عليّ أن أقرّ في البداية بأنّني ولدت لطبقة محظيّة، ودرستُ في الجامعة الأميركيّة في بيروت. لكن عليّ أن أقرّ أيضاً أنّني كنت أمقتُ الجامعة منذ أوّل أيام دراستي فيها (أو قبل ذلك ببضع سنوات). بيني وبينها خلاف (أو عداء) مستحكم لم تزده السنوات إلا عمقاً ورسوخاً. أذكر أنني أفقتُ ذات يوم في 1980 أو 1979، وكتبت على ملصقات أعددتها بنفسي هذا الشعار: «الحلّ، الحلّ، تأميم الجامعة». كانت تلك صرختي، وهناك من اعترض أنّ الشعارات السياسيّة لـ«الرفاق» يجب أن تُمهر بأمر حزبي رسمي. لم يرقهم. ورسمتُ شعارات ورموزاً على جدران الجامعة، وقد ظهر رسمٌ لي منها (معول ومطرقة وكلاشنكوف أحمر) على جدار الجامعة في فيلم من بطولة الراحلة مديحة كامل (جرى تصوير بعض مشاهده في الجامعة). تعرّفتُ إلى رفاق في الجامعة وكسبت بعض الصداقات، وتأثّرتُ بعدد قليل من الأساتذة فيها. كنت، خصوصاً في سنتي الأولى، متمرّداً على انضمامي إليها. كنت أحضر صف الاقتصاد فقط كي اصرخ في الأستاذ الذي يجرؤ أن يأتي على ذكر كارل ماركس ــ رضي إنجلز عنه ــ بأي سوء: وكان يفعل ذلك من حين لآخر إلى أن طلبتُ منه أن يتوقّف لأنّه لم يكن يعلم شيئاً عن الماركسيّة إلا ما قرأه في الكتب الأميركيّة المُعادية للشيوعيّة. وأذكر أنّني مرّة رأيتُ تلميذاً جالساً بقربي وهو يرسم الأرزة الكتائبيّة على دفتره. قلتُ له: نحن هنا نلتزم عزل الكتائب ولن نسمح بهذه الدعاية الصهيونيّة، وهدّدته وخرجت من الصف غاضباً ثائراً. وقفت أنتظره في الخارج حانقاً وشاهدني عدد من الرفاق فأخبرتهم بما حصل. تحوّل الغضب إلى جماعي، وازداد عدد المنتظرين. خرج الرجل ورأى جمهرة من الغاضبين أمامه وشرح ببطء أنّه ينتمي إلى تنظيم حركة «فتح» في الجامعة وأنّه كان يرسم الأرزة من دون أي معنى سياسي. أتى عدد من الفتحاويّين وزكّوا فيه. أذكر بعض الأساتذة العرب الذين كانوا يتكلّمون العربيّة بلهجة الأجنبي. كم كنت أرغب بصفع هؤلاء. (نبذتُ الحس الديموقراطي في سن مبكّرة ــ لست حضاريّاً، الحق يُقال). أذكر عندما طردني نديم نعيمة من الصف لأنّي قلت له إنّي أرفض أن أقرأ أفكاره وخواطره: كان نعيمة يطلب من تلميذ أن يقرأ نصاً للأفغاني أو عبده ثم يطلب من التلاميذ أن «يحزروا» مقاصد الكاتب. والجواب الصحيح كان تفسير نعيمة فقط، وكل ما عدا ذلك خطأ. قلت له أرفض أن ألعب لعبتك ــ صرخ نعيمة وقال إنّه لا يريد رؤيتي بعد اليوم. (اروي الحادثة لتلاميذي في بداية كل فصل دراسي كي أظهر لهم نقيض فلسفتي التعليميّة). لكن كان يوسف إبش رحب الصدر إزاء سخريتي من ترويجه لحكم آل سعود في الصف.
