لزعماء طوائف لبنان سمات خاصّة بهم، وهي كثيرة. زعامات العائلات في الطوائف تكاد تنقرض، لكن الجنبلاطيّة تحافظ عليها عبر شدّ العصب الطائفي في كل المنعطفات، وخصوصاً أنّ الأقليّة تغرق في صراع الأكثريّتين في لبنان. وتحافظ الزعامة الجنبلاطيّة على دورها عبر الرفض القاطع للنسبيّة الذي كان جزءاً من البرنامج المرحلي للحركة الوطنيّة التي ترأسها أبو وليد جنبلاط، قبل أن يرثها ابنه. طبعاً، لم تعد تحوّلات وليد جنبلاط وتقلّباته خبراً يستحق التعليق. باتت سيرة جنبلاط السياسيّة موضوعاً للتندّر والهزل، لا للدراسة الجادّة. ينطبق على وليد جنبلاط ما قاله المُستعمِر البريطاني قديماً عن القبائل الأفغانيّة: إنّها للإيجار، لا للبيع. وقد تسنّى لجنبلاط أخيراً تحقيق حلمٍ راوده على امتداد أكثر من سنة: الحصول على صك غفران سعودي، والتكرّم عليه بجلسة دقائق مع الملك السعودي. وقد جهد جنبلاط، وأجهدنا معه، على امتداد السنة الماضية وهو يتحرّق تملّقاً لآل سعود طمعاً بالعودة إلى حظيرة الأمير مقرن ــ المُدير الفعلي لكل فريق 14 آذار.لم يكن جنبلاط متأكّداً أنّه سيخسر الرعاية السعوديّة الماليّة له ــ والتي أفاض في مكاشفة السفير الأميركي بأمرها في «ويكيليكس» ــ عندما قرّر أنّه سينقلب على 14 آذار. تعوّد عبر السنوات أن يتقلّب ويتحوّل بمضاعفات وأثمان قليلة: طعن حزب الله في الظهر والخاصرة، لكن الحزب لا يزال يرحّب به متى شاء. يعتمد جنبلاط على طاعة طائفيّة ــ قبليّة لم تعد موجودة في أيّ من الطوائف اللبنانيّة في القرن الحادي والعشرين. قل (وقولي) إنّها من مخلّفات القرون اللبنانيّة الوسطى. لكنّ هناك احتمالاً لكتابة سيرة وليد جنبلاط السياسيّة من منظار المعايير الماليّة. لم يترك جنبلاط باباً من الارتزاق المالي إلا طرقه. أقام علاقة طويلة مع النظام الليبي، وأرسل له نخبة من مرتزقته كي يشاركوا في حروب الطاغية، لكنّه قطع العلاقة مع العقيد ــ يا للمبدئيّة ــ عندما توقّف الأخير عن الدفع. وجنبلاط هذا لم يجد غضاضة في أن يركب مركب «تحرير» ليبيا، وأن يكون أوّل زائر لبناني لها بعد سقوط العقيد. يظنّ جنبلاط أنّ العالم خارج حدود المختارة سيجد في التقلّبات الانتهازيّة ما يجد فيها «التقدميّون الاشتراكيّون» من الطرافة والظرف. ويظنّ أنّ ذاكرة الناس قابلة للمحو بتحوّل واحد فقط. صحيح أنّ جنبلاط اصطحب إلى ليبيا مستشاره لشؤون النفط و«البزنس»، لكن الزيارة لم تكن موفّقة لأنّه عاد من ليبيا أكثر إلحاحاً على عودة الأمور إلى مجاريها الذيليّة مع الحكم السعودي. وفي فترة الجفاء مع السعوديّة، طار جنبلاط (مُصطحباً مرّة أخرى مستشاره لشؤون النفط و«البزنس») إلى شمال العراق واكتشف ــ هكذا فجأة ــ أصوله الكرديّة، لعلّها تصيبه برذاذ من العائد النفطي هناك. وقلّة تعلم أنّ جنبلاط في سنوات الحرب الأهليّة حاول أن يفتح خطّاً ماليّاً مع نظام صدّام حسين، لكن راعيه السوري آنذاك أمره بأن يقطع العلاقة تلك، فلبّى النداء (لم يكن جنبلاط البريء يعلم آنذاك أنّ النظام السوري نظام دموي، وكان يظنّ أنّ الأخبار عن مجزرة حماه في 1982، لم تكن أكثر من شائعات لا أساس لها من الصحّة. لكن جنبلاط، بعد قراءة متأنيّة للوضع السوري استمرّ لثلاثة عقود ــ اكتشف أنّ النظام السوري ليس ديموقراطيّاً، خلافاً لحلفائه في الأنظمة العربيّة، مثل نظام مبارك والنظام السعودي «العاتب»).
