يعيش حزب الله أيّاماً صعبة تقلّ صعوبة عن أيّام حرب تمّوز الطويلة. الحزب لم يفق بعد من أكبر حرب تدميريّة شنّتها إسرائيل على تنظيم عربي بهدف إنهائه من الوجود، وبهدف تهجير سكّان جنوب لبنان لخلق عمق استراتيجي جديد وحماية العدوّ في شمال فلسطين. والحزب يعاني حصاراً مُحكماً فرضه عليه التحالف السعودي ــ الإسرائيلي الوثيق (لكن آل سعود لا يتمتعون بالشجاعة السياسيّة: أدانوا الحزب في تصريح معروف لمصدر «مسؤول» في بداية عدوان تمّوز على فرضيّة أنّ الحزب سيتعرّض للسحق، لكن هذا المصدر لزم الصمت عندما لم تجر أمور الميدان كما شاء الأمراء). رئيس الأركان الأسبق في جيش العدوّ انتقد خلفه في المنصب بعد عدوان تمّوز، وقال إنّ بحوزة إسرائيل خيار الحرب السياسيّة الداخليّة في لبنان ضد حزب الله، من دون الحاجة إلى شنّ الحرب الفاشلة. وبالفعل، فقد قام أعوان إسرائيل في لبنان (المتمثّلون بصفاقة في فريق 14 آذار) بحمل كلّ شعارات العدوّ في لبنان، كما كانت القوّات اللبنانية في سني الحرب ترفع شعارات تحصل عليها من راعيها الإسرائيلي مباشرة.والخطة ضد الحزب كانت ناجحة للغاية، وإن كابر الحزب في إنكار ذلك. قام إعلام آل سعود بالتوافق مع أميركا بشن حرب «سنيّة» الإعلان ضد الشيعة، وتصويرهم خارجين على الأمة العربيّة: حدث ذلك عندما اعتنق شمعون بيريز الإسلام السنّي، وقد قام مفتي مصر بإلباسه العمامة كي يؤم المصلّين في حيّ السيدة زينب. وبات صهاينة واشنطن أطرافاً في موقعة الجمل ويعتبرون أنّ كلّ أترابهم باتوا من حواضر الخلافة الإسلاميّة. لكن الحزب أصرّ على طريقته أنّه أفشل مخطّط الفتنة، فيما هو زاده استعاراً من دون قصد: قال حسن نصر الله في يوم 7 أيّار الشهير (إعلام آل سعود وآل الحريري يتعامل مع هذا اليوم _ ناقص مجزرة حلبا _ على أنه أفظع وأقسى وأسوأ من عدوان تمّوز نفسه) إنّ الفتنة السنيّة _ الشيعيّة قد وُئِدت، ورأى أنّ وليد جنبلاط هو عنوان الشرّ، في محاولة لتحييد الطائفة السنيّة عن مضاعفات ذلك اليوم. لكن الأمور جرت بصورة مختلفة تماماً: فقد استعان فريق السعوديّة بيوم 7 أيّار ليعيد إشعال الفتنة بصورة لم تعهدها المنطقة منذ قرون. وبدأت السعوديّة بالحملة متوافقة مع أميركا وإسرائيل من أجل تقويض دعائم مقاومة إسرائيل في المنطقة العربيّة (نذكر أنّ أنصار محمد دحلان، الذي كان لا يخاطب الجهمور في غزة إلا من وراء ستار من الأطفال والنساء بغية التمترس، على طريقة العدوّ في استعمال الدروع البشريّة، كانوا يصرخون بوجه حماس أنّهم شيعة). لجأ حزب الله إلى سياسة يتّبعها دائماً في الملمّات اللبنانيّة والعربيّة: الصمت المطبق. ظنّ الحزب أنّ سياسة عدم الانسياق إلى مهاترات مذهبيّة وطائفيّة من قبل دعاة الفتنة هي كافية لإبعاد الفتنة، وكأنّ الطرف الآخر يكتفي بالسجال لخوض النزاع. لكن الصمت نجح في تفعيل خطاب الفتنة ودعايتها إلى أن أصبحت المذهبيّة عقيدة سائدة في أكثر من دولة عربيّة. ماذا غير خطاب المذهبيّة _ أكثر من أموال مقرن _ نجح في إقصاء أكثر من 70% من السنّة في لبنان عن خط مقاومة إسرائيل؟
لكن الأزمة السوريّة عزّزت أزمة حزب الله مع جمهوره العربي. كان الحزب منساقاً في التهليل للانتفاضات العربيّة في بداياتها، ويبدو أنّه صدّق تأكيد بشّار الأسد في مقابلة باتت رمزيّة مع «وول ستريت جورنال» استفاض فيها في تحليل أسباب عدم وصول الانتفاضات إلى سوريا. وكان الحزب في هذا قريباً من خط الجمهور العربي الذي كان يناصر الانتفاضات إلى أن هبّت الثورة المضادة وتولّى الناتو عمليّة «تحرير» ليبيا. لكن الانتفاضات وصلت إلى سوريا وانتفض الشعب السوري بعفويّة في البداية، وهنا بدأ الحزب بالتعثّر والتخبّط.
