أهي مجرّد مصادفة أن تستقبل عمان، زعيم حماس وزلمة حمد بن جاسم، خالد مشعل، كرئيس وتفجّر قناة «الجزيرة» القَطرية، بالتزامن، ملفاً قديماً مترباً عنوانه اغتيال ياسر عرفات، وتبدأ بمسلسل التحريض؟ لا أظنّها مصادفة؛ فحملة «الجزيرة» لاستنطاق «انتفاضة» في الضفة الغربية ضد السلطة الفلسطينية، مكشوفة على نحو يثير السخرية، ولكنها، مع ذلك، قد تصبح مؤثرة بصورة دراماتيكية.
الآن، لدى حماس، قميص عثمان والفضائيات والأموال والشبكات الميدانية اللازمة لتحريك «ثورة» فلسطينية. الشيء الوحيد الناقص هو غرفة عمليات قريبة، بل متداخلة مع الحدث. وتلك جرى استئجارها في عمان!
لا أحد يستطيع أن يحكم الضفة الغربية من دون أن يكون قد أمّن بوابتها الأردنية: هذا ما وعته «فتح» بالتجربة الطويلة والمريرة، بالصدام والمصالحة والخصام والتوافق مع النظام الأردني. وهذا ما رسخ في عقل حماس اللاهثة وراء التفاهم مع عمان منذ 1999، حين تم طرد القادة الحمساويين من الأردن إلى الدوحة ثم دمشق ثم الدوحة التي تعيدهم إلى عمان مجدداً. القطيعة التي أخّرت الربيع القَطري في فلسطين حتى الآن انتهت، وآن الأوان لكي يبدأ المشهد التالي. وما يحتاج إليه تكوّن المشهد ليس سوى لحظة تصعيد درامية. وهل هناك أفضل من التحقيق في اغتيال عرفات؟
بطبيعة الحال، فإنّ عوامل الانتفاضة ضد السلطة الفلسطينية ليست كلّها مفتعلة. هناك عوامل موضوعية: الفشل في تحقيق أي تقدم في حلّ القضية الوطنية، الفساد، امتيازات الفئات السلطوية، التعاون الأمني مع الاحتلال، والقمع البوليسي المعتاد. ذلك، بالإضافة إلى ما يمكن إحياؤه من نقد قومي ويساري وإسلامي لمسار أوسلو والنهج التفاوضي الخ. لا الرئيس محمود عباس ولا السلطة الفلسطينية يمكن الدفاع عنهما في 99 بالمائة من الملفات، لكنّهما، بالمقابل، متمسكان باتفاقيات مع إسرائيل تريد هي التخلص منها، وبمفاوضات ومرجعيات أممية لإقامة الدولة الفلسطينية. وهو مسار أصبح، بالنسبة إلى إسرائيل من الماضي. الخطة الوحيدة التي تحظى بإجماع إسرائيلي ممكن هي خطة غزة، أي الانسحاب من طرف واحد من مناطق التجمعات السكانية في الضفة الغربية، ورسم حدودها مع الفلسطينيين والأردنيين، من دون مفاوضات ولا اتفاقيات ولا مرجعيات ولا شرعية دولية.. إلخ. تترك إسرائيل ما يتبقى من الأرض الممزقة (حوالي 56 بالمائة من الضفة) ليحكم فيها الفلسطينيون، أنفسَهم. وهذه الصيغة تناسب حماس بالكامل. فهي، بدورها، لا تريد مفاوضات ولا اتفاقيات، ولكنّها، كما هي الحال في غزة، مستعدة لإدارة المناطق «المحررة» من طرف واحد، وضبط أمنها بنحو صارم، تحت شعارات «المقاومة» ومصالحها، وفي إطار هدنة طويلة مفتوحة. وماذا يريد الإسرائيليون أكثر من ذلك؟
إسرائيل، إذاً، «محايدة» في المشهد التالي، من دون أن ننسى أنّ التفاهم العميق جار معها من خلال الدوحة. وسوريا، المأزومة داخلياً، ليس بإمكانها اليوم التدخل ولا التأثير في المجال الفلسطيني. كانت الدوحة تأمل، بالطبع، أن يكون اسقاط نظام الرئيس بشار الأسد قد تم قبل الشروع في الربيع الفلسطيني، بحيث يكون في دمشق نظام جديد حليف لحماس وصديق للغرب وإسرائيل، مما يفتح الباب أمام تحسين شروط القفز الحمساوي إلى السلطة في رام الله. لكن الصراع في سوريا طال وسيطول. ولم يعد الانتظار مجدياً. والأردن، المنهك بصراعاته الاجتماعية السياسية، والمنشق على نفسه، والمفلس بسبب عقد من النهب المنظّم لثرواته ومؤسساته وموجوداته، أصبح نظامه، اليوم، أضعف من أن يرفض أو يعاند القسم الخاص به من السيناريو الحمساوي في الضفة الغربية.