كان أكثر ما يزعجني هو طريقة إعداد الطالب كي يتأقلم، لا مع محيطه، بل مع المحيط الغربي البعيد. هي مدرسة إعداد النخبة من أجل النفاذ إلى صفوف النخبة المؤثّرة وصناعة القرار. عليك في صفوف الدراسة في الجامعة أن تبذل جهداً خارقاً كي تغسل عن نفسك ما علق بها من أدران المناهج التعليميّة والفكر الرجعي السائد. الإشارة إلى الإسلام في صفوف الجامعة، كانت مثل الإشارة إلى الإسلام في جامعة غربيّة: الدين الإسلامي بعيد، فيما هناك جو من افتراض الاعتناق المسيحي (وينطبق هذا النقد على المدرسة الإعداديّة المُلحقة بالجامعة، الـ«آي سي»). يُقال إنّ الجامعة خرّجت أمثال جورج حبش ووديع حدّاد. هذا صحيح لكنّه من باب الاستثناء: مقابل كل خريّج مثل جورج حبش (هل هناك مثل جورج حبش؟ أشكّ في ذلك)، ثمة أكثر من الف مثل فؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي. أستطيع ان أقول إنّني تعلّمت من خطبة واحدة لجورج حبش أكثر مما تعلّمت في الكثير من صفوف الجامعة.
يكفي أن تقرأ عن دور شارل مالك في تاريخ الجامعة. لم يمرّ في تاريخ الجامعة عربي ــ إذا كنا نستطيع ان نعدّه عربيّاً لأنّه كان فينيقيّ الهوى ــ ذا نفوذ أقوى من نفوذه. لم تثق إدارة الجامعة في تاريخها بعربي كما وثقت بمالك لأنّه كان أكثر حرصاً على المصالح الأميركيّة في المنطقة من الأميركيّين أنفسهم (وأنفسهنّ). كان يعيّن في الهيئة التعليميّة كل من يتوسّم فيه رجعيّة ومعاداة للشيوعيّة (مثل شارل مالك وماجد فخري ويوسف الخال، حتى لو كان يفتقر إلى الشهادات المطلوبة). عموماً، لم يثق الرجل الابيض في تاريخ الجامعة ــ أو في تاريخ الشرق الأوسط ــ برجل مثلما وثق بشارل مالك هذا ــ وللرجل جادة عريضة باسمه في مدينة تحفل بأسماء مستعمرين ومستشرقين ومُحتلّين. اعتنق عقيدة الرجل الأبيض وشُبّه له ــ كما شبّه للكثيرين في لبنان ــ أنّه هو رجل أبيض. شارل مالك كان يمينيّاً رجعيّاً طائفيّاً مسيحيّاً، ولم تكن القضيّة الفلسطينيّة تعني له شيئاً (على العكس، ابقى مالك ما يضمره عن إسرائيل في سرّه إلى أن اجتاح العدوّ لبنان في 1982، فكان أن جاهر في العيد السنوي لحزب الكتائب اللبنانيّة بضرورة «المحاكاة الحضاريّة» بين لبنان وإسرائيل ــ حذفت «النهار» العبارة في تقريرها عن المهرجان الخطابي في اليوم التالي). مالك هذا آمن بعقيدة التفوّق الغربي، وكان في سنواته في أميركا (وبعدها) مُتطوّعاً في التجوال بالنيابة عن الحملة الأميركيّة المعادية للشيوعيّة. كانت المنظمات الرجعيّة اليمينيّة الأميركيّة تستضيف مالك للدعاية ضد الشيوعيّة وللتسبيح بحمد الإمبراطوريّة الأميركيّة (كشف وزير الخارجيّة الإسرائيلي السابق، أبا إيبان، أنّه كان يتبادل قصاصات ورقيّة في المزاح والحديث مع مالك في الأمم المتحدة فيما كان الأخير مُكلّفاً تمثيل وجهة النظر العربيّة في المنظمة الدوليّة). تقرأ في ما نُشر من وثائق الخارجيّة الأميركيّة أنّ مالك كان يحدّث المسؤولين الأميركيّين في ما هو حسن لأميركا، لا للبنان. مالك هذا يُطلق عليه لقب فيلسوف في لبنان، مع أنّه لم يضع كتاباً فلسفيّاً واحداً في حياته ــ لكن استسهال إطلاق لقب فيلسوف سمة من سمات الثقافة اللبنانيّة الضحلة التي تعتبر أغاني منصور الرحباني ذروة الفلسفة، خصوصاً آراءه في الحمّص بالطحينة. شارل مالك كان تجسيداً لفكرة الغرب المُستعمر عن العربي المطيع والمُنفّذ للأوامر دون سؤال.