قبل إجراء تقييم لأداء الحزب في الموضوع السوري، لا بدّ من تأكيد بعض الحقائق:
أولاً، إن علاقة الحزب بالنظام السوري مرّت في مدّ وجزر، والنظام منذ أيّام موسى الصدر فضّل حركة أمل على منافسها الشيعي. وحتى في انتخابات 2005، كان النظام يتدخّل لتعزيز تمثيل الحركة على حساب الحزب. وقد تعرّض عناصر الحزب للتنكيل والاعتقال والاضطهاد والقتل على يد النظام عبر السنوات (يردّد خبراء 14 آذار مقولة إنّ النظام السوري هو الذي أسّس حزب الله _ لكن خبراء 14 آذار غير معروفين بسعة إدراكهم).
ثانياً، لا يجب بالضرورة نسبة تحالف الحزب مع النظام السوري إلى دوافع مذهبيّة. لو كان نظام شافيز أو نظام شيوعي أوروبي أو آسيوي يمدّ الحزب بالمعونة والدعم، لكان الحزب حليفاً له أيضاً. هذا من دون نفي تأثير هذا البعد في عصر ضخ الفتنة المذهبيّة من لدن آل سعود وأعوانهم الكثر، على الأقل على نطاق الجمهور العريض للحزب.
ثالثاً، إنّ التحالف المُضاد للنظام السوري يجعل من إمكان انضمام الحزب إليه أمراً مستحيلاً، وخصوصاً في ظل الرعاية القطريّة _ السعوديّة _ الأميركيّة. لو أنّ الحزب قرّر، مثلاً، أن ينضم إلى فريق «أصدقاء سوريا»، هل كانت أميركا والسعوديّة ستسمحان له؟ أي إن الحكم على الحزب من قبل خصومه وأعدائه يخضع لمعايير الاستحالة: هو مُدان في عدم الانضمام إلى صفّها، وهو أيضاً ممنوع من الانضمام لو شاء.
رابعاً، هل تركت المعارضة السوريّة مجالاً للحزب كي ينضم إلى صفّها فيما هي تجاهر بمماشاتها لخط التحالف السعودي _ القطري _ الأميركي _ الإسرائيلي، وباستفزاز الحزب ونشر الأكاذيب عنه والتحريض عليه؟
خامساً، إنّ الخطاب المذهبي لقيادة الإخوان في سوريا وأفعال عصابات الجيش السوري الحرّ على الأرض في سوريا لا تتيح للحزب إمكان التحالف إطلاقاً.
سادساً، يجوز التساؤل عن موقف الحزب وعن نيّاته لو أنّ المعارضة السوريّة برمّتها اعتنقت عقيدة مقاومة إسرائيل، لكن ذلك لم يحصل. على العكس، فإنّ المعارضة بدأت بالتطبيع مع العدوّ قبل أن تصل إلى السلطة.