لكن ما هو مطلوب من الأردن في المشروع القَطري/ الحمساوي يتجاوز قرار النظام وقدرته. فلا تكفي هنا مصالحة مع حماس، ولا تقديم التسهيلات لها، بل المطلوب هو إدخالها في صميم النسيج السياسي المحلي وإعادة صياغة المعادلة الديموغرافية السياسية بما يوسع ويعمق الحضور الفلسطيني في الدولة الأردنية، ويعيد التشابك بين الضفتين في جميع المجالات. إنّ إدارة مناطق الضفة الغربية «المحررة» المقطعة الأوصال والتي لا تحظى بحدود دولية، غير ممكنة واقعياً (لوجستياً واقتصادياً ومالياً وسكانياً وأمنياً الخ) من دون ارتباطها مع الأردن. لكنّه اليوم ارتباط يتم لحساب المشروع الحمساوي لصيغة إمارات إسلامية على ما يتيسر من أرض وسكان، بين مصر وإسرائيل والأردن. والمفارقة أنّ النظام الأردني الذي ماطل منذ 1988 في دسترة قرار فك الارتباط مع الضفة الغربية، طامحاً إلى استعادة ذلك الارتباط لصالحه، مضطر اليوم أن يلعب دور الشريك الأضعف في معادلة الارتباط الجديدة.
في كل ذلك من الخطوط العامة لمشروع تتناسج منه، بالضرورة، آلاف التفاصيل في عملية إعادة هيكلة الدولة الأردنية، لا يملك النظام الأردني أن يضمن تنفيذها، ولا يستطيع أن يكون أكثر من طرف في صراع اجتماعي سياسي متشعب تخوضه أطراف عديدة، من داخل الدولة وبيروقراطيتها وأجهزتها، ومن القوى الاجتماعية المتضررة والحركة الوطنية الصاعدة والعشائر والمحافظات... الخ. وهو صراع يتقاطع فيه الوطني مع الاجتماعي بصورة نموذجية. مشروع ترتيب الأوراق الأردنية ــ الفلسطينية لملاقاة الانسحاب الإسرائيلي المفاجئ (من طرف واحد) من مناطق الكثافة السكانية في الضفة، ربما يجد تسويغه في تفاقم حالة فوضى أمنية جراء انتفاضة ومواجهات مع السلطة الفلسطينية ــ يجري الإعداد لهما، لكن ليس نجاحهما حتمياً بالطبع ــ وتنتهيان بانتصار الربيع الإخواني في فلسطين أيضاً. لن يكون هناك دولة فلسطينية بالطبع، وإنما مناطق تديرها حماس باستخدام دولة موجودة فعلاً هي الدولة الأردنية. لكن على الأخيرة أن تتغيّر جوهرياً لكي تستطيع أن تلعب هذا الدور الفريد في كونها دولة للغير. وهذا مسار يستنفر ديناميات المقاومة لدى الوطنيين الأردنيين.
الوطنية الأردنية، اليوم، في حالة صعود غير مسبوق، والجديد أنّها أضحت مستقلة عن الهاشميين، ومعادية للنظام، وتريد استرداد دولتها، بالمعنيين السياسي والاقتصادي ــ الاجتماعي. وهي تتمتع بحساسية عالية جداً إزاء أدنى التعديات على حضورها وكرامتها. ويظهر هذا العامل السياسي المستجدّ في لهجة المظاهرات الغاضبة التي تراكم، سياسياً، تعميق الهوة بين الجماعة الوطنية الأردنية وبين نظام فقد صدقيته ومتهم، علناً، برعاية الفساد والمسؤولية عن إفلاس الدولة وإضاعة موارد البلد وهويتها. ويتجلى كل ذلك، رمزياً، في رفع صور الزعيم الأردني الراحل، وصفي التل، واستعادة الهتافات القديمة للتل أخيراً في مسيرات الحراك الأردني، مما يعبّر عن حنين إلى النزاهة والعدالة الاجتماعية ودولة القطاع العام وحضور الهوية والشعور بالكرامة.
