تبدو الفوضى مرعبة. هذا في العلن. وتبدو الدولة العميقة في قمة تحفزها. وهذا في الخفاء. الصراع الآن هو بين الفوضى والدولة العميقة. الفوضى تدفع الدينامية السياسية الى حدود لا يمكن استيعابها بالوعي التقليدي، ولا بأدوات التحليل الواقعية. دينامية تربك مدمني الحركة من الثبات. الفوضى في مغامرتها لتدمير كل أعراف وعناصر الواقعية المفرطة، والدولة العميقة في رحلتها لإحياء النظام عطلت فعالية القوى السياسية القادمة من عصر مبارك، لتبقى وحدها ثابتة ومتحكمة في صناعة جسور الانتقال من النظام القديم الى النظام القديم نفسه.
الدولة العميقة ولدت من شعور بأنّ الدولة على حافة خطر دائم، تتحرك مؤسساتها في مسارات غير مرئية، خلف ستائر سوداء، ووفق شيفرة مكتوبة في صندوق أسود لا يعرفه سوى الكهنة. والفوضى ولدت مع الثورة حين كسرت الأقفاص وخرجت القوى المكبوتة من قمقمها، وأصبحت القوى المتواطئة في العراء بعد سقوط رأس الفرعون وتفتت قشرة نظامه الأولى. محاولة الإحياء فيها عطب، لكن انهيارات التيارات القديمة، جعلت الدولة العميقة بحاجة إلى المزيد من الشجاعة، لإدراك أنّنا في زمن لا عودة فيه الى ما قبل «٢٥ يناير». عشاق الاستقرار أو المرتعبون من المستقبل، يتمنون العودة لأن ما يحدث الآن فوضى كبيرة. مثلاً، كيف يجرؤ الغاضبون على الوصول الى مبنى السفارة السعودية، ورفع الأحذية وشتم خادم الحرمين؟ ألا يعرفون الأساليب المتحضرة في الاختلاف؟ إنّها فوضى.
نعم هي فوضى... وتأتي بعد سنوات طويلة من قطع الألسنة وكبت الغضب، وترويج التصورات المانعة للسياسة والحياة التي ترى مثلاً أنّ السعودية خط أحمر، ليس بسبب العلاقات الخاصة بين النظامين، بل بسبب المصريين العاملين هناك. يقول كل الحكماء ذلك، ويروّجون لما يعني بوضوح أنّ المصريين في السعودية أسرى، وأنّه لا بد من قبول الأمر الواقع لكي لا يعود المصريون الموجودون هناك. لم يتوقف أحد من الحكماء طوال سنوات من الإهانة ليقول إنّه مع الاحترام للسعودية ونظامها، لا بد من اعادة ترتيب أوضاع المصريين هناك. لكن عندما ينفجر الغضب، لا يجد هؤلاء الحكماء سوى المطالبة بالعقل والحكمة والتحضر من وجهة نظرهم في التعامل مع سفارة دولة تطبق على المصريين ما هو اقرب الى العبودية الحديثة. نعم، إنّها فوضى، لكنّها فوضى ما بعد الموت. نظام مبارك مات، ووضع مصر كلّها في حالة الموت الجماعي، ولهذا فالفوضى هي دليل اليقظة، المرعب نعم، لكنّه المؤشر إلى أنّ عودة الميت من رابع المستحيلات.