سابعاً، هناك نفاق أكيد في الحكم على موقف الحزب. كانت معارضة الإخوان السوريّة وباقي أدوات قطر والسعوديّة في المعارضة تنتهز الفرصة كي تصوّب نحو الحزب بمجرّد أن خرج الناس في تظاهرات في سوريا، كذلك فعل الإعلام السعودي والقطري. أي إنّ النيّة كانت مبيّتة، وكان هناك إصرار على إقحام الحزب في القتال الدائر في سوريا (وليس خطف الحجّاج إلاّ وسيلة في هذا الإطار). لا يتطرّق خطاب المعارضة السوريّة الخارجيّة (الإخوانجيّة) مثلاً إلى الدعم القوي والمبتذل الذي يعبّر عنه إعلام حركة «أمل» تجاه النظام السوري، بمناسبة وبغير مناسبة. ولماذا يتم تجاهل مواقف الدعم الصريح من حركات ومنظمات غير شيعيّة في لبنان للنظام السوري؟ الغرض الطائفي _ المذهبي لدى فريق أدوات الأمير مقرن لا لبس فيه. وكان ملحوظاً أنّ الدعم الذي قدّمته حركة حماس للنظام السوري (بطرق مختلفة، وعبر تصريحات موثّقة) لم يؤدِّ إلى انتقادات من قبل المعارضة السوريّة الخاضعة لأجندة الإخوان المذهبيّة. وحتى الساعة، تقوم حركة حماس باتخاذ موقف زئبقي حيال الأزمة السوريّة، تبدو فيه كأنّها تنتظر خروج المنتصر لإعلان تأييدها له (موضوع حماس يحتاج إلى مقالة منفصلة). لا تتعرّض حماس للنقد لأنّ غرض الفتنة المذهبيّة لا يسري هنا: وتصريح عام واحد لإسماعيل هنيّة في القاهرة عُمّم في كلّ أرجاء الإعلام السعودي والقطري وكأنّه يمثّل موقفاً قويّاً ضد النظام السوري.
لكن كل هذه الظروف لا تفسّر موقف الحزب من الأزمة السوريّة. ويتّسم هذا الموقف بعدة إشكاليّات:
أولاً، كيف يمكن الحزب أن يبني موقفه من النظام بناءً على الموقف من دعم المقاومة، فيما يحق للشعب السوري الاعتماد على أكثر من شرط أو عامل في الحكم على النظام؟ إنّ منظمة التحرير الفلسطينيّة بنت تحالفاتها في الحرب الباردة مع الأنظمة الشيوعيّة مُتجاهلة إرادة الشعوب هناك، مما أدّى إلى تحوّل تلك الشعوب إلى معاداة القضيّة الفلسطينيّة بعد إسقاط تلك الأنظمة، ومن دون كسب مادّي عسكري حقيقي _ أصرّ الاتحاد السوفياتي على عدم تحقيق العرب للنصر، هذا لو أرادت الأنظمة العربيّة آنذاك النصر. هل سيؤدّي موقف الحزب إلى نفور الشعب السوري من قضيّة المقاومة؟ إذا حصل ذلك، فإنّ الحزب يُلام جزئيّاً فقط. لا يمكن الحزب أن يلمّح من خلال موقفه إلى أنّ الشعب السوري على عكس النظام لا يؤيّد المقاومة، لأنّ في هذا إهانة للشعب السوري ومشاعر داعمي المقاومة فيه.
ثانياً، صحيح أنّ الحزب هو جزء من تحالف إقليمي يضمّه إلى جانب النظام السوري، لكن أجندة الحزب هي أكبر من قضيّة نظام، حتى وإن كان النظام مجاوراً. إنّ مشروع المقاومة أكبر من أي نظام عربي ومن أي حزب عربي.