أظن أنّ غرفة القرار في النظام الأردني ــ المستعلية استعلاء الاستشراق الاستعماري على جماهير شرق الأردن ــ لا يمكنها الربط بين حدثين متلاحقين خلال بضعة أيام؛ الاستقبال الملكي لمشعل وظهور صور وصفي التل في الشارع الأردني، والهتافات ضد الوطن البديل واعلان اللافتات أنّ «الأردن خط أحمر»!
لكن خالد مشعل لم يضيّع وقته في عمان، بل دخل، مباشرة وعلناً في الصراعات السياسية المحلية. «اجتمع ــ حسب تقرير محاب نشرته صحيفة الغد الأردنية، الغربية الميول ــ مع قيادات الحركة الإسلامية في منزل المراقب العام للإخوان المسلمين، همام سعيد»، ونقل إلى الاجتماع، أجواء التفاهم بين حماس والنظام الأردني، وشجعهم على إجراء تفاهم مثيل، والمشاركة في الانتخابات النيابية المقبلة. ونقلت الصحيفة عن مشعل قوله للمجتمعين: «القرار قراركم. لكن عليكم أن تدركوا الفرق بين واقع الجمهوريات وواقع الملكيات. فما يصلح هناك، لا يصلح هنا».
والفرق، بالنسبة إللا زعيم حماس واضح: الثورة والتغيير والحكم الإخواني، هو المشروع القَطري الإخواني المعتمد للجمهوريات العربية، بينما المَلكيات مصونة، ولا مجال فيها لأكثر من المشاركة في إطار الممكن. والممكن في المملكة الأردنية ما دام يسمح بالتموضع السياسي لحماس في البلد الجار المتداخل مع فلسطين، خصوصاً أنّ «التوجيهات الملكية» صدرت، حسب مشعل، بـ«تسوية جميع الملفات العالقة» مع حركة حماس، وفتح «صفحة جديدة» من العلاقات «المنتظمة» بين الطرفين.
يعرف الجميع، بالطبع، أنّ قرار القيادة الإخوانية الأردنية، الواقعة اليوم كليّاً تحت نفوذ الحمساويين، ليس بيدها، وإنما هو قرار مشعل الذي عاجل إلى ترتيب لقاء بين قياديين إخوانيين ومدير الاستخبارات الأردنية، فيصل الشوبكي، للبحث في الملفات الثنائية، وعلى رأسها تهدئة الشارع والانتخابات النيابية. وبدا، تالياً، أنّ الطريق ممهدة للتفاهم لولا الاعتراضات العلنية من قبل الجناح الوطني الإصلاحي في «الإخوان» ـ المعروف بـ«الحمائم» بمقابل الجناح الحمساوي المعروف بـ« الصقور». وهما تسميتان مشتقتان من وجهة نظر الموقف من نصرة حماس، لا من وجهة نظر السياسة الأردنية، حيث «الحمائم» هم الصقور، وبالعكس: الصقور هم الحمائم.
صرّح مشعل، فجأة، بأنّ «الحمائم» ــ لا جماعته ــ هم الذين يعرقلون الاتفاق على مشاركة «الإخوان» في الانتخابات المبكرة (وفي العملية السياسية الجاري ترتيبها برعاية غربية ــ قَطرية). وللتو، فجّر هذا التصريح ــ الذي يمثّل تدخلاً مباشراً في الشؤون الأردنية ــ ردود أفعال غاضبة في صفوف المعنيين، كما في صفوف الحراك الشعبي. كتب القيادي الإخواني رحيّل غرايبه ثلاثة مقالات عنيفة ( في «العرب اليوم» في 4 و5 و6 تموز 2012) ضد «الإخوان» الحمساويين الذين سبق لهم أن أقصوه ــ مع جماعته ــ عن كل المواقع القيادية في الجماعة والحزب. وفي هذه المقالات، قدم غرايبه، المعدود نصيراً لتيار اسماعيل أبو الفتوح في مصر ــ نقداً شاملاً للممارسة السياسية الإخوانية؛ غير المبدئية في وسائلها، والغامضة في أهدافها، والاستبدادية في ممارساتها.