لم يكن اختيار دونا شلالا لنيل دكتوراه فخريّة من الجامعة الأميركيّة صدفة أو مفاجأة. إنّ هذه الجامعة عريقة في استفزازها للمشاعر المحليّة والقوميّة في البيئة التي زرعها المُستعمر الأميركيّ. الأمر ليس متعلّقاً فقط بشخص دونا شلالا على سوء شخصها: هي أكاديميّة ديموقراطيّة ناشطة، وعيّنها بيل كلينتون في حكومته. في تاريخها (مثلها مثل الكثيرين من العرب «المرموقين» والطموحين هنا) لم تمتّ شلالا بصلة إلى العرب ــ هنا أو هناك. على العكس، هي من هؤلاء العرب الذين يتنصّلون من أصلهم العربي (مثل السناتور السابق ريتشارد ميتشل أو مثل مبعوث رونالد ريغان، فيليب حبيب الذي لم يكنّ للبنان وأهله أي عاطفة وهم لا يعنون له أكثر من «الكبّة» ــ وقد سألته مرّة في جامعة أتى اليها لإلقاء محاضرة في سنواته الأخيرة إذا كان يعتبر نفسه صهيونيّاً مثلما وصفه مناحيم بيغن، فلم يردّ مباشرة بل قال إنّ الكثير من المزاعم عنه من قبل بيغن غير صحيحة). دونا شلالا صهيونيّة من اصل عربي وهي تتعرّض للإذلال في كل مرّة تزور فيها فلسطين المحتلّة، ولم تعترض مرّة واحدة بكلمة، لا بل إنّها صرّحت بأنّ إذلالها كزائرة من أصل عربي إلى إسرائيل لن يمنعها من الزيارة المتكرّرة إلى هناك. كادت دونا شلالا أن تطالب إسرائيل بالإمعان في إذلالها حبّاً بالصهيونيّة. دونا شلالا الليبراليّة والمدافعة عن حقوق الأقلّيات لم ترفع صوتها يوماً للدفاع عن ضحيّة عربيّة واحدةّ ــ هنا أو هناك. كيف طلع مع الجامعة الأميركيّة في بيروت أنّ شلالا تستحق التكريم العربي لغز من الألغاز ــ إذا كنت لا تعلم شيئاً عن تاريخ هذه الجامعة الإستعماريّة. لكن يبدو أنّه في كل سنة يحاول مجلس إدارة الجامعة فرض أسماء أميركيّة صهيونيّة من أجل بثّ افكار معادية للعرب بين العرب، ومن أجل فرض التطبيع مع أفراد صهاينة. في الثمانينيات وأثناء جلسة استماع في الكونغرس الأميركي، كشف النائب الأميركي، توم لانتوس (واحد من أعتى كارهي العرب والمسلمين في كل الكونغرس الأميركي والذي قال وليد جنبلاط في رثائه ما لم يقله في رثاء اي فلسطيني) إنّ رئاسة الجامعة عُرضت عليه قبل اندلاع الحرب في لبنان (وهذا الصهيوني كان مؤيّداً لـ«ثورة (حرّاس) الأرز» حتى آخر أيّامه. ليس اعتباطاً ان يقرر مجلس إدارة الجامعة ان يختار واحداً من متطرّفي الصهيونيّة لرئاسة جامعة تعمل في العالم العربي. إلى هذه الدرجة تقوم إدارة الجامعة باستفزاز مشاعر الطلّاب والبيئة «الحاضنة» للجامعة).
