سيمر وقت طويل، حتى يدرك السوريون أنّ المجلس الوطني السوري كان إحدى العصي التي فرملت انتفاضتهم، رغم أنّه بدا كأنّه المنقذ الحقيقي لهم في اللحظات الأولى من تشكله، حين نطق بالعبارة السحرية «إسقاط النظام» التي رددها الشارع المتظاهر آنذاك، منتظراً من معارضته التقليدية الارتقاء إلى مستوى شجاعته؛ إذ إنّ الجماهير عموماً تبحث دوماً عن المخلص وعمن يتبنى أحلامها ونضالاتها، حتى لو قادها إلى الهلاك.هذه دروس التاريخ، فالجماهير العربية نزلت إلى الشارع لتعيد جمال عبد الناصر بعد استقالته الشهيرة، رغم أنّه خسر في «حرب حزيران» وكان مستبداً، وكذلك فعل الأتراك بالتفافهم حول أتاتورك الذي أعاد لهم الكرامة التركية، رغم أنّه وقف عكس معتقداتهم الدينية.

كان يمكن المجلس الوطني السوري، أن يؤدي هذا الدور حقيقة، وخاصة أنّه في بداية تشكله حاز إجماعاً كبيراً في صفوف الشارع المتظاهر (وليس الشارع السوري ككل كما يدعي بعض أنصاره). إجماع لم يسبقه إليه أي فصيل سياسي آخر، ولكن حين تبدى أنّ أداءه السياسي أقرب إلى المراهقة السياسية، تراجعت شعبيته كثيراً، ولكن بعد أن انعكست سياساته سلباً على الداخل السوري وعلى مسار الانتفاضة عموماً، وخصوصاً حين ساعد على إدخالها في نفق التسلح الذي قد يكون مقتلها، سواء انتصر النظام أو سقط على أيدي دول تريد كل شيء إلا ديموقراطية السوريين وحريتهم.
هذا النقد يساجل سياسات المجلس الوطني المعلنة بعد مضي أكثر من عام على الانتفاضة السورية، لقراءة ما قدم لهذه الانتفاضة عملياً، وما سحب منها، ليتم إجمال الأمر في أربع نقاط. النقطة الأولى: طرح المجلس الوطني منذ بداية تشكله، قضية الاستعانة بالخارج وطلب التدخل العسكري، ليزرع الشرخ الأول الذي أصاب القاعدة الاجتماعية للانتفاضة؛ لأنّ كثراً من المنتفضين الأوائل (إن لم نقل كلهم) كانت مسلماتهم الأولى تتركز على رفض التسلح والتدخل الخارجي تحت أية صيغة كانت، عبر العمل على تقوية القواعد الاجتماعية وتوسيعها، واستنباط أساليب عمل مدنية جديدة على الأرض ترهق آلة النظام الأمنية وتحيّد قوته العسكرية. هنا عمل المجلس على ضرب قواعد عمل أساسية كان شبان الانتفاضة على الأرض، قد عملوا شهوراً مديدة عليها. كانت كتل كثيرة من الانتفاضة تعمل في مجال توعية الناس بعدم الركون إلى غريزة الدم والثأر، والمحافظة على السلمية، وقد نجحت هذه الكتل بنحو كبير حتى لحظة تشكل المجلس الوطني، وكان هذا عملاً أقسى من التظاهر بحد ذاته، إذ كيف تقنع شعباً خرج للتو من سنوات طويلة من الاستبداد، ولا يمتلك ثقافة تظاهر أساساً، وهو معبأ بحقد تاريخي متراكم على النظام وآلته الأمنية، بعدم استخدام السلاح وبعدم الركون إلى غرائزه، وهو الذي يشاهد أهله يقتلون؟ إذ كان من السهولة بمكان دفع الناس إلى التسلح آنذاك واستغلال غرائزهم، لأنّه العمل الأسهل، بينما كان خوض معركة الوعي مع الجماهير المنتفضة، لبناء تراكم يقطع مع ثقافة العسكرة والاستبداد هو العمل الصعب، وقد نجح جزئياً، إلى حين تشكل المجلس الوطني الذي أوهم الناس بالتدخل العسكري القريب، ودفعهم نحو التسلح، مدمراً قسماً كبيراً مما بنته التيارات المدنية على الأرض. هكذا حصل أول شرخ بين الجماهير التي كانت موحدة حول مطالبها، لتنقسم بين من يؤيد التدخل الخارجي ومن يرفضه رفضاً باتاً. وهذا الأمر نفسه انعكس على المعارضة التقليدية التي انقسمت بين شقين، أحدهما يرفض التدخل (هيئة التنسيق والمنبر الديموقراطي وتيار بناء الدولة وائتلاف اليسار ووطن وغيرها) وبعضها يقبل التدخل (المجلس الوطني وتوابعه).
