شركة "يونا أويل"، محور فضيحة الفساد التي ضربت القطاع النفطي، هي شركة مقرّها موناكو وقد أسسها عطا أحساني ــ رجل أعمالٍ من أصلٍ إيراني ترك إيران بعد الثورة ونقل أعماله الى أوروبا ــ ويعاونه في إدارتها ولداه: سايروس وسامان، وهما، الى جانب عطا، يظهران في قلب كلّ صفقة فساد ورشوة أجرتها "يونا أويل" (يقول تحقيق "هافينغتون بوست" و"فيرفاكس ميديا" إنّ الطبيعة العائلية للشركة تسهّل عمليات الفساد، وتسمح بإبقاء تفاصيلها سرية ومحصورة ضمن دائرة مغلقةٍ وموثوقة من الأقارب). ميزة التسريبات، التي تحوي مئات آلاف الرسائل بين أركان الشركة، هي أنّها تكشف بوضوح وبوثائق أصيلة لا تترك مجالاً للشك أو التفسير تورّط الأفراد المذكورين في تلقي الرشى، ومقدار كل صفقة وسياقها وتاريخها (كان مديرو الشركة يستخدمون رموزاً، فالمليون دولار هو "يوم إجازة"، وحسين الشهرستاني هو "المعلّم"، فيما عبد الكريم لعيبي هو "السيد ام")، إضافة الى تقديم صورة "حيّة" وواقعية عن عمل نظام الفساد في العراق.
هنا، يجب أن نتذكّر أنّ "يونا أويل" ما هي إلّا شركةٌ واحدة، صغيرة نسبياً (ثروة عائلة أحساني تقدّر بعشرات ملايين الدولارات. فهم، كوسطاء، ليسوا من "اللاعبين الكبار")، وعملها محصورٌ أساساً في قطاع واحد، هو النّفط. علينا أن نتخيّل، إذاً، تعميم هذا النموذج على مئات الشركات والوسطاء الناشطين في العراق، وآلاف العقود في مختلف المجالات، من الصناعة الى الدفاع ومشتريات السلاح، حتى نفهم كمية المال التي نُهبت من الشعب العراقي في السنوات الماضية. هذه الأمور كلّها، بالطبع، لم تكن سرّاً و(حتى لا نعقد مقارنات دراماتيكية مع النظام العراقي قبل ثورة 1958، مع أنها قد تكون مقارنة جائزة) لم يكن من الصعب على أي مراقب موضوعي أن يستنتج أن هذه المؤسسة، التي خلقها الاحتلال واستمرّت ــ بشكل ما ــ بعد رحيله، هي في طريقها الى الهاوية. منذ سنوات في بيروت، وصف لي صحافي أجنبي مظهر مسؤولٍ عراقي رفيع وتصرّفه خلال مناسبة دبلوماسية كان يغطيها؛ التفاصيل مخجلة، لكنّني، في البداية، لم أصدّق بأن هناك سياسيين يستعرضون فسادهم المالي والأخلاقي، والثراء غير المشروع، بهذه الصورة العلنية والفاضحة. ثمّ فهمت بأنّ هذا السياسي (وهو ينتمي الى حزبٍ "إسلامي") ليس استثناءً، وأنّ أغلب نظرائه يتصرفون مثله في بيروت. الشخصيات المتورّطة في الفضيحة ما زالت كلّها في مناصب عالية، الشهرستاني هو اليوم وزير التعليم، فيما مدير "نفط الجنوب" الفاسد أصبح وكيل وزارة، ولا نتوقّع أن تؤثّر هذه الوقائع على حياتهم السياسية، ناهيك عن محاسبتهم أو حتى مطالبتهم بإعادة أموال الرشى.