من المفروض، عند غرايبه، أنّ «الإخوان» من الدعاة المتشددين لإصلاح النظام السياسي الأردني. ومن عيون ذلك الإصلاح، استعادة الولاية العامة لمجلس الوزراء وهيمنته على الدفاع والأمن والخارجية والسياسات الاقتصادية. وهي مجالات استأثر بها، من دون مسوّغ دستوري، الملك والاستخبارات ورجال الأعمال المتنفذون. ولذلك، فهو يستهجن كيف يلتقي قادة «الإخوان» ــ الذين يقاطعون الحكومة ورئيسها ــ بمدير الاستخبارات العامة في لقاء غامض غير معروف الأجندة والنتائج. وهو يقرر أنّ هذا السلوك غير مبدئي ومثير لريبة حلفاء «الإخوان» في الحراك الشعبي، ويسوّغ الحملة ضدهم كانتهازيين.
قادة «الإخوان» أناس عمليون للغاية. وكانوا قد اعلنوا صراحة أنّهم يرفضون الحوار مع رؤساء الهيئات الدستورية (الحكومة والبرلمان والأعيان) لأنّه حوار مع مسؤولين وهيئات بلا صلاحيات، وأنّهم، بالمقابل، مستعدون وراغبون في الحوار مع أهل القرار، أي الملك والاستخبارات. وهذا التقييم صحيح واقعياً. و«الإخوان» قوم واقعيون، أما الشعارات فهي للتحشيد. وبالنسبة إلى الغموض، فإنّه من البديهي أن تكون مجريات الحوار مع مدير الاستخبارات سرية، سواء في الأردن أو في فرنسا.
ينبغي القول، هنا، إنّ ذلك الحوار، بحد ذاته، ليس هو القضية، بل القضية تكمن في تناقضه مع الشعارات «الإخوانية»، ليس فقط لجهة اسقاط مبدأ الولاية العامة لمجلس الوزراء، بل، أيضاً ــ وهذا ما أغفله غرايبه ــ لجهة أنّ 50 بالمئة من هتافات «الإخوان» في التجمعات وتصريحاتهم النارية، مخصصة لهجاء الاستخبارات ومديريها بالاسم. ولا يمكن تفسير ذلك إلا بوجود ملفات خاصة بين الطرفين لا يعرفها المتظاهرون ولا تعني الحراك الشعبي ولا الإصلاح السياسي ولا الشأن الأردني كله، بل تتصل، تحديداً، بالعلاقة مع حركة حماس وملفاتها الأمنية. وهذه الملفات ليست في أدراج رئيس الحكومة بالطبع، وإنما في أدراج مدير الاستخبارات.
وضع الغرايبه يده على الجرح، حين تحدّث عن صراع الأولويات بين الإسلاميين الوطنيين الإصلاحيين المهتمين بالتغيير الديموقراطي في الأردن، وبين القيادات الإخوانية الحمساوية التي تمنح الأولوية لمشروع حماس الفلسطيني. والخلاف هنا ليس على فلسطين وإنما على السؤال الجوهري: هل الأردن وطن أم ساحة؟
المستور/ المعروف أنّ حماس هي التي تسيطر، تنظيمياً وسياسياً ومالياً واعلامياً، على «الجماعة» وحزبها في الأردن. وهي اعتادت استخدام دعاة الإصلاح من القادة والشباب الإسلاميين الجادين للضغط على النظام في سياق ترتيب ملفات حماس الأمنية، لا أكثر ولا أقل! وحالما يتم ترتيب هذه الملفات، يبتلع أصحاب القرار في «الإخوان»، كما فعلوا مراراً، خطابهم المعارض كله، وينضوون في العملية السياسية الرسمية، ويسبّحون، وراء خالد مشعل، بفضائل الديموقراطية الأردنية.
بالنسبة إلى أصحاب القرار في «الإخوان»، ليس الأردن وطناً قائماً بذاته ولذاته، بحيث تكون الأولوية لشؤونه الداخلية في أي ممارسة سياسية، بل الأردن، عندهم، ساحة لحماس ــ الخارج التي لا أمل لها في منافسة فتح في الضفة الغربية من دون المنصة الأردنية، ولا أمل لها بمقعد في الإقليم خارج الأردن.