فضلاً عن ذلك، سنجد هنا أنّ المجلس الوطني وقع في خطأ سياسي مميت، حين طلب التدخل في الوقت الذي تعلن فيه كل دول العالم أنّها لن تتدخل عسكرياً في سوريا (حتى الآن على الأقل)، ليبدو في مظهر من الغباء السياسي الذي قل نظيره؛ إذ استطاعت تلك القوى أن تورط المجلس بطلب التدخل، لتضعه في خصومة واضحة مع المعارضة السورية التي ترفض التدخل جملة وتفصيلاً، ومع القسم الكبير من السوريين الذين يرفضون التدخل بكافة أشكاله. وهنا نلاحظ أنّ المجلس الوطني ارتكب خطأً مميتاً بحق قوى الانتفاضة حين أوهمها بقرب هذا التدخل، ودفعها إلى الأمام لتواجه آلة قمع لا ترحم؛ إذ زادت وتيرة القتل بعدها، ومن دون إعفاء النظام من ذلك طبعاً، ولكن من دون إعفاء المجلس أيضاً من قصة فشله في حماية المدنيين، عبر مساهمته في دفعهم نحو هذا المجهول المميت. هنا مسؤولية المعارضة تكمن في اختيار الطرق الأكثر أماناً للشعب في مواجهته آلة الاستبداد، لا في اختيار أكثر الطرق وعورة. وهو ما حصد ثمنه الناس عموماً، عبر تحويل مناطق التظاهر إلى مناطق عسكرية مغلقة.
النقطة الثانية: وتتمثل باحتكار المعارضة. منذ بداية تشكل المجلس قدم نفسه على أنّه الممثل الوحيد للشعب السوري، وعمل جاهداً (ولا يزال) على احتكار العمل المعارض على قاعدة طلب الالتحاق به، ولو على عكس قناعات المعارضين الآخرين لسياسة المجلس وأدائه، وهو الأمر الذي أساء للمجلس الوطني حقيقة، وللانتفاضة عموماً؛ إذ بدا المجلس كأنّه يحاصص على سلطة (محمد فاروق طيفور يقول إنّها سوريا خالد بن الوليد لا سوريا الأسد! هل من فرق؟) أكثر مما يسع لبناء دولة مدنية ديموقراطية، فضلاً عن أنّ سعيه إلى احتكار تمثيل المعارضة السورية يتعارض مع أسس الديموقراطية التي يطالب بها السوريون؛ إذ كيف يقبل أعضاء المجلس لأنفسهم السعي إلى احتكار كهذا، وفي الوقت نفسه يدعون إلى الديموقراطية، وفي الوقت الذي يكسر فيه الشعب كل احتكار السلطة على الأرض! هنا عجز المجلس ومعه المعارضة بكافة أطرافها عن أن يكونوا ديموقراطيين في التعامل في ما بينهم. ودليل ذلك أنّ المجلس حتى اللحظة، بعد مضي عام على انطلاق الانتفاضة السورية، لم يقدم بياناً تفصيلياً عن كيفية عمل الدولة المقبلة وشكلها ودستورها، ومدى حضور الشريعة بها (لأن أغلبيته من الإسلاميين)، ولم يقدم برنامجاً اقتصادياً أو اجتماعياً، وهو ما يجعل الخشية منه عند وصوله إلى السلطة قائمة، قياساً للنتائج التي عاينها الشعب السوري في نتائج الثورات العربية الأخرى. في المقابل، النظام قدم دستوره رغم سوئه المطلق، فهل قدم المجلس أيّة وثيقة تفصيلية تطمئن الجماهير والكتل المنتفضة؟