اعتصام وزارة الدفاع مثال آخر للفوضى، أو العبث بعد سنوات الموت، أنصار الشيخ حازم تحركوا من ميدان التحرير الى وزارة الدفاع، وبدلاً من أن يرفعوا هتافات الدفاع عن زعيمهم، لم يجدوا سوى هتافات الثورة: يسقط حكم العسكر. ولم يجدوا سوى فتح أبواب الاعتصام التي كانت مغلقة عليهم في التحرير أمام التيارات الأخرى. لماذا الاعتصام وما هي مطالبه؟ أسئلة طرحها الحكماء والعقلاء الذين يتصورون وجود قواعد سابقة للقياس، كأنّ لدينا تاريخاً من الاعتصامات، أو العلاقات بين التيارات المتباينة، أو الحقيقة لمن يرى بشجاعة أننا في بداية مشوار معرفتنا السياسية، بما تعني الخطوات الأولى من ارتباك وتعثر، بل وعبث. أنصار الشيخ مهووسون بالكاريزما صحيح، لكنّهم يرون بعدما خرجوا من كهف شيخهم، أنّ الدنيا ليست على مقاس الكاريزما الخاصة به. سيرى بعضهم ذلك، وتعود البقية الى الهوس الفتاك بالشيخ. وذلك أمر طبيعي، ودليل على الحيوية بعدما كان الجميع في متحف شمع كبير يلزم مكانه، ويتصرف كأنّ الدنيا تنتهي عند حدود ما يعرفه. الحكماء أو العقلاء، لديهم قواعد قد تكون صحيحة، لكن من الناحية النظرية، وفي واقع متخيّل لم تعشه مصر التي كانت بدون قواعد سياسية الا التكيّف مع الأمر الواقع، والقوة النهائية للنظام، حيث التغيير حلم في الخيال نحلمه فقط من اجل أن نستمر أحياء. التفكير بمنطق الوضع الثابت، او الموت الذي سبق «٢٥ يناير»، تفكير يبدو وجيهاً وأناقته مدهشة، لكنّه لن يصبح فعالاً إلا بمزيد من شجاعة الاعتراف بأنّ ما نعيشه لا يمكن قياسه على ما سبق أو وفق موديلات جاهزة. نحن نتعلم اليوم المستقبل، وندفع أثمان هربنا من دفعها لنبني دولة حديثة، لكن هل يمكن أن تبنى هذه الدولة بدون استيعاب كل المصدومين من الحياة الحديثة؟ يمكن، لكن على طريقة مبارك وجهاز امن الدولة بالقمع والترويض.
هل يمكن ان يقطع تيار ما الطريق على الدولة الحديثة ويدفعنا الى نموذج السعودية او افغانستان؟ يمكن، لكن بعنف دموي لن ينتهي قريباً. نحتاج إلى المزيد من الشجاعة كي نكتشف انّ كلّ هذه الفوضى أرحم من الحياة في نظام التماسيح الميتة.
سنتذكر طويلاً هذه الأيام، التي تفتح فيها كل الصناديق المغلقة، والملفات القديمة. حين تصبح كل الشخصيات عارية من قداستها، والتنظيمات امام جمهورها بلا سحر الضحية، والنظام يتفكك بتربيطاته العلنية، تحميه شبكة سرية تدير الدولة بكل هذا الغموض المفرط. شبكة تعجز لأول مرة عن إحياء الميت، لكنها هذه المرة تريده ميتاً يتحكم من صندوق زجاج نراه فيه ميتاً، لكنّه يحكم بصورته، وسطوته، وقدرته على تحويل كل الأحياء الى اشباح. سنتذكر طويلاً كيف خرج السلفيون من القمقم، ليفاجَأوا بأنّ الحياة ليست كما صوّرها لهم مشايخهم. وهذا أحدث لهم صدمة كما أحدث ظهورهم صدمة في مجتمع عاش سنوات القهر والانحطاط بسبب التخلف الاجتماعي، وليس فقط بسبب عنف السلطة وجبروتها. سنتذكر فزع الليبراليين من اكتشاف حقيقة أنّ الحنين وحده لا يكفي وأنّ زمن الليبرالية الجميل قبل ظهور الجنرالات في ١٩٥٢ ليس حقيقة كاملة، لكنّه قشرة تغطي التخلف الاجتماعي في صورة ربما أقل ضراوة من اليوم. سنتذكر أيضاً انّ اليسار اكتشف أنّ الجماهير لا تنتظر تنظيماته، ولن تلتحم به بمجرد غياب السلطة الشرسة عن السيطرة الكاملة.