ماذا يريد الملك السعودي من جنبلاط كي يغفر له؟ ما عدنا نتحمّل مظاهر التملّق والإذلال التي تعتري أداء جنبلاط منذ أبلغ الأمير مقرن غازي العريضي أنّ الحكم السعودي يعتبر العلاقة مع جنبلاط مقطوعة لأنّه سمّى نجيب ميقاتي دون إذن سعودي (والطريف أنّ جنبلاط يروي تلك القصّة دون أن تحمرّ وجنتاه خجلاً، لا بل هو يوفّق بينها وبين كلام له في مناسبة وفاة الأمير سلطان عندما قال: «إنّ المملكة وقفت دائماً على مسافة واحدة من جميع اللبنانيّين ولم تميّز بينهم في أي ظرف من الظروف». إذا كانت المملكة تلك لا تميّز بين اللبنانيّين وتقف على مسافة واحدة، فلماذا عاقبتكَ، يا وليد جنبلاط، عندما خالفت الأوامر؟ صحيح أنّ ذلك حدث في ساعة «التخلّي» عن التخلّي، لكن أليس للتخلّي أحكام؟).
ولا يوفّر جنبلاط فرصة إلا يتملّق الحكم السعودي ويطلق أوصافاً مفرطة في المبالغة بحق حكّام آل سعود: يصبح الملك السعودي «الرجل، الرجل» ويستذكر علاقة الملك بكمال جنبلاط، ناسياً ما كان والده يقوله بحق آل سعود وبحق وكلائهم في لبنان، من أمثال صائب سلام. كان كمال جنبلاط يُكرّر وصفه لسلام بأنّه «عميل سعودي». كل ذلك تناساه جنبلاط وحوّل والده في قبره إلى حليف للسعوديّة في حياته. يمكن تجميع برقيّات وليد جنبلاط التي يطيّرها نحو الرياض في الأفراح والأتراح. يمكن العودة إلى برقيّة التعزية التي أرسلها جنبلاط إلى الملك السعودي ــ بعدما أبلغه مقرن بالواسطة أنّ العلاقة معه قد قُطعت ــ مُعزيّاً بوفاة شقيقته صيتة، التي لم يلتقها جنبلاط في حياته، لكنّه تصنّع الأسى واللوعة على فقيدة في العقد الثامن من عمرها، ورثاها بكلام منقول من كلام الخنساء عن صخر. أما عن سلطان بن عبد العزيز، فيقول جنبلاط في برقيّة التعزية إنّه كان «رجل مؤسّسات». الرجل الذي وضع أولاده حوله في أجهزة الدولة التي سيطر عليها، والتي سجّل فيها هو وأولاده أرقاماً قياسيّة في الحصول على الرشى، تحوّل بقلم جنبلاط السخي إلى رجل مؤسّسات. هذا مثال على أنّه لا حدود عند جنبلاط للتملّق والتزلّف والطأطأة.
يجب مناشدة الملك السعودي للعفو عن جنبلاط. طالت مدّة المقاطعة، وهذا زاد في معاناتنا ونحن نشهد تقلّباته ومحاولاته الخائبة إلى الآن لنيل الرضى السعودي. الحليف الوثيق مع النظام السوري تحوّل إلى داعي «ثورة» ــ على المقاس السعودي طبعاً. ورجل التنوير بات لا يجد التنوير إلا في تلك العقائد التي يرعاها كبار العلماء في المملكة. طالت فترة انتظار جنبلاط وطالت معها متابعتنا لواحد من أذلّ الاستجداءات السياسيّة التي يعتادها أمراء آل سعود. يستفيق جنبلاط على «ثورة الشعب السوري» فجأة، قبل أن يغطّ في سبات عميق. والذي كان يغدق المديح على حسني مبارك وحكمه بات يعظ في شأن «الربيع العربي». قد يقول قائل (أو قائلة) إنّ جنبلاط خلافاً لليبراليّين العرب وحركة 14 آذار ذكر البحرين مرّة واحدة. صحيح، هناك دعا جنبلاط إلى حوار هادئ. لكن ما يجوز في البحرين لا يجوز في سوريا، وإلا عانى جنبلاط قطيعة جديدة مع آل سعود.