النقطة الثالثة: العلاقة مع الخارج، وهي تتعلق بما يشاع عن ارتباطات بعض أعضاء المجلس الوطني السوري بجهات (نادي واشنطن مثلاً) وأجندة خارجية، بدءاً من بسمة قضماني وعلاقتها بالإسرائيليين، إلى محمد فاروق طيفور وملهم الدروبي وحضورهما مؤتمر الصيهوني برنار ليفي لدعم المعارضة السورية، إلى الجلوس الحميم لبعضهم في الأحضان القطرية والسعودية ذات السجل المخجل في دعم حقوق الإنسان والديموقراطية. وهنا لسنا ضد الاستفادة من العلاقات الدولية لدعم القضية السورية، ولكن ضد إدراج القضية السورية في أجندة لا ناقة ولا جمل لنا بها، وضد الارتهان لمطالب تلك الدول، إذ لم نعد نعرف من هو رئيس المجلس الوطني فعلاً، هل برهان غليون أم داوود أوغلو أم حمد بن جاسم (الأخيران يطالبان بكل صفاقة وعلناً المعارضة السورية بالالتحاق بالمجلس الوطني! فضلاً عن توجيه دعوات للمعارضين الآخرين لحضور مؤتمرات المعارضة السورية). كذلك يُعَدّ الموضوع الإسرائيلي خطاً أحمر لا يمكن أياً كان تجاوزه، وأي محاولة لجر سوريا خارج هذا السياق تعني الصدام مع قوى الانتفاضة قبل أي شيء آخر. وهنا كان خطأ برهان غليون المميت حين أوحى بإمكانية فك الارتباط السوري الإيراني، والتخلي عن دعم المقاومة بكافة أشكالها وبقاء أسلوب تحرير الجولان غائماً؛ إذ إن دعم المقاومة هو مبدأ يجمع عليه كل السوريين (بغض النظر عن موقف حزب الله من الانتفاضة السورية).
النقطة الرابعة تتعلق بتدويل الصراع وأقلمته؛ إذ في الوقت الذي عمل النظام على تحويل معركته مع الداخل السوري إلى معركة إقليمية ودولية عبر دفع قوى إقليمية ودولية إلى أن تصبح لاعباً فاعلاً في الداخل السوري، وقع المجلس الوطني السوري في الفخ نفسه حين أعطى مشروعية لكل الدول الأخرى (تركيا وقطر والسعودية وبريطانيا وفرنسا وواشنطن) لتكون طرفاً مقابلاً، بحيث أصبحت سوريا ساحة صراع، غاب عنها النظام والداخل اللذين أصبحا مجرد أدوات لتلك القوى التي قد تتصالح في ما بينها على حساب حرية الشعب السوري وكرامته في أية لحظة.
لا يمكن فصل التحالفات الخارجية عن قصة الأهداف التي تتبناها أية معارضة؛ لأنّ هذا الأمر يعطي صدقية لقوى الانتفاضة في تحقيق ما تصبو إليه. سابقاً كانت الثورات تتجه عموماً نحو طلب دعم الدول التي حققت ما كانت تصبو إليه، فيما يبدو أنّ المجلس الوطني يطلب الديموقراطية من دول آخر ما يهمها الديموقراطية وحقوق الإنسان. هنا يمكن التفريق بين استخدام هذه الدول براغماتياً في لعبة السياسة (وهذا حق مشروع) لمصلحة الانتفاضة عبر الاستفادة مما تتيحه من وسائل دعم للانتفاضة (إعلام – دعم – موقف سياسي) وبين الاندراج ضمن أجندة هذه الدول، وجعل الانتفاضة السورية تسير في ركاب ما تريد، أي أسلمتها على نحو ما تريد قطر وتركيا والسعودية، وجعل الموقف من القضية الكردية خاضعاً للرؤية التركية، بدلاً من أن يكون خاضعاً لرؤية وطنية سورية. النقطة الخامسة تتعلق بالدفع نحو تسليح الانتفاضة، إذ تبنى المجلس الوطني التسلح ودفع الناس باتجاهه دون وجود أية رؤية فعلية لتحقيق ذلك، وقبل مناقشة إن كان الوضع الداخلي يحتمل ذلك حقاً. تتبع هذا الأمر يكشف أنّ هذا الأمر هو الخطأ المميت الذي ارتكبه المجلس، إذ بدا تصرفه