لم يعد من المسموح التعاطي مع قضية تعديل المادة 28 من الدستور اللبناني، التي تجيز الجمع بين النيابة والوزارة، كحقل تجارب لمعرفة مدى التوافق السياسي في لبنان. تمثّل هذه المادة أولوية في أي تعديل مرتقب للدستور اللبناني، كونها لا تمس بالتوازنات التي جسدها تعديل الطائف. ولذا فإنّ تداول فكرة تعديل المادة 28 من الدستور اللبناني بهدف الفصل بين الوزارة والنيابة كانت مبادرة دستورية متقدمة، إن كان من قبل أعلى المرجعيات في الدولة اللبنانية ــ رئيس الجمهورية ــ أو من قبل بعض الكتل النيابية. وقد تحرك هذا الطرح بنحو جدي عن طريق إقرار مجلس الوزراء لمبدأ الفصل بين النيابة والوزارة، بموجب مشروع القانون الدستوري المحال بالمرسوم رقم 6917 تاريخ 18/11/2011، الرامي إلى تعديل المادة 28 والمادة 41 بصورة تبعية، لمعالجة مسألة الشغور في حال تسمية النائب ليكون عضواً في الوزارة الجديدة.لكن يبدو أنّه لا إجماع سياسياً حول المسألة، والدليل على ذلك أنّ لجنة الإدارة والعدل بعد اجتماعها بتاريخ 28/3/2011 لدرس هذا المشروع قد عملت على تأجيل البت به إلى أجل غير مسمى، حسب التسريبات الصحافية. وبذلك يكون هذا المشروع قد وضع في أدراج النسيان، رغم أنّ الوضع الحالي لنص المادة 28 من الدستور فيه مخالفة وتناقض واضح مع ما تتضمنه مقدمة الدستور (التي أدخلت إلى الدستور مع تعديل الطائف في 1990) وهي جزء لا يتجزأ من الدستور، وفيه أيضاً نقض للمبادئ الدستورية العامة المعتمدة في النظم البرلمانية.

أولاً: مراحل الفصل بين الوزارة والنيابة في النظام الفرنسي (1)

نبدأ مع نص المادة 16 من إعلان حقوق المواطن والإنسان الصادر عقب الثورة الفرنسية في آب 1789 التالي نصها: «كل مجتمع لا تتأمن فيه ضمانات الحقوق ولا مبدأ فصل السلطات لا دستور له». ولهذا جاءت تباشير هذا التمسك بمبدأ فصل السلطات في فرنسا بموجب المرسومين الصادرين بتاريخ 7/11/1789 و10/1/1790، وحظّرا ان يكون ممثل الأمة عضواً في السلطة التنفيذية. وعلى هذا الأساس، طبق هذا المبدأ بموجب نص المادة 2 من الباب الثالث الفصل الثاني القسم الرابع من أول دستور لفرنسا الصادر بتاريخ 3/9/1791 بحيث منعت الجمع بين النيابة والوزارة ثم جاءت ملكية تموز (monarchie de Juillet) لتؤكد مجدداً على هذا الحظر بصورة غير مباشرة من خلال القانون الصادر في 12/9/1830، الذي فرض انتخاب نائب جديد بدلاً من الذي تم تعيينه في الوزارة.
لكن المادة 28 من دستور الجمهورية الثانية الصادر في 4/11/1848 والمادة 85 من قانون الانتخاب الصادر في 8/2/1849 قد ميزتا ما بين الوزارة وباقي الوظائف في الدولة، إذ أجازا الجمع بين الوزارة والنيابة. لكن سرعان ما عدل هذا النص بموجب المادة 44 من الدستور الصادر بتاريخ 14/1/1852 (في ظل الامبراطورية الثانية) التي حظرت أن يكون الوزراء من السلطة التشريعية.
لكن دستور الجمهورية الثالثة (في 1870) عاد ليسمح الجمع بين الوزارة والنيابة بالرغم من الاعتراضات التي سجلت في حينه. ولم تنجح كل المحاولات الهادفة إلى حظر الجمع بين الوزارة والنيابة، بدءاً من 1881 لغاية إقرار دستور الجمهورية الرابعة الصادر بتاريخ 27/10/1946، إذ جاءت المادة 45 منه لتجيز الجمع بين الوزارة والنيابة، كما كان معمولاً به في ظل الجمهورية الثالثة. ولهذا تصدى الجنرال شارل ديغول لهذه المسألة اعتباراً من 1955، إذ نجح في إقرار هذا الحظر بموجب المادة 23 من دستور الجمهورية الخامسة الصادر في 1958 التي وسعت دائرة الحظر إلى أبعد من النيابة لتشمل مواقع عامة وخاصة. أصر ديغول على هذا الحظر لأنّه وفق رأيه «السلطة التنفيذية (أي الحكم) هي وظيفة والتشريع (السلطة التشريعية) هي وظيفة أيضاً ويجب أن لا تتوحدا إطلاقاً ولا يجوز للشخص الواحد أن يقوم بالوظيفتين» (2). ويتيح هذا الفصل المزيد من الاستقلالية للسلطة التنفيذية (مجلس الوزراء)، بعد أن حدّد دستور الجمهورية الخامسة نطاق القانون وجعله من اختصاص السلطة التشريعية، بحيث اصبح كل ما هو خارجه من صلاحية السلطة التنفيذية.
هذا الحظر استمر سارياً في النظام السياسي الفرنسي ولم تنجح إطلاقاً كافة المحاولات الهادفة إلى إلغائه، بدءاً من محاولة السناتور بريلو Prélot في 1967، مروراً بمحاولات سبعينيات القرن المنصرم. وتوقفت المحاولات نهائياً بعد 1981، وأصبح مبدأ حظر الجمع بين الوزارة والنيابة من المبادئ الدستورية الأساسية والمستقرة في الفكر القانوني الفرنسي. كما أن اجتهادات المجلس الدستوري الفرنسي قد أكدت هذا الاتجاه وأبطلت قوانين عدّة لها صلة ببعض الوظائف العامة أو الخاصة والتي يشملها الحظر المنصوص عنه في المادة 23.
من خلال هذه العجالة التاريخية المقتضبة نستطيع التأكيد أنّ فرنسا بقيت أمينة على تمسكها بنص المادة 16 من إعلان حقوق الإنسان والمواطن حول أهمية مبدأ الفصل بين السلطات المشبعة بآراء مونتسكيو.