غير أنّ قضية "يونا أويل" تكشف، في ما تكشف، عن خرافتين تتعلقان بالفساد وجذوره في بلاد الجنوب. الخرافة الأولى هي عن معايير "الفساد" ومفهومه وأسبابه، والخطاب الغربي (الذي تبثّه المنظمات الدولية) حول الموضوع، والذي ينسب الفساد إمّا الى "قصور مؤسساتي" (غياب هيئات الرقابة، عدم اعتماد بنى ومعايير غربية، الخ...) أو الى سببٍ ثقافي لا يتناقض مع الرؤية المؤسسية، حيث يُرجع الفساد الى ثقافاتٍ (متخلّفة) لم تترسخ فيها قيم النزاهة والحوكمة، وهي تحتاج ــ كما المؤسسات ــ الى "إصلاح" تقوده، وتقرّر محتواه، الخبرة والنماذج الغربية. هنا، يجب أن نتذكّر أنّ العراق يمثّل النموذج الأكمل لـ"التجريب الاستعماري"، حيث تمّ غزو البلد عسكرياً، وتحطيم مؤسساته القائمة وإزالتها، وبناؤها من جديد تحت إشراف المستعمِر. أغلب مؤسسات الدولة في العراق صُنعت، من أسسها ومنذ السنوات الأولى لـ"العراق الجديد"، على يد الأميركيين، وتحت أنظار منظماتهم ومستشاريهم، ووفق معاييرهم ونماذجهم. هم بنوا المؤسسات السياسية والإدارية، هم كتبوا الدستور والنظام الانتخابي، قرّروا نيابة عن العراقيين شكل الاقتصاد ومبادئه، واستدخلوا كلّ هيئات الرقابة والمحاسبة التي نجدها في العالم الغربي. وهم، أيضاً، أحضروا طاقماً للحكم وجعلوا منه نخبةً وأحزاباً وعائلات مستحكمة (لمن يسأل "وما علاقة الأميركي بفساد المسؤول العراقي؟" هل يعتقد، حقاً، أن مثل هذا المسؤول، وكلّ الطبقة التي جلبها الغزو، كان من الممكن ــ في مليون سنة ــ أن تحكم العراق لولا الأميركيون؟ أو أن تصل الى مراكزها الحالية عبر الإرادة الشعبية أو بقوتها الذاتية؟).
كان الادعاء الأميركي خلف مشروع الغزو أنّ هذا الاستعمار يهدف، تحديداً، الى إصلاح ما تعطّل في ثقافتنا ومؤسساتنا، من "نقص الديموقراطية" ووصولاً الى الفساد؛ وهي الحجة التي نجدها في كتاب فؤاد عجمي الأخير عن غزو العراق (هو يعتبره "تحريراً"، بالطبع). النتيجة أنّ الأموال التي سُرقت و"ضاعت" خلال سنوات من حكم هذا النظام، الذي بناه المستعمر الغربي على صورته، كانت أكبر بكثير من مجموع ما سرقه "طغاة" العرب ــ وعائلاتهم وشركاؤهم ــ مجتمعين على مدى عقود.
الخرافة الثانية يردّدها من يحنّ الى العهود الملكية في العراق ومصر (أو يغطّي رجعيته وطبقيته خلف هذا الحنينِ) ويعتبرها أنظمة "ليبرالية" كان يحكمها "أولاد ناس" كفوئين؛ وأن السياسة بارت وانتشر الفساد حين وصل "الرعاع"، من طبقات الشعب السفلى، الى كرسي الحكم عبر القوة والانقلاب. منذ فترة، اشتكى سياسيّ عراقي موصليّ مباشرة وبصراحة، من "الرعاع" ونادى بإخراجهم من مجال السياسة، واستبدالهم بأناسٍ متعلّمين، "أكفاء"، وغرباويين مثله (هؤلاء، على ما يبدو، لم يقرأوا عن العهد الملكي في العراق والفساد الذي اعتراه، وكيف صارت عائلة تجارية بغدادية كآل الجلبي، مثلاً، من أكبر ملاكي الأرض الزراعية في البلد بعد سنوات من حكم الإنكليز). في العراق المحتلّ عام 2003، استُحضرت كلّ النخب القديمة والجديدة ــ من غازي عجيل الياور الى "أرستقراطيي" النجف، الى مصرفيي لندن ــ لاستبدال "البعث"، فأظهر أبناء هذه العائلات "الرفيعة" شراسة ونهماً في النهب لم يجرؤ عليها أيٌّ من "فلّاحي" العوجة (وصدّام ومن حوله، في نهاية الأمر، كان يهمّهم بقاء النّظام واستمراره، وما كان من الممكن أن يسمحوا بهذا المستوى من النهب والسرقة).
قصّة "يونا أويل" ما هي إلّا عيّنة، ودليلٌ جديد على الجذور السياسية للفساد. ولكن العراق قد يكون أمثولةً لمن يدعو اليوم ــ في سوريا وغيرها ــ الى "تدخل" و"انتدابٍ" أجنبيّ، يحكمنا ويحلّ مشاكلنا، ويعتقدون أنهم بهذا يقدّمون فكرةً "جريئة" أو "جديدة"، لم يسبقهم إليها أحد. ولكن، من ناحية أخرى، لو كان مثل هؤلاء الناس يتعلّمون من التاريخ والتجربة والبرهان، لما كنّا نقف هنا اليوم أساساً.