فوجئ غرايبه باستبداديّة جماعته التي «ضاق صدرها بمقال». لكن الكثيرين لم تفاجئهم هذه الاستبدادية، فهي مجبولة في صلب السياسة والتنظيم «الإخوانييَن». وهي استبدادية أسوأ من تلك الخاصة بالأنظمة التقليدية، لأنّها مدعمة بخطاب ديني وقواعد شعبية.
ووصلت الدهشة بغرايبه حداً جعله يطرح التساؤلات حول صدقية الدعاوى الديموقراطية للإخوان، وعما إذا كانوا قادرين على الحكم الديموقراطي الذي يتطلب استيعاب الخصوم السياسيين، بينما هم غير قادرين حتى على استيعاب نقادهم من داخل الحركة.
تظهير الصراع داخل الإخوان المسلمين الأردنيين هو نتيجة أولى منتظرة للتدخل الحمساوي في الشؤون المحلية. وقد تقاطع، فوراً، مع خطوط التوتّر العالية للانقسام الداخلي في البلاد بين الكتلة الشرق أردنية والكتلة الفلسطينية الأصول. فالحركة الإخوانية ـت المنشقة اليوم على نفسها ــ كانت آخر معقل سياسي تتشارك فيه الكتلتان. وإذا كان الانفصال التنظيمي الرسمي بين الوطنيين والحمساويين في «الإخوان»، يظلّ احتمالاً ضعيفاً في المدى المنظور، فإن الانفصال السياسي بينهما وقع فعلاً، وستكون له نتائج لا يمكن تدارك تفاعلاتها في تبلور انفصال سياسي شامل على مستوى البلادبين جبهتين، لكل منهما مطالبها وقاعدتها الديموغرافية السياسية.
وقد لوحظ أنّ الحركة الإخوانية ــ التي أوقفت الجمعة 6 تموز 2012، في إطار مفاوضاتها مع النظام، مسيرتها الأسبوعية من الجامع الحسيني في عمان، واكتفت بنشاطين فرعيين ــ تحوّلت عن شعارات الإصلاح السياسي (الليبرالية) إلى شعار «بالتقوى، الأردن أقوى»، في إشارة واضحة إلى نيتها الحسنة بالتراجع والتآلف مع دور دعوي، إذا جرى الاعتراف الرسمي بحماس طرفاً سياسياً محلياً.
بالمقابل، ارتفعت سقوف شعارات الحراك الشعبي بنحو غير مسبوق، وتلاشت، مجدداً، شعارات الإصلاح السياسي (الإخوانية ــ الليبرالية) لصالح التركيز على مهاجمة القصر والمطالبة بمحاكمة كبار الفاسدين واسترداد المنهوبات والشركات المخصخصة، ومواجهة مخططات الوطن البديل، والجديد هنا، هتافات ضد «الإخوان»، ومراقبهم العام الذي سماه متظاهرو إربد «فضيلة العميل».
انحسار التأثير الإخواني ــ الضعيف بالأساس ــ في المحافظات ولدى الحركات الجهوية والعشائرية، هو محصلة موضوعية للتباعد في الخيارات السياسية. وسيقود، لاحقاً، إلى تموضع الحركة الإخوانية المتماهية مع حماس كلياً في حدود الكتلة الفلسطينية الأصول، وبالتالي ترسيم حدود الانقسام الديموغرافي السياسي الداخلي بخطوط صلبة. وفي رأيي أنّ مثل هذا الترسيم يتفق مع المشروع الحمساوي للسيطرة على الكتلة الفلسطينية ــ الأردنية، وتوظيفها سياسياً، سواء من أجل تأمين قاعدة ثابتة للشراكة داخل المملكة أو من أجل التواصل مع ــ والحسم في ــ الضفة الغربية.



جوفيّة شباب سحاب: مَلّينا دور الرعيّة

«الجوفية» لون دارج من الأهازيج الأردنية، يهزجها قوّال، منغمةً، ويردد لازمتها، وراءه، صفان متقابلان من الرجال، يتقاربان ويتباعدان في حركة إيقاعية متصاعدة. والجوفية تُستعمَل في الأفراح عادة، لكنّها تستعمل أخيراً من قبل شباب الحراك الشعبي بمضامين سياسية، وتتفنّن كل بلدة في ابداع كلماتها. والجوفية التالية هي لشباب بلدة سحاب، جنوبي العاصمة عمان.