ثانياً: التناقض بين المقدمة والمادة 28 من الدستور اللبناني

من المعروف أنّ الدستور اللبناني ما قبل تعديل الطائف لم يكن يتضمن أي نص يشير صراحة إلى مبدأ الفصل بين السلطات، إنما كان هذا المبدأ مستنبطاً من التقسيم الواضح في الأبواب المتعلقة بالسلطتين التشريعية والتنفيذية، والمادة 20 المتعلقة بالسلطة القضائية، وتمّ تجاوز هذا المبدأ من خلال نص المادة 28 من الدستور. إذ عندما وضعت لأول مرة في 1926 كانت تجيز الجمع بين الوزارة والنيابة أو المشيخة (على أساس وجود مجلس للشيوخ في ظل ذلك الدستور) لكن شرط عدم تجاوز العدد ثلاثة وزراء. وقد صدّق هذا النص بما يشبه الإجماع في المجلس النيابي، إذ لم يعارضه يومها سوى النائب الشيخ يوسف الخازن، الذي رأى «انّه لا يجوز ان يؤخذ للوزارات احد من المجلسين». (انظر:أنور الخطيب ــ المجموعة الدستورية ــ الجزء الرابع ــ مؤسسة عاصي للإعلام والتوزيع بيروت 1970 ص44).
ثم عدلت هذه المادة في 1927 لتبقي على إمكانية الجمع بين الوزارة والنيابة، مع رفع العدد إلى ما لا يقل أو يزيد عن الأكثرية المطلقة من عدد الوزراء، أي إمكانية تسمية النصف +1 من عدد مجلس الوزراء. لم يعارض هذا التعديل يومها سوى النواب:عمر داعوق، عمر بيهم، الأمير فؤاد ارسلان، الشيخ يوسف الخازن، الدكتور أيوب تابت، إميل اده (أنور الخطيب ـ المرجع السابق ص 176-177).
لكن التعديل الذي حصل في 1929 (أي النص الحالي) أبقى على إمكانية الجمع من دون سقف محدد للعدد. وقد نال هذا التعديل يومها أكثرية 39 صوتاً وعارضه كل من: الشيخ يوسف الخازن، والشيخ ابراهيم المنذر (أنور الخطيب ــ المرجع السابق ص 263). ولذا جاء التطبيق العملي لهذه المادة فيما بعد ليشكل مجلس الوزراء أحياناً بكامله من أعضاء من مجلس النواب. كل ذلك بغياب أي نص يخالف هذه القاعدة.
لكن هذا النص للمادة 28 من الدستور أصبح بعد إقرار دستور الطائف، بحالة تناقض مع مضمون المقدمة، لأنّ الفقرة (هاء) من تلك المقدمة نصت على ما يلي «النظام قائم على الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها». هذا التعارض لا يمكن تجاوزه لأنّ الفصل بين السلطات أصبح قاعدة دستورية أساسية واضحة، ولم تعد مستنبطة من نص الدستور كما كان معمولاً به ما قبل تعديل الطائف (حول هذا الأمر انظر ادمون رباط، الوسيط في القانون الدستوري للبنان، ص 828).
ان مسألة الفصل هذه، لا تقبل التأويل كما هي الحال مع مسألتي التعاون والتوازن اللذين يعتبران من بديهيات الأنظمة البرلمانية المشابهة للنظام البرلماني اللبناني. إذ لا وجود للسلطة التنفيذية دون منحها الثقة من السلطة التشريعية. كما انّ مبدأي التعاون والتوازن المنصوص عنهما في مقدمة الدستور اللبناني هو واقع لا مفر منه، إذ من دون تعاون لا يمكن للسلطة التنفيذية الاستمرار في الحكم. كذلك يصبح مبدأ الفصل بين السلطات واقعاً لا يمكن تجاوزه.
إذاً، يتضمن الدستور اللبناني بنصّه الحالي تعارض واضح وصارخ بين نصين واردين في متنه. الأول: المقدمة التي تفرض الفصل بين السلطات، والثاني: المادة 28 التي تجيز الجمع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. وهذا ما يخالف المنطق العقلاني قبل المنطق الدستوري.