هذه هي لحظات مواجهتنا لأنفسنا، لأفكارنا، لطريقتنا في الحياة والنظر الى المجال الذي نعيش فيه، لنكتشف أحياناً أنّنا نتآمر على أنفسنا أحياناً، ونخاف من استكمال طريق المواجهة مع ذات تعرضت لعمليات تخريب طويلة المفعول. ستجد مثلاً من يتصور أنّ الرئيس هو المنقذ او الساحر الذي سيحملنا الى مصر الجميلة، التي تصوّرها افلام الدعاية لمنتجعات المدن الجديدة. هو الشخص نفسه الذي ينتقد ان تكون الدولة تشبه رئيسها، او أن تتشكل الدولة على مزاج من هم في السلطة، لكنّه يشعر بالخطر مثلاً على حريته الشخصية، فيختار كل ما هو بعيد عن التيار الاسلامي. او هو يخاف على تصوراته عن دولة الشريعة فيقول إنّه سيختار الاسلامي فقط. بينهما من يريد ان يحل مشكلة الملايين المنتظرين أن يكون الرئيس القادم هو بداية العبور من ممر الأزمات، ويقول إنّ الناس لن يتحملوا مزيداً من الارتباك وقلّة سبل الحياة. كلّهم يتصورون أنّ الرئيس يحمل العصا التي ستشق البحر وتهرب بنا من هذا الواقع المربك الى ارض أخرى، وواقع آخر، كما يحدث في أفلام الكرتون. لم يسأل منتظرو المعجزة ماذا سيفعل الرئيس اذا كانت الشبكة السرية للنظام ستحوّله (أو حوّلته) الى شبح؟ هذه الشبكة دمرت كل الكيانات المدنية (البرلمان/الحكومة/القضاء) ليبقى سر الدولة عندها، وأزرار إدارتها في مخابئ لا نراها. هل هم بهذه الكفاءة؟ من هم؟ ما هي مواقعهم في الدولة؟ هل يقفون وراء مرشح معين؟ من هم: المجلس العسكري/ الاستخبارات/ الأمن القومي؟ هذه أسئلة لا بد من التفكير فيها والتعامل معها لأول مرة، إذا كانت هذه الشبكة من كهنة الدولة، أفرادها يحكمون ويتحكمون ويديرون مصر من الغرف المغلقة ونحن لا نراهم. هؤلاء صنّاع الدولة وحماتها الى آخر مدى. يريدون اعادة الدولة من الموت أو تحويلها الى «جثة» حاكمة، ولا يوقفها مرشح او تنظيم او حزب أو شعب كامل ينتظر المخلصين والمنقذين. لا يوقف الكهنة الا حالة الحراك السياسي، وفتح مجال السياسة لتدخله قطاعات صامتة، او تواجه فيه قطاعات مبعدة الى الهوامش، وتتحرك فيه كيانات وتنظيمات تفكك جميع الخطابات القديمة، وتكسر خرافات ومسلمات لم تكن تمس. ليس فقط لأن السلطة غاشمة، لكن لأنّ المجتمع متخلف بدرجة تجعله يضرب تعظيم سلام للمقدسات والخرافات: بدايةً من أنّ الحاكم إله، وليس نهاية بأنّ انتخاب المشايخ سيدخله الجنة. هذه الدولة ليست علمانية كما صوّرها الإسلاميون لجمهورهم، وليست مدنية او حديثة كما تصوّر بعض المرتعبين من الفورة السلفية، لكنّها دولة الاستبداد التي تعيش على التخلف الاجتماعي لأنّه أداة الحماية الكبرى لها في مواجهة جميع المتمردين عليها، سواء كانوا منافسين مثل الإخوان وأشباههم، او حالمين بدولة ديموقراطية وحديثة، مثل قطاعات واسعة كانت تشعر بالغربة والتعالي معاً. الأزمة هنا عند من لا يزال معلقاً في مغناطيس الدولة، ويدور في أفلاكها: مرة عندما يراها حماية من الخطر الإسلامي، فيذهب الى نصفها الليبرالي، ومرة عندما يرى في نصفها المحافظ ممراً لمشروع دولة السلطة الدينية. هذه هي الأزمة التي سنتذكرها ونحن نواجه دولة الكهنة، ونفكك أرضيتها الواسعة.