غريب أمر زعماء الإقطاع في لبنان. هم عناترة أمام القطيع الانتخابي، يشتمونهم ويهينونهم ويقرّعونهم بمناسبة وغير مناسبة، لكنّهم أمام الرجل الأبيض، وأمام شيوخ النفط والغاز ضعفاء وأذلاء ومطيعون. يظهرون مظهر الحزم والصرامة أمام الجماهير، لكنّهم يطأطئون الرأس أمام أي مندوب في حاشية أمراء النفط وشيوخه. أمام هؤلاء، ينسون شعارات العزة والكرامة والعنفوان.
حظي جنبلاط أخيراً بلقاء «اجتماعي» مع صديقه سعود الفيصل (وهو غير صديقه «جيف» وغير أصدقائه من السفراء الأوروبيّين ــ هل من يتصّور أنّ لجنبلاط صديقاً ذا بشرة داكنة؟) لكن الملك السعودي لم يصفح عنه بعد. ومدير 14 آذار، الأمير مقرن، قد يُقرّر قريباً أنّ جنبلاط يستحق المكارم السعوديّة. عندها فقط، يزول بعض قلق وليد جنبلاط، وتصبح تصريحاته أقلّ توتّراً ويصبح الشأن السوري الذي يشغله أقلّ أهميّة. عندها فقط يستطيع جنبلاط أن يتنفّس الصعداء، بانتظار تحوّل جديد، أو فتح باب كنز جديد.
يُراكِم حزب الله أخطاءه، الواحد تلو الآخر. يتمرّس في تلقّي الطعنات من الحلفاء. ظهر حسن نصر الله على الهواء وأخبرنا أنّ جنبلاط اعتذر عمّا ورد عنه في «ويكيليكس». صارت العودة عن مناصرة العدوّ في حمأة عدوانه فضيلة، وقد يقتدي بها عملاء إسرائيل، من المحكومين وغير المحكومين. قد يعود الحزب إلى عقد تحالف انتخابي معه، وربّما مع الماريشال المُتقاعد للّو المرّ. الطائفيّة تتناقض مع المبدئيّة حتى لو كانت موجّهة (بالصواريخ) ضد العدوّ الإسرائيلي.
يبقى لجنبلاط أدوار ليلعبها، وليلعبها بنوه من بعده. من المؤكّد أنّ الحزب الذي أنشئ على هدف مصلحة العمّال والفلاحين لم يكن (في ذهن المؤسّسين) في وارد التحوّل إلى ذراع الأمير مقرن في لبنان. لكن جنبلاط يستطيع أن يقدّم أوراق اعتماد باهرة للملك السعودي: ساهم بصورة كبيرة في تقويض اليسار في لبنان، أوّلاً عبر تخريب الحركة الوطنيّة اللبنانيّة وإبادة برنامجها المرحلي (الإصلاحي، لا الثوري)، كما أنّه كان ركناً من أركان النظام الطائفي الذي أرسى دعائمه النظامان السوري والسعودي في لبنان، والذي قوّض الفكر والممارسة اليساريّة في لبنان. وجنبلاط كان واحداً من الذين ماشوا ورعوا وسوّغوا وطبّقوا رأسماليّة الحريريّة الوحشيّة التي فاقت فظاعتها وظلمها وجوْرها رأسماليّة ما قبل الحرب الأهليّة اللبنانيّة. لكن جنبلاط يستطيع أن يهنأ بانتظار اللقاء العابر مع الملك السعودي: فقد تناول العشاء هذا الأسبوع مع العزيز «جيف» يصحبه واحد من أعتى أعداء العرب والإسلام في مجلس الشيوخ، جو ليبرمان.
مُتنقّلاً بين قصريه في المختارة وكليمنصو، يستطيع جنبلاط أن يطالب بهدم قصور صدّام في العراق. جالساً بقرب ابنه تيمور الذي يُعدّ لوراثة قصور وثروات وزعامة ونيابة، يستطيع جنبلاط أن يطالب بشّار الأسد بنبذ الوراثة السياسيّة. مُقلّباً في أوراق «ويكيليكس»، يستطيع جنبلاط أن يقول إنّه (في صيغة ما وحالة ما) مع سلاح المقاومة إذا لم يؤذِ إسرائيل. مُحاطاً بصوره مع الطغاة العرب ومع كيسنجر، يستطيع جنبلاط أن يزعم أنّه يناصر «الربيع العربي». إنّ نظاماً سياسيّاً يستوعب حالة وليد جنبلاط لا يستحق إلا الهدم، بالمعول المُرمّز في علم الحزب التقدمي الاشتراكي.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)