ثالثاً: مخالفة المادة 28 للمبادئ الدستورية العامة

من دون الاستفاضة بشرح ركائز النظام البرلماني المطبق في لبنان، يقول أدمون رباط (3): «صلاحية حل المجلس التي يستطيع رئيس الجمهورية ممارستها إزاء مجلس تظهر فيه علامات الاضطراب أو التمرد، وهو الحق التقليدي الذي يواكب السلطة الإجرائية في كل الأنظمة البرلمانية المعروفة بشرط أن يجد حكومة راضية للموافقة عليه». لذلك يسأل الباحث كيف لرئيس الجمهورية أن يمارس هذه الصلاحية المكرسة بنص دستوري (المادة 55) والتي تعتبر من القواعد الدستورية العامة في الأنظمة البرلمانية، بوجود وزارة يتألف أعضاؤها بالكامل من المجلس النيابي في لبنان، مع العلم أنّ الركيزة الأولى لهذا النظام هو مبدأ الفصل بين السلطات. ترى ألم ينبهنا مونتسكيو منذ أكثر من قرنين من الزمن الى أنّ الطبيعة البشرية بتكوينها تميل إلى الانحراف عند تسلمها أي سلطة ولذا علينا خلق سلطات أخرى لكي نتوصل إلى تطبيق قاعدة «السلطة تحد السلطة» من أجل ضمانات حقوق الإنسان وحرياته؟ هذا هو لب وغاية المادة 16 من إعلان حقوق الإنسان والمواطن التي ذهبت بعيداً بالقول: إن لم يكن هناك مبدأ فصل السلطات لا دستور لهذا المجتمع أو ذاك.
وما دمنا نتحدث عن المبادئ الدستورية العامة علينا تحديد طبيعتها، ومن يحدّدها. إنّ المبادئ الدستورية العامة هي توصيف قانوني اعتمده القضاء الدستوري في العالم مقتبساً ما اعتمده القضاء الاداري حول تمسكه بالمبادئ القانونية العامة والتي استنبطها من خلال اجتهاداته المتتابعة. إذ أضحت مصدراً من مصادر القانون ليعمل القضاء الاداري على إبطال كافة أعمال السلطات الادارية المخالفة لروحية تلك المبادئ القانونية العامة.
ولهذا اعتمد القضاء الدستوري آلية مشابهة ليستنبط من نص الدستور مبادئ دستورية عامة تعتبر ملزمة للمشرع أينما وجد، والأمثلة كثيرة في لبنان ــ أو حول العالم. ومن هذه الأمثلة، قرار المجلس الدستوري اللبناني المتعلق بإبطال قانون تجديد ولاية المجالس البلدية والاختيارية في لبنان أواخر تسعينيات القرن الماضي لأنّ ذاك القانون جاء يومها مخالفاً لمبدأ دستوري غير منصوص عنه في الدستور، وقد استنبطه المجلس الدستوري اللبناني من خلال قراريه رقم1/97 و2/97 تاريخ12/9/1997. القرار يقول إنّ مبدأ دورية الانتخاب هو من المبادئ الدستورية العامة ويجب على المشرع التقيد بها.
إذاً، الدستور اللبناني جاء واضحاً من خلال مقدمة الدستور على إقرار مبدأ الفصل بين السلطات، بحيث لم يعد القضاء الدستوري في لبنان ملزماً بالتدقيق والسعي إلى استنباط هذا المبدأ، لأنّه واضح وصريح، عندما يطرح عليه طعن بقانون يستند إلى خرق مبدأ فصل السلطات. وهذا ما طبّقه المجلس الدستوري في لبنان في معرض قراره رقم2/95 تاريخ25/2/1995، وابطل يومها عبارة «وذلك في غياب القاضي او العضو المعني» من المادة الثانية من القانون 452/1995، لأنّها تنطوي على تدبير غير دستوري، لمخالفتها الضمانات الدستورية المنصوص عنها في المادة 20 من الدستور.
من هنا نستنتج هذا التناقض الواضح بين النصين، إذ لا يجوز أن تبقى المادة 28 على نصها القديم، الذي يخالف مبدأ الفصل بين السلطات. وبعض الآراء التي تتلطى وراء الواقع اللبناني وطبيعته الداخلية، تتمسك بضرورة الاستمرار بتطبيق المادة 28 واجازة الجمع بين الوزارة والنيابة، وموقفها ذاك يتناقض مع النص الدستوري والمبادئ الدستورية العامة التي تهدف إلى التوازن بين السلطات. إذ كيف يعقل أن نقنع أنفسنا أنّ رئيس الجمهورية بموجب سلطاته الدستورية (م55) يستطيع أن يضع موضع التنفيذ مرسوماً يقضي بحل المجلس النيابي، طالما أنّ قراره هذا يرتبط بموافقة ثلثي مجلس الوزراء، الذي يحتوي على عدد كبير من النواب، لن يقبلوا بحل المجلس الذي ينتمون إليه. كما أنّ استمرار هذه المادة من شأنه تعطيل مبدأ دستوري أساسي في الأنظمة البرلمانية والذي يقوم على الرقابة المتبادلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. إذ هل تقوم السلطة التشريعية باجراء رقابتها الدستورية، على مَنْ هم مِنْ أعضائها ويشكلون السلطة التنفيذية أي مجلس الوزراء؟ أي منطق عقلاني أو قانوني يسلم بفاعلية هذه الرقابة المتبادلة من السلطتين والذي هو أساس نشوء الأنظمة البرلمانية، في ظل الجمع المتاح بموجب المادة 28 من الدستور.