إنّ مسألة شلالا تفضح طبيعة صنع القرار في الجامعة. اسم الجامعة صحيح: هي جامعة أميركيّة مزروعة في المنطقة العربيّة بهدف نشر الدعوة الدينيّة (خصوصاً في السنوات الأولى) والسياسيّة للحكومات الأميركيّة. لكن الجامعة الأميركيّة لا تعمل مثل الجامعات الأميركيّة اللواتي يتمتعن باستقلاليّة ونوع من الديموقراطيّة في صنع القرار، وإن كان مجلس إدارة الجامعات ينازع أهل الجامعة في عمليّة صنع القرار في هذه البلاد. لكن مجلس إدارة الجامعات الأميركيّة يكون نابعاً من البيئة المحليّة للجامعة، ويكون أعضاؤها من أهل الولاية أو المدينة التي تعمل فيها الجامعة. أما مجلس إدارة الجامعة، فهو وليد العصر الاستعماري ويلتزم فلسفته ونهجه ويختار أميركيّين مطعّمين ببعض العرب من أصحاب الملايين والمليارات ومن أصحاب الهوى السنيوري. هو مجلس مُعيّن ومُختار من هيئة غير مُنتخبة قابعة في نيويورك، بعيدة آلاف الأميال عن هموم الشعب العربي التي تعمل الجامعة وسطه (وباسمه أحياناً ــ للوقاحة الفظيعة). وكل قرارات الجامعة الأساسيّة تنبع من مجلس الإدارة هذا وهو الذي يُعيّر ويُقرّع إدارة الجامعة في بيروت والتي تخضع للمساءلة الحقيقيّة منه فقط. أما هيئة الجامعة (من طلّاب وأساتذة وعمّال) فلا سلطة لديهم ولا قدرة على رفض قرارات المندوب السامي في نيويورك. هم منصرفون ومنصرفات لتجديد العقود التي لا تنتهي إلا بالتعاقد.
وهذا المجلس يعمل لجعل الجامعة فاقدة للقدرة على السلطة الذاتيّة. إنّ مجلس الجامعة هو الذي أوقف العمل بـ«تثبيت» الأساتذة (الذي كان معمولاً به أثناء الحرب) وهو وحده الذي له سلطة التقرير وسلطة فرض المعايير (كان كمال الصليبي مثلاً يقول إنّ الجامعة يجب ان تتفرّغ لشؤون التعليم مثل كليّات الآداب والفنون هنا، وأنّ الجامعة غير مهيأة لتكون ما يُسمّى «جامعة الأبحاث» التي تمنح شهادات دكتوراه، لأنّ هناك شروطاً غير متوافرة في الجامعة). يصبح الأستاذ في الجامعة، حتى لو قضى فيها عقوداً، تحت رحمة الإدارة ــ الخاضعة كليّاً للمعايير التي يضعها مجلس نيويورك ــ مما يكبّل قدرته على الحركة وعلى الرفض والمعارضة، وخصوصاً على مناصرة حقوق الطلّاب (حتى لا نتحدّث عن حقوق عمّال الجامعة، وقد عملت في سنوات دراستي في مشروع التحضير لإضراب من عمّال الجامعة، إلا أنّ وصيّ الحزب التقدّمي الاشتراكي على العمّال آنذاك أجهض التحرّك). طبعاً، هناك أساتذة ذوو شجاعة.