ثالثاً، ليس الحزب عرضة للنقد من الإدارة الأميركيّة أو الحريريّة السياسيّة في الموقف من الانتفاضات العربيّة. يجول جيفري فيلتمان منذ اندلاع الانتفاضات العربيّة على وسائل الإعلام العربيّة ويندّد بعدم الانسجام الأخلاقي والسياسي في الموقف الإيراني من الانتفاضات لأنّ النظام الإيراني يؤيّد انتفاضة مصر وتونس والبحرين فيما يستنكف عن تأييد انتفاضة سوريا. لكنّ فيلتمان لا يتعرّض للمساءلة في وسائل إعلام أمراء النفظ والغاز: ليس هناك من يواجهه بالقول إنّ النقد ينطبق على إدارته التي تؤيّد الانتفاضة في سوريا، وتقف ضدّها في مصر وتونس والبحرين وعمان والقطيف. لكن الحزب يقع في العثرة نفسها: فهو يؤيّد من دون تحفّظ الانتفاضة في البحرين ومصر، لكنّه يجد شتّى المقولات والحجج والذرائع كي يقف ضد أي معارضة أو احتجاج ضد النظام في سوريا. ليس هذا فقط، فمن الملاحظ أنّ لهجة الحزب حول الانتفاضة البحرينيّة قد خفتت، لأنّ الحزب يعلم أنّ كلامه عن البحرين سيوضع في خانة المؤازرة الطائفيّة. وإعلام «المنار» لا يساعد في نفي التهمة. ما معنى أن يظهر المدعو سالم زهران على شاشة «المنار» ويتحدّث عن محور المقاومة الممتدّ _ برأيه _ من الجنوب اللبناني مروراً بسوريا والعراق وإيران؟ (وأصرّ زهران في حديثه على أنّ جون ماكين هو يهودي بينما هو مسيحي، في المناسبة)؟ كيف دخلت حكومة العراق التي أتت بمباركة المُحتلّ في منظومة المقاومة، إلاّ إذا كان تعريف المقاومة وفق زهران هو تعريفاً مذهبياً محضاً؟ نوري المالكي لم يعبّر عن أي دعم للمقاومة في عدوان تموّز، لا بل إنّه كان خليل إدارة بوش آنذاك.
وقد أصدر حزب الله قبل أيّام بياناً رسميّاً عشيّة اعتقال الشيخ نمر النمر في السعوديّة، لكن بيان الحزب كان لطيفاً وناشد بتهذيب السلطات السعوديّة الإفراج عنه، ودان الإساءة إلى المقامات الدينيّة. حسناً، لكن هل أصدر الحزب بياناً واحداً ضد الاعتقال التعسّفي الذي طاول الآلاف من أبناء سوريا وبناتها عبر الشهور؟ هل عبّر الحزب مرّة واحدة عن تعاطفه مع الشعب السوري، حتى لو أراد الحزب _ وعن حقّ _ أن يدين المحور السعودي _ الإسرائيلي _ الأميركي _ القطري الذي انضوت تحته معارضة الخارج السوريّة؟ والشيخ النمر نفسه كان قدوة في التعبير عن الموقف من الظلم: وله خطبة على «يوتيوب» يدين فيها الظلم بصرف النظر عن الهويّة الدينيّة والطائفيّة للظالم أو للمظلوم، وقد دان في تلك الخطبة النظاميْن البحريني والسوري بالاسم. هذا هو الموقف المُنسجم الذي كان البعض يتوّقعه _ أو يتوجّسه _ من حزب الله.
رابعاً، ماذا سيكون مصير مشروع المقاومة لو اكتفى حزب الله بوضعه الحالي حيث نجحت الدعاية السعوديّة _ الحريريّة في دفعه إلى زاوية التمثيل الطائفي (وتحالفه مع التيّار الوطني الحرّ لا ينفي الصفة الطائفيّة لأنّ التحالف ليس بين قوى علمانيّة، ولأنّ جمهور التيّار سيميل أينما مال الجنرال عون، مع المقاومة أو ضدّها، مثلما مال الجمهور الحريري، مع المقاومة ثم ضدّها بعد 2005 _ «ليلى على دين قيس فحيث مال تميلُ، وكلّ ما سرّ قيساً فعند ليلى جميلُ»)؟ هل سيقبل الحزب بوضعه في خانة التمثيل الطائفي الضيّق؟ وهل سيضعف هذا من شعبيّة مشروع المقاومة في العالم العربي؟ لا يبدو أنّ الحزب يحسن مقاومة الصيغة التي أرادت السعوديّة وإسرائيل إلصاقها به وبشخص زعيمه: أنّه حزب ينحصر في طائفة واحدة في لبنان تتمتّع بتحالفات إقليميّة ذات صبغة مذهبيّة. الحزب كان يمكنه أن يستغلّ انطلاق الانتفاضات العربيّة من أجل أن يصبح حزب مقاومة وتمرّد في كل العالم العربي، كي يخرج من الأسر الطائفي.