أوّل ما نبدى بالنّبي صلّوا ع سيْد البَريّة
اضرب بالكفّ خلّو يلتفّ يا ربعي ردّوا عليّه
يا عزيزْ عينيْ يا أردنْ عزيز وغالي عليّه
يا عزيزْ عينيْ يا أردنْ والله كَلوْك الحراميّة
إجا الفسادْ.. راح الفسادْ ما حلّوا ولا قضيّة
راحتْ سَنهْ واجتْ سنهْ ما سمعنا حُكم بقضيّة
مجلس نوّابْ قَلَب خِرفانْ والعَلَفْ منّا هديّة
زاد الفسادْ.. راحت البلادْ تحت الرعاية الرسميّة
سرقوا الفُسْفات باعوا البوتاسْ باعوا الكهربه والميّة
شِحْدةْ وتشحيدْ ما احنا عبيدْ حنّا طلّاب الحريّة
خلّوا الشَّعب يحكم حالو ملّينا دور الرعيّة
فَقْر وْطَفرْ وسِرْقهْ ونَهِبْ يا أردن أحلى تحيّة
ما حد سامعْ مَا حد فاهمْ ترجمْ .. بلكي يفهموا شويّة
اسْرقْ وانْهبْ «...» و«...» منتو من عيلة محميّة
قرّبْ دوركْ « ...» قرّبْ حضِّر لي أخو النشميّة
«...» و«...» و«...» و«...» (شلعك) ما يصعب عليّه
لو طوّل الليل (وجَرْهَدْ) لَ حطّكْ تَحِت رجليّه
هدِّدْ احبسْ جيِّشْ حرِّضْ فَلْتخسا القبضهْ الأمنيّة



في ديرة الأنباط... النموذج الأردني



يمتدّ إقليم جنوب الأردن الذي كان موئلاً أوّل لدولة الأنباط (المقسّم إدارياً اليوم إلى ثلاث محافظات هي الطفيلة ومعان والعقبة) بين وادي الحسا شمالاً، وخليج العقبة والحجاز جنوباً، ويحاذي امتداد وادي عربة غرباً، وينفتح على صحراء حسمى وقسم من الحماد شرقاً.
أدى هذا الإقليم دوراً مركزياً في أحداث «الثورة العربية الكبرى»، إذ كان مركز عمليات القوات العربية المقاتلة ضد العثمانيين. وكان له اسهام بارز في العمليات التي شارك فيها الآلاف من مقاتلي عشائر الحويطات، بزعامة الأمير والفارس الشهير عودة أبو تايه الذي خلّف وراءه ذكريات المجد، ليودعه حلفاؤه السابقون، الإنكليز والهاشميون، السجن، ويحاصروه في شيخوخة مريرة، انتهت بوفاته مهزوماً ومحبطاً.
اقتطعت مملكة آل سعود جوهرة الإقليم، وادي السرحان، فقطعت دورة الحياة البدوية للإقليم، وتسببت في مجاعة في الثلاثينيات بين عشائر المنطقة. وعلى الواجهة البحرية، اقتطع الإسرائيليون، مطلع الخمسينيات، قرية أم الرشراش وجوارها، لتأسيس مدينة «إيلات» التي تقوم على أراض أردنية صميمة.
إقليم جنوب الأردن هو متحف طبيعي للتنوع البيئي بين خضرة الهضاب والوديان وامتداد سهول البادية والتشكيلات الصخرية الجبلية الفريدة والخليج المرجاني المحاط بالجبال الصخرية. وهو يحتوي على ثروات معدنية وأحفورية ومائية ضخمة (أهمها خزان الديسي الذي استولى عليه منذ 25 عاماً تجمع من رجال الأعمال المتنفذين بقيادة رجل الأعمال الفلسطيني ــ السعودي، صبيح المصري). وفي قلب الإقليم، تقع المدينة النبطية المنحوتة في الصخر، بترا.