تاريخ الجامعة تاريخ طويل ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بالسياسات الخارجيّة للحكومة الأميركيّة. ترجع لوثائق السياسة الخارجيّة للحكومة الأميركيّة (وقد درسها الصديق أسامة مقدسي في كتابه «مدافع الجنّة») وتتيقّن انّ حكّام الجامعة كانوا يتصرّفون على اساس أنّهم جزء من فريق السياسة الخارجيّة للحكومة الأميركيّة: يسدون النصح ويشيرون بضرورات التدخّل العسكري هنا أو هناك. وكانت الجامعة تهدف إلى تنصير المسلمين، ولم يكن هناك لبس في الأهداف. التبشير الاستعماري كان مسألة جديّة عند الغرب المُستعمر: لم يتعلّموا اللغة العربيّة على يد بطرس البستاني حبّاً بالأدب العربي (قد يكون كورنيليوس فان دايك استثناء في حبه للأدب العربي لكنّه لم يكن استثناء في دافعه الديني). وكل ما قيل عن عصر النهضة (الذي يحتاج إلى مقالة نقديّة) ما هو إلا فرض الهيمنة الغربيّة مكان الهيمنة العثمانيّة، ولم يكن أقطاب عصر النهضة إلا منفّذين لرغبات الرجل الأبيض. إنّ المطبعة الأميركيّة ومشروع ترجمة الكتاب المقدّس إلى العربيّة لم يكونا يهدفان بالتأكيد لنشر العلم والمعرفة: على العكس، عندما كانت المعرفة والعلوم تصطدمان بالدين المسيحي، كان الدين ينتصر، كما حصل في قضيّة داروين (التي كتب فيها كتاباً مستفيضاً، شفيق جحا). وتقول الزميلة بتي أندرسون التي قضت سنوات في دراسة مجلّات الجامعة ومنشوراتها منذ تأسيسها (وقد أطلعتني على بعض ما عثرت عليه) أنّ التنشئة في الجامعة كانت مشابهة لبرامج التنشئة النازيّة. الجامعة كانت تعدّ شباباً عربيّاً مختلفاً (جسديّاً وفكريّاً). القولبة كانت جزءاً من هذا الإعداد، وفكرة النخبة هي في القدرة على تنفيذ المصالح الغربيّة بما يعود بالفائدة الماليّة والتجاريّة والسياسيّة على المُنفِّذ.
من يدرس في الجامعة الأميركيّة يعلم (وتعلم) أنّ المراد ان يصبح مُغترباً عن وطنه وواقعه وتاريخه: تقرأ نجيب محفوظ والطيّب صالح في الجامعة الأميركيّة، لكن تقرأهما بالإنكليزيّة ــ تصوّر وتصوّري. تصبح من دون أن تدري ــ أو تدري وتفخر ــ سائحاً في وطنك. المنهاج المُقرّر استبعد القضيّة الفلسطينيّة برمّتها. لم يكن هناك مادّة واحدة في التاريخ أو في العلوم السياسيّة عن القضيّة الفلسطينيّة: لم يكن ذلك صدفة ولا أمراً عفويّاً. كان إيلي سالم ــ وزير خارجيّة اتفاق 17 أيّار ــ عميد كليّة العلوم والآداب في أيّامي، وكان كتائبيّون وانعزاليّون وأميركيّون من ذوي النزعات الاستعماريّة يتبوّأون مناصب يُشرف عليها الرجل الأبيض ويعملون وفق تعليماته.
المشكلة تكمن في التعليم الخاص. قرّر الغرب الاستعماري ان يقنعنا أنّ التخصيص والتدويل هما طريق التنمية الوحيد (على طريقة مسخ الوطن لبنان إذ يُشرف ممثّل للأمم المتحدة على كل شؤون السياسة في لبنان، كما تشرف محكمة دوليّة على شؤون سياديّة أمنيّة وقضائيّة تحت عنوان معرفة قتلة رفيق الحريري، وتشرف قوة دوليّة على حماية إسرائيل من جنوب لبنان، والاستيراد لمصلحة الشركات الغربيّة لقتل النيّات الصناعيّة وحتى الزراعيّة). في المقابل، أنشأ النظام الناصري نحو 1000 مصنع وأنتج سيّارات وصواريخ (لا يزال ليبراليّو آل سعود يسخرون من صواريخ مصر منذ تلك الحقبة)، كما أنّ جامعة القاهرة الوطنيّة الرسميّة هي الجامعة العربيّة الوحيدة المُدرجة على قائمة أفضل 500 جامعة عالميّة الصادرة عن جامعة «جاو تنغ» في شنغهاي. إنّ الترويج للجامعات الخاصّة ينطلق من أهداف محض تجاريّة. هناك رأسماليّة متوحّشة سائدة في لبنان (أي رأسماليّة قريبة من مثال آدم سميث في كتابه «ثروة الأمم» من حيث تقليص تدخّل الدولة في الحيّز الاقتصادي إلى الحدّ الأدنى على طريق آل الحريري، السيّئي الذكر)، هناك احتقار للتعليم الرسمي وإهمال من الدولة لدعم القطاع التعليمي العام. رفيق الحريري تخرّج من جامعة بيروت العربيّة (وفكرة تلك الجامعة كانت خلّاقة ورائدة في حينه) لكنّه أغدق الملايين على جامعات النخبة الخاصّة في لبنان وعلى جامعة في... مدينة واشنطن (لكن، ما كان يمكن سعد الحريري ان يُقبل في جامعة جورج تاون لو لم يتبرّع والده بملايين الدولارات لها).