بهذا الشأن وكأنّه مراهقة من النوع القاتل. لنقرأ هذا البيان للجان التنسيق المحلية المنضوية، والتي أرادته مراجعة للانتفاضة وعملها: «عناصر الجيش الحر دافعوا ببسالة وشجاعة نادرة عن المدنيين وعن مناطقهم، بما تيسر لهم من سلاح خفيف وذخيرة قليلة. لكن كما هو متوقع، فقد تمكنت آلة القمع العسكرية للنظام من استعادة مواقعها في غير مكان، والتنكيل بأهالي المناطق التي نشط فيها الجيش الحر والانتقام منهم بوحشية... غياب دعم منظم وواضح للجيش الحر أدى الى عدم وجود قيادة فاعلة ومؤثرة وذات قرار على مستوى العمل العسكري المعارض». هنا يبقى السؤال: هل ثمة عاقل في الدنيا يدفع الناس باتجاه التسلح وتبني الجيش الحر للكفاح المسلح، وهو يعرف في الوقت نفسه أنّه لا يوجد دعم منظم ولا قرار واضح ولا خط إمداد للمسلحين! ألا يجب أن يكون اللجوء إلى السلاح قراراً مدروساً وفق خطط عسكرية تأخذ في الاعتبار كل تفصيل بدءاً من المقاتل إلى توفير الذخيرة ووصولها؟ ألا يثبت هذا الأمر أنّ هؤلاء الذين يجلسون في فنادق «الخمس نجوم» يتعاملون مع التسلح كخيار ترفيهي للشعب السوري الذي يقتل ويستشهد! وإذا كان التسلح (أي تسلح) بحد ذاته خياراً سيئاً، فما لك حين يكون ارتجالياً ومراهقاً باعتراف لجان التنسيق نفسها؟! هنا إذا أردنا أن نبقى ضمن حدود النية الحسنة، لأن ثمة رؤى أخرى تقول بأنّ المجلس الوطني لم يكن إلا الأداة التي استخدمت من قبل قوى دولية لجر الداخل السوري إلى استنزاف قواه الموالية والمعارضة؛ إذ بينما أصبح النظام أداة روسية/ إيرانية/ صينية، أصبحوا هم أداة الطرف المقابل! وحتى لو جرى توفير كل ما سبق للمسلحين على الأرض، فهل الدول الداعمة لمشروع كهذا، ستسلح فقط لأنّها تريد ديموقراطية السوريين؟! الأطفال في السياسة يدركون أنّ لعبة الأمم تقوم على المصالح، فهل يقدر المجلس على الإفلات من براثن مطالب تلك الدول؟ أم أنّه سينقلنا من محور روسي _ إيراني إلى محور أميركي _ تركي _ سعودي _ قطري؟ وهل هذا ما تريده الانتفاضة والسوريون حقاً؟
ويضاف إلى ما سبق انعكاس التسلح داخلياً؛ إذ أسهم في تحييد جهات فاعلة في الانتفاضة السورية، وكان لها الدور الفاعل في إطلاقها؛ إذ حوصر أنصار السلمية بين مطرقة النظام وسندان التسلح، عدا عن إسهامه في إخراج الكتلة الصامتة من دائرة الصراع السياسي، لتزيد عزلتها وصمتها. خلاصة القول، أنّ المجلس الوطني بأخطائه المميتة أسهم في حرف الانتفاضة عن مسارها، من السلمية إلى التسلح، ومن الوطنية الداخلية إلى الخارج اللاوطني، ومن الاندراج ضمن مشروع مقاوم بشكل حقيقي (بعيداً عن سجالات الممانعة الرثة) إلى الاندراج ضمن مشروع ملحق، وهذه كلّها ضد طموحات السوريين الذين ناضلوا كي لا يحتكرهم أحد، وكي لا يدخلوا في أجندة أحد إلا أجندة الدولة الوطنية العلمانية الديموقراطية التي تدعم المقاومة وتريد استرداد أراضيها المحتلة بكافة الطرق المشروعة.
* شاعر وكاتب سوري