تتركّز الاستثمارات الكمبرادورية في الإقليم في مدينة العقبة، بينما لا يزال معظمه بكراً، يعاني سكانه من الإفقار والتهميش. يمكن اعتبار جروف رأس النقب (*) مفصلاً بيئياً داخل الإقليم، فإلى جنوبها تمتد حتى جنوبي العقبة، مسافة 100 كيلو متر، مرتفعات شرقي وادي عربة، بتلالها الغرانيتية العارية من التربة والنبات، حيث التجوية الميكانيكية لا تنتج سوى الجلاميد والحصى والرمال الخشنة. وهي تنحدر انحداراًُ وعراً حاداً لا يسمح باستقرار مكونات التربة على قممها او سفوحها.
إلا أنّه رغم ظروف المناخ القاسي الجفاف، فإنّ آجاماً محدودة من أشجار العرعر تنمو على جوانب التلال الظليلة، بينما تنمو في المخاريط الفيضية في السفوح، آجام أخرى من أشجار الطلح الشوكية يستظلّها الرعاة الذين يفيدون من أعشاب تنمو في بطون التلال، ويستقون من غدران شكّلتها سيول الأودية، ويزرعون في نطاقها حبوب الشعير لمواشيهم في سنوات الجفاف. وهكذا، تصمد أفخاذ من عشائر الحويطات لظروف بادية فقيرة تنتهي إلى خليج العقبة، حيث قامت بلدة صيادين تقليدية، كانت نقطة انطلاق مدينة العقبة المزدهرة لاحقاً.
لكن إلى شمالي جروف النقب، تمتد مرتفعات الشراه الرطبة، والتي تعتبر أطول وأعلى سلسلة جبلية في الأردن، وتمتد حوالي 105 كيلومترات، شمالاً حتى الطفيلة.
وتتعالى في الشراه قمم ــ تُعرَف محلياً بالتلاع ــ يصل أعلاها إلى منسوب يتجاوز 1700 متر. إلا أنّ تلاع الشراه الشاهقة تنحصر في شريط ضيّق تراوح سعته بين سبعة كيلومترات وكيلومترين فقط، تسقط الأرض غربه، سقوطاً حاداً، إلى حافة هاوية وادي عربة. أما سفوح الشراه الشرقية، فتتدرّج الأرض فيها هبوطاً هادئاً إلى حوض معان، ثم إلى منخفض الجفر. ويفصل خط التلاع بين وديان غربية، قصيرة وعنيفة، تنتهي إلى وادي عربة ــ كوادي دلاغة ووادي الطيبة ووادي موسى ووادي ضانا (وهو من أجمل المحميات البيئية في شرق المتوس) ــ وأخرى شرقية تتكون من شبكات الأودية الطويلة والضحلة المتجهة إلى منخفض الجفر، كوادي إيل ووادي العرجا ووادي نجل.
ويؤلّف هذا التنوّع البيئي الحادّ المتداخل المهاد للتنوع الاقتصادي ــ الاجتماعي بين جماعات من أنصاف الفلاحين وأنصاف البدو والبدو، ويفسّر، في الوقت نفسه، العلاقات المتداخلة المركّبة بين هذه الجماعات.
تشكّل المنحدرات العليا للشراه، جزيرة مناخية نباتية لا تنتمي إلى جوارها الصحراوي، بمعدّل مطري متساو حول 300 ملم، ما بين بين العرجا والرشادية، يقفز، في بعض المحطات، إلى 400 و500 ملم من الأمطار، منها ثلوج. ولذلك، ورغم التحطيب والرعي الجائرين، لا تزال أحراج البحر المتوسط تغطي مساحة 550 كيلومتراً مربعاً، تنتشر خصوصاً على سفوح الشراه الغربية، وتتألف من العرعر والبلوط، وبينهما السرو العمودي والبطم الكبير، وحول الأحراج، حيث يهبط المعدل المطري إلى 150 ملم، تنتشر شجيرات الشيح واللثين والأعشاب والحشائش التي ترعاها القطعان، وتنتج أفخر لحوم الضأن وألبانها.
وتدل الآثار الكثيفة في المنطقة على أنّ هذه الجزيرة الرطبة شكلت نطاقاً حيوياً للاستقرار والتحضر عبر آلاف السنين. وقد سعى إنسانها إلى توسيع هذا النطاق عبر أساليب مبدعة في حفظ التربة وتجميع المياه وبناء القنوات والمدرّجات الزراعية. وهي عملية شهدت ازدهاراً كبيراً في عهد الأنباط الذين لا تزال بترا عاصمتهم المنحوتة في الصخر في فجوة من وادي موسى، شاهداً على عظمة دولة محلية استطاعت توظيف الموارد المتاحة لها، بأكثر ما يمكن من الجدوى الاقتصادية والإبداع.