يجهل الكثيرون في لبنان وفي العالم العربي أن الجامعات في بريطانيا وفي اسوج وفي الكثير من الدول الأوروبيّة هي جامعات رسميّة. ليست هناك جامعات خاصّة في الدول الإسكندنافيّة. وجامعة كاليفورنيا في بيركلي هي جامعة رسميّة. لكن فكر النخبويّة الطبقيّة يحتقر فكرة القطاع العام: كان هذا جزءاً من دعاية الإمبرياليّة الأميركيّة في الحرب الباردة. كانت دعاية أميركا موجّهة ليس فقط ضد الشيوعيّة، بل ضد كل فكرة يساريّة أو ليبيراليّة (الليبيراليّة الحقّة هي غير النسق المبتذل على أيدي ابواق أمراء آل سعود المنتشرين في الصحف الصفراء). لا حل لمشكلة التعليم في بلادنا من دون منع الجامعات الخاصة وطردها، خاصة تلك التي تعمل وفق أجندة أجنبيّة (كنت أشاهد جلسات الاستماع الدوريّة في الكونغرس عن رصد النفقات لبرامج السياسة الخارجيّة وكان مندوبو الإدارات الحكوميّة المتعاقبة يتحدّثون صراحة عن خدمة الجامعة للمصالح الأميركيّة في الشرق الأوسط، وكانوا يلمّحون إلى خدمة هدف السلام مع العدو الإسرائيلي). إنّ تأميم كل الجامعات الأجنبيّة، وفق سياسة تعليميّة رشيدة وشاملة طبعاً (وليس على طريقة الإهمال والتسيّب والطائفيّة في حكومات مسخ الوطن)، كفيل برفع مستوى التعليم العام، وتقليص الفوارق بين الطبقات وتحويل فكرة تكافؤ الفرص النظريّة إلى تطبيق لفكرة التساوي في نتيجة التنافس، كما هو الأمر في الدول الإسنكدينافيّة.
ستستمرّ الجامعة الأميركيّة في استفزازنا وستستمرّ في العمل وكأنّها جزيرة أميركيّة أو مستعمرة في قلب الوطن العربي. لكن فكرة النخبويّة تستهوي الكثيرين والكثيرات (من أبناء النخبة ومن الطامحين إلى الانخراط في سباق النخبة ــ كان الطلّاب في الأميركيّة ايامي يضعون ملصقات على سياراتهم تقول «نحن الأفضل»)، كما أنّ الجسم التعليمي مثقل بسيطرة الإدارة، ولا يؤرّق الجسم الطلابي في أغلبه مسائل الكرامة الوطنيّة والسيادة ودحض الصهيونيّة ــ دون التقليل من حجم الفريق الناشط ضد التطبيع مع العدوّ في الجامعة ومع المقاطعة ضد مصالحه. إنّ قدرة مجلس الجامعة على استفزاز مشاعرنا سنويّاً تزداد بالدرجة التي يقلّ فيها حجم الاعتراض. قد يأتي يوم يتسلّم فيه شمعون بيريز دكتوراه فخريّة من تلك الجامعة. وقد يجلس فؤاد السنيورة في الصف الأوّل مُصفّقاً ــ إذا سادت الاستكانة.

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)