكانهم أن يكونوا «ضد روسيا في سوريا» ومعها في صراعها كرأسمالية ناشئة إلى جانب رأسماليات أخرى وطنية (البرازيل، جنوب أفريقيا، الهند، الأرجنتين ...إلخ) من أجل الحدّ من هيمنة الإمبرياليات الغربية على العالم. نحن معنيون بهذا الصراع، ليس من باب تغليب رأسمالية على أخرى، بل من أجل إبقاء التوازن قائماً في العالم ولو في حدّه الأدنى. ثمّة من يقول اليوم إنّ عودة التوازن إلى العالم ستعيد الحرب الباردة من الشباك بعدما أخرجناها من الباب. الذي يقول ذلك في سوريا وفي غيرها هو اليميني فحسب. أما اليساري الذي يتبنى مقولات مماثلة فليس إلا «عميلاً» لرأس المال. و«العمالة» ليست توبة. ولأنّها كذلك لن تستثنى من تصويبنا من الآن فصاعداً: فليسقط اليساري «العميل لرأس المال». * كاتب سوري