من انتصر: الدولة العميقة أم الثوار؟

التماسيح الميتة لها ميليشيات تخرج بكل شراستها وتهاجم المعتصمين امام وزارة الدفاع كل ليلة في موعد اصبح معروفاً. فرق او قطعان تشبه ميليشيات حرب العصابات، لكنّها بدون نظام وقائدها سري، وشبكتها المحركة تسكن سراديب النظام السرية. بطلجية او مخبرون او غيرهم من كائنات بشرية مصنعة في معامل النظام، لكنّها في اول حرب من نوعها، مع قوة جديدة، هي شباب لا يريدون العودة الا باكتمال الثورة الى مداها الاخير، وصورتها النقية. فوضويون ربما، يملكون قوة غريبة في عدم الخوف من الموت، او مواجهة ميليشياته المختبئة في شقوق المدينة.
فوضويون بلا مطالب واضحة، او اهداف مرحلية، او برنامج سياسي، لكنّهم يعمّدون حق التظاهر بالدم، في مواجهة دولة قامت على تحريم التظاهر، وتجريم كل اجتماع بين خمسة من البشر. انّها حرب بين التماسيح الميتة، وبين قوة مدهشة في بسالتها، خرجت من تحت الخراب الطويل لتبني مستقبلاً لا تعرف ملامحه. هؤلاء هم جنود الحلم الغامض الذي يربك الجميع. حلم يختلط احياناً بأساطير الصحابة او غيفارا، في مكان خارج السيطرة، سواء من قادته على الارض مثل الشيخ حازم ابو اسماعيل، او من التوافقات المطبوخة في الغرف المغلقة، كما يحدث في اجتماعات الاحزاب او ترتيبات انتخابات الرئاسة.
كل هذا اصغر من الدم المسال في حرب عصابات العباسية التي تبدأ عادة في غياب كامل من قوات الجيش، لتظهر ميليشبات البربر تبحث عن صيد، وتشم روائح ضحاياها. يحمل عناصرها كرات النار وبنادق وقنابل مولوتوف وسيوفاً، وصيحات مفزعة. انّهم صيادو الثوار، ومثيرو الرعب في البيوت المحيطة، وهذه مهمتهم التي تظل بين يوم وخمسة ايام، لتعلو الصرخات من كل جانب: الثوار فزعاً من الموت، والسكان من حرب العصابات، والمجتمع السياسي الذي يريد العودة الى ايقاع الترتيبات في هدوء. حينها، يظهر الجيش بأطواق حول منطقة الحروب، ويظهر قادته لمطالبة السياسيين بإنهاء الحرب حفاظاً على الدولة من السقوط والحرق. الحرب كانت هذه المرة في محيط وزارة الدفاع، ومقر الحكم الانتقالي، في اكبر كسر لقداسة مبنى ومؤسسة يعرف كل مصري انّ الاقتراب على بعد ٥٠٠ متر منها كان ممنوعاً. الثوار كسروا القداسة وحاصروا العسكر، ودفعوا فاتورة الدم. والدولة العميقة انتصرت ايضاً لأنّها اعادت شعور الخطر الذي تعرف جيداً العمل في اجوائه. هذه هي اللحظة. الثورة بفوضويتها وبجانبها العاقل تنتصر بشكل ما، وتستمر كاشفة التركيبات السياسية والاجتماعية، ومخترقة كتلاً في المجتمع كانت مغلقة على ذاتها. اكتشافات تبدو انفجارات احياناً، لكنّها تنظم فراغاً سياسياً جديداً. وفي الوقت نفسه، تنتصر الدولة العميقة برغم عدم كفاءتها الظاهرة، بسبب معرفة مسبقة بالواقع والجمهور المتفرج في البيوت. تنتصر الدولة العميقة بالسيطرة على حركة القوى السياسية الساعية الى السلطة. انتصاران هما اللحظة الراهنة تماماً.



معركة الجيزاوي وحروب النماذج



هل تأثرت العلاقات بين مصر والسعودية بسبب قضية المحامي المصري أحمد الجيزاوي؟ اختارت السعودية الحلّ العنيف للمرة الاولى، وسحبت السفير واغلقت القنصليات وأوقفت التأشيرات الى اجل غير مسمى. حلّ عنيف، تقول المصادر الديبلوماسية إنّه فاجأ السفير نفسه، ويقول الواقع إنّه اجراء علني، فالسفير لا يزال في القاهرة، وسيعود غالباً الى فتح السفارة خلال ايام.