ويتساءل المرء عن العوامل التي أدت إلى انهيار هذا التراث الزراعي الحضاري في المنطقة، وتخلخلها، سكانياً وعمرانياً، وتبدّي أهلها، علماً بأن هنالك العديد من المؤشرات التي تدلّ على أنّ الاستمرار السكّاني لم ينقطع في المنطقة منذ عهد الأنباط. ومن المرجح أن يكون السكان الحاليون، هم أخلاف الأنباط، لا سيما قبيلة الحويطات التي تعد القبيلة الأكبر والأكثر انتشاراً في المنطقة.
منع خط تلاع الشراه الحديث التكوّن جيولوجياً، الأوديةَ الداخلية من التصريف الغوري غرباً ــ كما هي الحال في مناطق الأردن الأخرى من وادي الحسا حتى اليرموك ــ ولذلك يتلقى منخفض الجفر على مسافة 75 كيلومتراً، معظم تصريفه المائي المركزي من مرتفعات الشراه، مما خلق مراعي غنية، وسمح لاحقاً بالزراعة المروية من الآبار الارتوازية.
تلاع الشراه تنتهي جنوبي قرى الشوبك، فلا تعلو الأرض، بعدها، عن منسوب 1500 متر إلا في شمالي غربي الشوبك ثم شرقي ضانا حيث يرتفع جبل العطاعطة 1641 متراً وتهبط كتلته شرقي الرشادية في الرديسية إلى 1585 متراً، ثم تبدأ الأرض بالانخفاض، شماليّ الطفيلة حتى الهضاب المطلة على وادي الحسا. وينخفض المعدل المطري، بالتالي، من أكثر من 250 ملم جنوبي الطفيلة إلى أقل من 150 ملم شماليها، حيث تبدأ الأحراج بالتلاشي تدريجياً نحو بيئة شبه صحراوية.
وإذا كانت الطبيعة قد رسمت ملامح إقليم جبلي/ صحراوي شديد التعقيد الداخلي، مما وضع الفلاحة والبداوة في حالة تشابك، فإنّ الجغرافيا السياسية للإقليم الواقع على طريق الحج بين مصر والشام وبين الحجاز، أنتجت حاضرة مدنيّة قديمة في قلب الإقليم هي معان، محطة الحجاج القديمة نحو مكة المكرمة.
معان، بتركيبتها السكانية الاجتماعية الفريدة كمدينة من العشائر الحضرية، لعبت دوراً رئيسياً في السياسة الأردنية الحديثة؛ فمنها انطلقت انتفاضة نيسان 1989 التي عمت الأردن وقتذاك، وفرضت اسقاط الأحكام العرفية والانتقال بالبلاد إلى الوضع نصف الديموقراطي.
من الناحية الاجتماعية ــ الثقافية، يقدم جنوب الأردن، الظاهرة التي تسيطر، في صور شتى، على الأردن كله. وهي المتمثلة في تشابك كل التكوينات الاجتماعية (البدوية والفلاحية والحضرية) وانطباعها بالطابع العشائري. وهكذا، تظهر لوحة جنوب الأردن الاجتماعية منسوجة من عشائر الفلاحين شبه البدوية في الشراه وأوديته حتى هضاب الطفيلة، وأنصاف البدو من أهل الديرة الذين يشاركون أولئك المستقرات نفسها أو يحاذونها، والبدو من عشائر الحويطات (ممن كانوا رعاة الإبل)، وتدور حياتهم في الصحراء، شرقي وجنوبي الشراه ووادي عربة، وعشائر الحضر (سكان معان). ولا يخرج عن هذا الإطار إلا تجمع سكان بلدة العقبة القديمة، من الصيادين والتجار المهاجرين من مصر وفلسطين والحجاز، على الرغم من أنّهم انتظموا هم ايضاً في سلك عشائري.
(*) استندت المعلومات الجغرافية الطوبوغرافية
إلى عمل صلاح الدين البحيري،
جغرافية الأردن، عمان 1990.