خامساً، طبعاً، ليس من السهل على الحزب فك تحالفه مع النظام السوري. الحزب مُحاصر من إسرائيل وحلفائها العرب، ونصف الشعب اللبناني حليف قوي ووقح للعدوّ الإسرائيلي (كل من يبدأ جملته في لبنان بعبارة «إنّ إسرائيل عدوّ» هو حليف وثيق لإسرائيل ويريد من خلال العبارة الاستهلاليّة التغطية على اعتناقه لعقيدة إسرائيل في المنطقة العربيّة). البحر يخضع لمراقبة من قوّات متحالفة مع إسرائيل، والعدوّ متربّص ببرّ لبنان وبجوّه، والحزب لا منفذ له إلا في تلك المناطق من سوريا التي لا تخضع لقوات الجيش السوري الحرّ ولا للقوات اللبنانيّة الحريريّة والسلفيّة والمتحالفة معه. إنّ المقاومة تحتاج إلى إمداد مُستمرّ من السلاح والعتاد في مواجهة عدوّ يملك أكبر ترسانة من السلاح التقليدي وأسلحة الدمار الشامل في كل المنطقة. وهذه الحاجة إلى المعبر السوري تحكم مسار موقف الحزب من النظام. لكن الحزب لم يجاهر بذلك، ولو فعل لكان الجمهور العربي العام قد تفهّم (أو لم يتفهّم) عاملاً مهماً (وغير طائفي) في العلاقة.
سادساً، لنفترض أنّ الحزب قرّر باكراً اتخاذ موقف الداعم للمعارضة السوريّة، هل كانت قوى تلك المعارضة (خصوصاً الخارجيّة الخاضعة لنفوذ الإخوان والسعوديّة وقطر وأميركا) ستبادل الحزب بالدعم وباعتناق خط المقاومة وبالمجاهرة بتأييد الحزب في سياساته؟ لا، بالتأكيد. إنّ موقف الإخوان ومَن لفّ لفّهم، وموقف العصابات المنضوية تحت عنوان الجيش السوري الحرّ، كان محسوماً سلفاً ومُتناسقاً مع مصلحة الدعاية الإسرائيليّة التي تتقاطع مع موقف قطر والسعوديّة. والدليل أنّ نقد حزب الله واتهامه بمناصرة النظام السوري لأسباب محض مذهبيّة (وكأنّ تلقّي العون العسكري غير ذي بال للحزب) صدر في الأيّام الأولى من الانتفاضة، عندما كان موقف الحزب لا يختلف عن موقف حماس، مثلاً. لو أنّ الحزب قرّر دعم الانتفاضة السوريّة، لكانت المعارضة السوريّة الخارجيّة قد طالبته بإرسال مقاتلين لدعم الجيش السوري الحرّ، ولكانت قد انتقدته لو تمنّع عن ذلك. إنّ أجندة المعارضة الخارجيّة والجيش السوري الحرّ مُقرّرة سلفاً: وهما أصرّتا منذ بداية الأزمة على أنّ هناك متطوّعين من حزب الله ومن «جيش المهدي» (وجيش المهدي يتمتّع بكفاءة قوّات تيّار الحريري في موقعة 7 أيّار) ومن الحرس الثوري الإيراني. لم تتم، مثلاً، الإشارة إلى عناصر درزيّة أو سنيّة مؤيّدة للنظام في لبنان، وذلك لأنّ الغرض المذهبي _ الصهيوني يريد عزل الحزب عن صورة المقاومة. لهذا، فإنّ نقد موقف الحزب من قبل 14 آذار السوريّة أو اللبنانيّة يفتقر إلى الصدقيّة، وخصوصاً أنّ 14 آذار السوريّة لم تنتقد التقارب قبل سنتيْن بين سعد الحريري والنظام السوري (وهذا ليس بالمستغرب خصوصاً إذا ما استعدنا مرثيّة ياسين الحاج صالح عن رفيق الحريري).