الخلاصة

إذاً، من غير الجائز عدم التحرك الفوري لتعديل المادة 28 من الدستور اللبناني، لأنّ الإبقاء عليها وعلى الجمع بين الوزارة والنيابة إنما يجعل دستورنا بحالة تناقض بين نصين واضحين، يتعطل من خلالها قواعد ومبادئ دستورية عامة تعتبر من أعمدة النظام البرلماني الذي يطبقه لبنان. لذا نأمل من نوابنا الكرام، إن في لجنة الإدارة والعدل، أو في الهيئة العامة، العمل ومن دون تردد على وضع مشروع القانون الوارد لتعديل المادة 28 بموجب المرسوم رقم 6917 قيد البحث الموضوعي. كذلك يجب أخذ العبر من الواقع السياسي الذي يعيشه لبنان في ظل هذا الجمع وما ينجم عنه من تعطيل للحياة السياسية، وذلك بهدف الاسراع في التوافق على تعديل هذه المادة. توافق يتطلب التقاء إرادتي السلطة التشريعية والتنفيذية بأكثرية ثلثي المجلسين وبموافقة رئيس الجمهورية (وفق احكام المادتين 76 و 77 من الدستور) على أن يبحث بموضوعية مسألة تعديل المادة 41 ــ تبعاً لتعديل المادة 28 ــ لإقرار أفضل السبل إلى ملء الشواغر في السلطة التشريعية عندما ينتقى النائب ليكون من عداد السلطة التنفيذية، وتخليه الطوعي عن المقعد النيابي لدخول الوزارة. قد تكون الوسيلة الأفضل هي تطبيق مبدأ النائب الرديف لكل نائب ينتخب في كافة الدوائر الانتخابية، وهذا ما يلقى على عاتق قانون الانتخاب المنتظر، والذي لا شأن له بتعديل الدستور.

هوامش

(1) للمزيد من التفاصيل عن هذه الوقائع يرجى مراجعة مقالة Michel Ceora في François luchaire… La constitution Française Economica 1987 PP 609.
(2) انظر آميل بجاني تقديمه لكتابنا «شرح أحكام الدستور اللبناني»، المؤسسة الحديثة للكتاب ــ طرابلس 2012.
(3) إدمون رباط «الوسيط في القانون الدستوري للبنان» دار العلم للملايين ــ الطبعة الأولى، 1970، ص830.
* استاذ القانون الدستوري في الجامعة اللبنانية وفي الدراسات العليا في الجامعة العربية