هبّت عاصفة سياسية إثر التصويت على بعض القوانين في المجلس النيابي خلال الجلسة التشريعية الأخيرة، ولا سيما التصويت على القانون المتعلق بتثبيت جباة مؤسسة كهرباء لبنان، ما حمل البعض على المطالبة بضرورة إعادة التصويت على ذلك القانون؛ لأنّ النتيجة كانت 42 مع و40 ضد؛ إذ لم يتأخر الرئيس بري بالرد بقوله: «من يطالب بإعادة التصويت على القانون فهو واهم».
والموضوع المطروح بحثه هو «هل يجوز إعادة التصويت على القوانين بعد إعطاء نتيجة التصويت في البرلمان أم لايجوز ذلك؟». بطبيعة الحال، إنّ الدستور والنظام الداخلي يحددان ذلك، لا المواقف السياسية.
نصت المادة الـ 36 من الدستور على ما يأتي: «تعطى الآراء بالتصويت الشفوي أو بطريقة القيام والجلوس، إلّا في الحالة التي يراد فيها الانتخاب فتعطى الآراء بطريقة الاقتراع السري، وأما في ما يختص بالقوانين عموماً أو بالاقتراع على مسألة الثقة، فإنّ الآراء تعطى دائماً بالمناداة على الأعضاء بأسمائهم وبصوت عالٍ». ثم جاء النظام الداخلي للمجلس النيابي ليدخل في تفاصيل كيفية التصويت من خلال المواد 77 حتى 88، إذ أكدت المادة الـ81 ما يأتي: «يجري التصويت على مشاريع القوانين مادة مادة بطريقة رفع الأيدي، وبعد التصويت على المواد يطرح الموضوع بمجمله على التصويت بطريقة المناداة بالأسماء». تبعاً لذلك، نسأل: هل نصّ النظام الداخلي للمجلس على أسباب تستدعي إعادة التصويت؟ لقد حددت المادة الـ 88 من النظام الداخلي ما يأتي: «إذا حصلت شبهة حول أي تصويت جرى بطريقة رفع الأيدي وطلب خمسة نواب على الأقل إعادة التصويت، وجب إعادته وإجراؤه بطريقة القيام والقعود أو بطريقة المناداة بالأسماء».
من دون الدخول في تفاصيل ما حصل في الجلسة النيابية، يمكننا الاستنتاج أنّ من المفترض أنّ التصويت حصل وفق المادة 81 من النظام الداخلي، أي التصويت بطريقة المناداة بالأسماء، وعليه تحتجب إمكانية المطالبة بتطبيق نص المادة 88 الآنفة الذكر التي في حال توافر شروطها، كان يقتضي طلب ذلك (إعادة التصويت) أثناء الجلسة (التصويت على بنود القانون برفع الأيدي)، لا بعد الانقضاء وفقاً لمنطوق المادة 88 أعلاه. لهذه الأسباب يُعَدّ التصويت الذي حصل صحيحاً (طبقاً لأحكام المادة 81 أي بالمناداة بالأسماء، لا برفع الأيدي) ولا تشوبه أي مخالفة دستورية أو مخالفة للنظام الداخلي، كي يطالب بإعادة التصويت عليه.
لكن إذا كان المقصود بطلب إعادة التصويت تمكين بعض النواب من العدول عن تصويتهم السابق، فهذا بحث يقتضي شرحاً آخر؛ إذ إنّ النائب عند ممارسته حقوقه الدستورية (تصويت في الهيئة العامة ــ طعن أمام المجلس الدستوري) إنما يمارس تلك الحقوق بصفته العامة، لا بصفته الشخصية. وعندما يقوم بذلك لا يعود بمقدوره الرجوع عن خياره. ذلك ما أكده المجلس الدستوري في قراره رقم 2/1995 تاريخ 25/2/1995، عندما قرر بعض النواب سحب تواقيعهم عن صحيفة الطعن بدستورية قانون بموجب كتاب وجّه إلى المجلس الدستوري. فقد قرر يومها ما يأتي: «حيث إنّ أصحاب الحق في المراجعة أمام المجلس الدستوري عندما يستدعون ابطال أحد القوانين بسبب عدم دستوريته، يقومون بممارسة حق دستوري ممنوح لهم بصفتهم العامة. وحيث إنّه ليس لمثل هذه المراجعة طبيعة الخصومة الشخصية. وحيث إنّ هذه المداعاة الناشئة عن تكليف دستوري غير قابلة للرجوع عنها بعد تسجيلها القانوني لدى المجلس الدستوري». استناداً إلى ذلك، رفض المجلس الدستوري سحب تواقيع النواب، ليؤسس بذلك اجتهاداً رائداً طبّقه المجلس الدستوري الفرنسي بعده بسنوات.
إنّ ما ينطبق على عدم جواز سحب التوقيع للنائب عند ممارسته حقاً دستورياً، إنما ينسحب أيضاً على العدول عن التصويت، لأنّ التصويت ناتج من ممارسة حق دستوري، لا حق شخصي. بالتالي، إنّ المطالبة بإعادة التصويت على القانون (إذا حصل وفق الأصول)، انما هي أمر غير جائز دستورياً ولا قانونياً، كي لا نقول إنّ من طالب به واهم.
في ضوء هذه الإشكالية، ومنعاً لتكرارها، لا بدّ من مطالبة المجلس النيابي بضرورة تعديل نظامه الداخلي، بهدف اعتماد التصويت الإلكتروني، أسوة بدول العالم أجمع، ومن بينها فرنسا، التي اعتمدته منذ أكثر من نصف قرن. إذ نحن لا نزال مقيدين بنص المادة الـ 36 التي وضعت في 1926 نقلاً عن دستور الجمهورية الثالثة، التي وإن كانت سهلة التطبيق مع مجلس كان عديده نصف الحالي، إلا أنها لم تعد تفي بالمطلوب، بعد أن أصبح عديد المجلس 128 نائباً، وخاصة أنّ فرنسا، من خلال المادة 27 من دستورها أجازت التصويت الإلكتروني من خلال آلية يحدّدها النظام الداخلي للمجلسين.
إنّ تعديل النظام الداخلي لمجلس النواب بهدف إجازة التصويت الإلكتروني ليس بالأمر العسير، ولا يثير خلافات سياسية، وعلى المجلس المبادرة إلى ذلك، لكي نمنع تكرار ما حصل في الجلسة الأخيرة لمجلس النواب؛ إذ من خلال التصويت الإلكتروني ينتفي الالتباس في النتيجة مهما تقاربت الأصوات الرافضة والمؤيدة.
* أستاذ القانون الدستوري في الجامعة اللبنانية والدراسات العليا في الجامعة العربية