الهوس اليساري العربي المحموم بالديموقراطية الليبرالية يمنحها الشرعية كمثال أعلى مطلق، كجنّة مكتَشَفة للتوافق والتعايش الودي بين القوى الإمبريالية في الغرب وقوى المعارضة السياسية، الإسلامية واليسارية والقومية، في الشرق العربي، بين البورجوازيين الكمبرادوريين والكادحين، بين عرب النفط وعرب الفقر، بين المقاومين والمطبّعين، وبين العلمانيين والوهابيين. لا صراعات اجتماعية تاريخية ووطنية وأيديولوجية بعد اليوم، بل تنافس انتخابي لا يتذكّر إلا القليلون أنّه محكوم بما يتم تجاهله من حقائق الصراعات وموازين القوى الاجتماعية والجيوسياسية. اليسار العربي هو المسؤول عن هيمنة نموذج الجنّة الليبرالي ذاك، لسبب واضح هو أنّ المعارضات الأخرى تعبّر عن شرائح مختلفة من الطبقات المسيطرة التي لها مصلحة مباشرة في تجديد سيطرتها بوسائل انتخابية. وهي لم تعد تنظر إلى جمهرة اليساريين كنقيض يعبّر عن قوّة العمل، بل كموظفين ودعاة ليبراليين، أو حتى كأحزاب ملائمة للديكور الديموقراطي، طالما أنّها تلعب على الملعب نفسه، ضمن شروط اللعبة التي تحدد الفائزين مسبقاً من بين صفوف المسيطرين.
لا تصمد الجنّة الليبرالية لحظة أمام أسئلة من مثل أسئلة الاستقلال الوطني والاقتصادي والتنمية وتوزيع الثروة، بل، وبالأساس، السؤال عن محتوى الدعم الإمبريالي للديموقراطيات الانتخابية الناشئة في العالم العربي، ومضمون الهوس الذي يبديه الخليج القروسطي بالثورات الليبرالية العربية خارج الخليج. لكن السؤال المركزي المطروح، هنا، هو سؤال السلطة السياسية؛ هل يمكن أن تؤدي الديموقراطية الانتخابية الليبرالية إلى تغيير اجتماعي في بنية السلطة السياسية؟
هل تجرؤ قوى اليسار العربي على طرح هذا السؤال في ميدان الصراع السياسي؟ هل تجرؤ على فضح اللعبة الانتخابية الليبرالية وشروطها النابذة لأي مستوى وازن من التمثيل السياسي المناوئ للنيوليبرالية المحلية التي تتمحور حول الاندماج الكمبرادوري في اقتصاد السوق المعولَم؟
في الرأسماليات المركزية، لم تعد صناديق الاقتراع، منذ وقت طويل، تخرّج نخباً سياسية ذات أفق يتجاوز النيوليبرالية، ولم تعد تؤثّر في القرار المحتكَر، بصورة فجة، من قبل الشركات. لكن بحثنا، هنا، ينصبّ على بلداننا، حيث الانتخابات والعملية السياسية برمتها تظل محكومة بالسيطرة الإمبريالية والخليجية، بحيث إنّ أي قوة سياسية ترنو إلى منافسة انتخابية جدية تعرف جيداً (كما حدث ويحدث في بلدان الربيع العربي) أنّ عليها أن تقنع الأميركيين والأوروبيين، أولاً، بأنّها لن تمس مصالحهم أو مصالح الشركات أو أمن إسرائيل، وحين تفعل ذلك، فهي ستحظى بالدعم السياسي والمالي والإعلامي الخليجي. ولكن أليست مبررات وجود اليسار العربي، كقوة تاريخية مستقلة، هو إطاحة مصالح الإمبرياليين والشركات وإسرائيل وحلفائها في الخليج القروسطي؟
داخلياً، نلاحظ أنّ قوى النظام البيروقراطية والأمنية وشبكات المصالح من جهة، وقوى المجتمع التقليدي، الطائفية والجهوية والعشائرية من جهة أخرى، تظل قادرة، في الديكتاتوريات والديموقراطيات الليبرالية معاً، على نسج سيطرتها العيانية المتماهية، باستثناء حالات تحددها الصراعات الجيوسياسية، مع السيطرة الإمبريالية والخليجية والكمبرادورية. وتلعب تلك القوى الدور الرئيسي في الانتخابات، وتحدد سقوف الممارسات البرلمانية. لئلا يكون هناك التباس، فنحن لا نقترح العودة إلى الوسائل الانقلابية والسلطوية لتحقيق مثال اشتراكي أعلى باسم الفئات العمالية والكادحة، بل نقترح الانخراط مع هذه الفئات في عملية ديموقراطية بديلة، نقدية ونضالية ومديدة ومفتوحة، هي الديموقراطية المضادة. تنزع الديموقراطية المضادة، أولاً، القداسة عن صناديق الاقتراع. نذكر، هنا، أنّ النازية والفاشية لم تقفزا إلى السلطة بالدبابات، بل بالانتخابات. وعندما تقرر صناديق الاقتراع، في ظروف تاريخية كالتي نعيش في العالم العربي، فوز قوى فاشية رثّة، كالإسلاميين، فهل يجب علينا الإذعان؟