الجيزاوي سيحاكم بعد ايام، بتهمة تهريب حبوب الكزاناكس، وهي التهمة الغامضة التي قيل إنّها ملفقة، وقيل ايضاً إنّها فخ مرسوم من جهات متعددة، ليقع الجيزاوي في قبضة السلطات السعودية، بعدما اقام دعوى قضائية يطالب فيها الملك بالافراج عن المعتقلين المصريين. القضية كشفت عن تعقد العلاقات المصرية السعودية، والمسافة الشاسعة بين التحالف على مستوى الأنظمة، والغضب على المستوى الشعبي من وقوع المصريين في اسر علاقة هي اقرب الى العبودية الحديثة.
قضية الجيزاوي ليست حرباً بين المصريين والسعوديين، لكنّها حرب ضد انظمة استبدادية متسلطة تتلاعب بحقوق مواطنيها او تساوم بهم. النظام المصري لا يزال يتعامل بعقلية العسكر التي لم تتعلم بعد أنّ كل فرد من مسؤولية الدولة. كما أنّ النظام السعودي يمارس القهر والتسلط والارهاب لحماية ذوات عائلته الملكية. لم يكن مفيداً في هذا الاطار تحويل القضية الى حرب قبائل صغيرة تستخدم فيها اسلوب المعايرة والتفضل بما فيها من اخلاق شوفينية رخيصة. فالقضية ليست انّ المصريين كانوا يساعدون السعوديين قبل اكتشاف البترول، وانّ المصريين اصبحوا خدماً للسعوديين بعد البترول. القضية تتعلق بحقوق الفرد في حماية تؤمنها دولته، عندما يكون تحت رحمة دولة لا حقوق فيها الا للعائلة المالكة ومن تختاره من حاشيتها. التظاهرات التي حاصرت السفارة كانت ضد الملك السعودي لأول مرة، لا تراه محايداً، لكن بصفته رمز العبودية الحديثة. التظاهرات لم تطلب عفواً ملكياً ولا تدخلات شخصية، ولا وساطات تقبل اللحى او تنتهي بالعناق السياسي الذي يعني تفضل النظام السعودي على مواطن مصري. لكن الهدف الاساسي حماية الفرد او المواطن في مصر اينما كان. ومن هنا نبدأ الاجابة حول وصول النموذج السعودي الى القاهرة السعودية. دولة العائلة الواحدة لم تنتقل بعد الى مرتبة الملكية الدستورية، لكنّها تحكم بقوانين العصور الوسطى السياسية بعد شراكة سياسية بين أتباع الامام محمد بن عبد الوهاب، لتكون لهم الشرعية الدينية، ولاولاد آل سعود الشرعية السياسية. نظام عجيب لا مثيل له في العالم كله، ينتمي سياسياً الى التاريخ القبيح للاستبداد، لكنّه يتحالف مع القوى الكبيرة في العالم التي تريد حماية مصادر الطاقة، ولا تهمها الديموقراطية ولا حقوق الانسان. النظام السعودي يعيش ايضاً بامتداداته الاقليمية. وبعدما صدر النموذج الى دول الخليج، اصبح طرفاً وشريكاً في لبنان عبر رعاية نمو السنّة، بتحالف مع الموارنة كانت بدايته في «البيزنس»، وانتقل الى السياسة.