سابعاً، إنّ إشكاليّة العلاقة بين المقاومة والطائفيّة التي تسم عقيدة الحزب وتركيبته الاجتماعيّة تتفاقم. طبعاً، استطاع الحزب أن يمثّل تجربة فذّة في مقاومة العدوّ (وفي رصده ومكافحة تجسّسه وإرهابه) _ وهذه التجربة تفوّقت على كلّ تجارب مقاومة إسرائيل العربيّة، كما أنّها تُعدّ من أفضل تجارب مقاومات الاحتلال العالميّة _، لكنّه خلافاً لتجارب تاريخيّة في المقاومة، لم يستطع أن يحوز السلطة السياسيّة التي سقطت في يد كل المقاومات العالميّة. إن ّعدم تنوّع التمثيل الطائفي للحزب يمنعه من التقدّم نحو الاستيلاء على السلطة ويضعه في موقع الضعف والتردّد في الشأن الداخلي اللبناني.
ثامناً، كان يمكن الحزب أن يناصر، من موقعه، النظام السوري مع احترام رغبات الشعب السوري _ أو بعضه على الأقل _ ومع احترام ضحايا نيران النظام السوري. لم تبدر عن الحزب إشارة احترام لإرادة قطاعات كبيرة من الشعب السوري، وهي تعارض مشيئة الحزب والنظام السوري. أكثر من ذلك، يتجنّب الحزب في خطب حسن نصر الله أي نقد لأنظمة الخليج الرجعيّة، لكن نصر الله ساجل قيادة المجلس الوطني السوري _ على علاّت ذلك المجلس. كان من الأفضل لو أن نصر الله توجّه بالكلام إلى قيادة السلالة السعوديّة والقطريّة التي تسيطر بالكامل على مقدّرات المجلس هذا. وعندما ذكر نصر الله في خطاب له ما يجري في حمص، ذكر أنّ مصادره أخبرته أنّ «لا شيء» في حمص، مع أنّ ضحايا من المدنيّين ومن غير المدنيّين كانوا يسقطون في حمص _ ولا يزالون.
إنّ الحرب على الحزب كحركة مقاومة (لأن الجوانب الأخرى للحزب لا تعني أعداءه، لا بل إنهم يستحسنوها) تستمرّ بطرق مختلفة منذ وضعت حرب تموز أوزارها. كلّفت أميركا وإسرائيل النظام العربي الرسمي الاستمرار بالحرب بطرق مختلفة مذّاك. والحزب لا يحسن الحرب الدعائيّة إلا ضد العدوّ الإسرائيلي، فيما يعتري أداءه على الساحة العربيّة الكثير من الارتباك ومن الترددّ ومن الصمت المطبق _ وهذا من أسوأ وسائل الدعاية السياسيّة. لكن الحزب يتعامل مع النظام السوري الظالم والقمعي وكأنّ آل الأسد باقون في السلطة إلى الأبد. لا يمكن الحزب أن يستمرّ بمشروعه الكبير (المُتعلّق بالمقاومة، لأنّ مشروعه السياسي الداخلي في لبنان يبدو أنّه لا يختلف عن المشروع السيّئ لحركة أمل) من دون حالة من الودّ والتقارب مع الشعب السوري _ أو معظمه. إنّ موقف الحزب من الأزمة السوريّة ضعيف أخلاقيّاً، ومفيد لأعداء المقاومة. للحزب أسبابه في الدفاع عن النظام في أزمته الوجوديّة، لكن أولاد درعا يستحقوّن من الحزب دمعة على أقل تقدير.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)