النموذج السعودي يتمدد بما يستطيع ان يملأ به فراغ النموذج المصري في الحياة الذي افتقد تأثيره لاسباب تعود لكفاءة انظمة الحكم. هكذا اختفى النموذج المصري برقّته وسماحته واناقته، ليس من دول المنطقة كلّها، بل من مصر أيضاً. انتصر النموذج السعودي في الحياة، وبدلاً من ان تنقل ملامح الحضارة من مصر الى السعودية، مع بعثات التعليم والتحديث في اول القرن العشرين، بدأ القرن الحادي والعشرون والنموذج السعودي يحتل القاهرة فعلاً، ويفرض سطوته على العقل والذوق والاحساس بالحياة. الوهابية ترفع راياتها غير المرئية اعلاناً بأنّ الغزو السعودي يفرض سطوته وله جمهور كبير في القاهرة. نهاية غير متوقعة للمعركة التي بدأت بين الثقافة المصرية والهجمة الوهابية القادمة من صحراء الجزيرة العربية منذ ما يقرب 100 سنة. مصر تخلصت مبكراً من اثر الجمود والانغلاق، وفتحت عقلها وروحها لحضارة جديدة، بينما كانت الجزيرة العربية لا تزال أسيرة النصوص المغلقة وتعتبر أنّ كل بدعة مصيرها في النار. المعركة الثقافية كانت غطاء لحرب سياسية على وراثة الامبراطورية العثمانية. استمرت الحرب من ايام الملك فؤاد، واتخذت ابعاداً جديدة مع وصول عبد الناصر الى حكم مصر. واعتقد انّ هزيمة عبد الناصر في 1967 كانت البداية أمام انتصار النموذج السعودي. انتشر التفسير البسيط التافه بأنّ الجيش المصري هزم لأنّه ابتعد عن الدين، لكن الحقيقة اعقد بكثير، وتتعلق بأنظمة سياسية وعسكرية. لكن من هذه النقطة (تفسير الهزيمة بأنّها ابتعاد عن الدين) تغلغلت الوهابية في جيوش الهزيمة وتسربت عبر المصريين المهاجرين الى السعودية. هؤلاء يرون فيها نموذجاً لدولة قامت على البركة (صعود النفط كثروة طبيعية بدون مجهود) ويطبقون «تعاليم» الإسلام بالقوة. قوة ربطها الباحثين عن ثروة شخصية بأنّها السبب وراء انتصارهم وهزيمة مصر التي كانت تريد تنفيذ مذاهب غريبة (الاشتراكية).
هذه العقلية المهزومة امام سطوة الكفيل السعودي عادت الى مصر بثروات وعقل يرى انّ الكفيل هو المثل الاعلى. ومثل السجين الذي يريد تقليد السجان، استعاد اغلب العائدين من السعودية ثقافة الكفيل، ونشروها في مصر. تغيّرت ملامح مصر بالتدريج، واختفت تعدديتها لصالح نموذج واحد. انتصار النموذج السعودي يتأكد الآن عبر وكلاء مباشرين (في العلن او السر) لشبكة من الاعلام يسيطر عليها المال السعودي. راجت إلى جانب ذلك قائمة ممنوعات تمنحها شرعية التحدث عن الاسلام واحتكاره. فمن يمنع ويصادر، له شرعية اعلان الحدود واعلان المسموح والممنوع، رغم انّ مصر كانت مسلمة قبل ان تسيطر الفكرة النائمة في الجزيرة العربية والتي تنشغل وتهتز من طول فستان المرأة وتعتبر أنّ اهم انجازاتها هو اقامة حاجز للحريم. ولا يعرف الجمهور انّ هذه الثقافة التي لا تقبل التعدد وتحبس الاسلام في صورة واحدة تنتمي لمجتمع البدو وتتباهى بحبس الحريم هي ثقافة القبيلة. ثقافة ذات العقل الواحد والصورة الواحدة. التوحيد بين الاسلام وثقافة القبيلة هو سر انتصار النموذج السعودي الذي حوّل الشوارع في مصر الى مسوخ مشوهة بين ملامح خافتة للقاهرة الأوروبية المفتوحة على العالم والقاهرة السعودية الجافة والغليظة، وبينهما اختفت القاهرة. هكذا فإنّ حادثة الجيزاوي كشفت الغطاء عن تعمق العلاقة بين النظامين في الرياض والقاهرة، فالتصرف العنيف بسحب السفير قابله اعتذار تقليدي من المجلس العسكري وحكومة الجنزوري، لم يصدر بالسرعة المعتادة لأنّ هناك قوة جديدة دخلت على الخط بعد الثورة، ولا بد من التعامل معها بحيلة الانظمة. وكان لا بدّ من مبرر للاعتذار الذي يعني استقرار العلاقات سياسياً (بين توأم الاعتدال العربي السابق)، واجتماعياً باستقرار العبودية لكن بمزيد من حنان الملك العاشق لمصر، كما تقول الاساطير الشعبية. هنا كان لا بد من العنف في مقاومة تيار ضد الاستبداد والعبودية الحديثة... وذلك ما انتهت إليه الجولة الاولى من معركة الجيزاوي.