الديموقراطية ليست الانتخابات حتى لو كانت نزيهة وحرة ووفق أحسن الأنظمة الانتخابية. الديموقراطية هي: حرية التعبير، حرية العقيدة الدينية والدنيوية، حرية الممارسة الاجتماعية، حرية التنظيم الحزبي والنقابي، حرية الاجتماع والتظاهر والاعتصام، حرية السلوك الفردي والخيار الثقافي، حرية الخيار الفكري، حرية الصحافة، حرية النقد على كل مستوى وفي كل اتجاه. وهي كلّها حريات ليست ممكنة إلا في دولة مدنية علمانية. بينما نغرق في تقديس ديموقراطية انتخابية عرجاء هي الشكل الملائم لانتصار الفاشية في مجتمع مزدحم بالفقراء والعاطلين والمهمّشين. هؤلاء سيكونون مضطرين الى بيع أصواتهم، بالمال أو الخدمة أو المساعدة أو الأوهام... وهم، بالأساس، لا يملكون القدرة الاقتصادية أو الثقافية على ممارسة الحريات الديموقراطية، ولا على تحويل طموحاتهم إلى جدول أعمال، ولا على الاهتمام بالسياسة الداخلية أو الخارجية. بالمقابل، فإنّ فقرهم المدقع وحرمانهم المديد معيشياً وثقافياً، سيسقطهم في حبائل الفاشية الرثّة، الموكول إليها إدارة الفقر وتنظيم تهميش الجماهير السياسي وتشكيل الحاضنة الاجتماعية والثقافية للإرهاب بشقّيه المعنوي والفعلي.
الديموقراطية المضادّة ترفض الخضوع لشروط اللعبة الانتخابية هذه، ترفض تقديس صناديق الاقتراع، وتتمسك بالحريات ـــ وفي مقدمها حرية الاحتجاج الاجتماعي ضد الكمبرادورية والاحتجاج الوطني ضد الإمبريالية. لا يمتثل اليسار، من موقع الديموقراطية المضادة، للبرلمانية، بل يستخدمها منبراً للاعتراض أولاً، ويعرّي شرعيتها ثانياً، وينهكها بالاحتجاجات المستمرة ثالثاً، بحيث يفرض عليها التحوّل، واقعياً، إلى إطار للتسويات الاجتماعية التي تديرها وتعقدها وتراقبها قوى نضالية شعبية غير قابلة، بحكم تشكّلها وديناميكيتها، للاحتواء.
الديموقراطية الليبرالية المرتكزة على الانتخابات والبرلمانية ليست عملية طارئة في العالم العربي. فقد شهد العقدان الأخيران في بلدان عربية عدّة موجة من مساعي إسباغ الشرعية على السلطوية من خلال الانتخابات البرلمانية. وقد ارتبطت هذه المساعي بالتحوّل من دولة القطاع العام لحساب الخصخصة وحرية السوق ورأس المال وتفكيك البنى الإنتاجية والإدارية الوطنية وتحطيم وسائل الرعاية الاجتماعية. وهو ما عمّم البطالة والفقر والجوع، إلى درجة أصبحت الحياة السياسية والثقافية فيها مسدودة. وهو ما فجّر الانتفاضات العربية في 2011، لكن من دون أفق يتجاوز الكمبرادورية.
الكمبرادورية هي صفة لنشاط الوكلاء المحليين للشركات الأجنبية. لكن واقع الحال في العالم العربي المتخلف والخاضع للإمبريالية وسّع المصطلح الفني إلى حدود نظم ترتكز على الأولوية المطلقة للمصالح والبرامج الأجنبية في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وهي نظم كاملة أبلغ من الاستعمارين القديم والجديد. فالاستعمار القديم المنطلق من الحاجة إلى تصدير فائض رأس المال وفائض العمالة المحدثة، كان معنياً بتشييد بنى تحتية وإدارية وثقافية حديثة في المستعمرات، في إطار رؤية وصلت إلى حد اعتبار المستعمرات جزءاً من التراب الوطني للمركز الاستعماري. ففرنسا كانت تعتبر الجزائر قطعة منها. وفي حين أنّ الاستعمار الجديد ـــ الناشئ في فترة الحرب الباردة ـــ اعتنى، بصورة رئيسية، بمحاربة الشيوعية من خلال تعزيز البنى التحتية الوطنية والخطط التنموية وتوسيع الطبقة الوسطى، فإنّ الكمبرادورية لا تحسب أي حساب لمصالح المستعمرات، بل تقوم على تدمير منجزاتها وبناها الوطنية، ونهبها بصورة لصوصية من غير اكتراث بشروط تجديد حياة المجتمع المحلي، بما في ذلك تدمير البنى الإنتاجية المحلية وتحطيم المؤسسات والتعليم والثقافة الحديثة والإدارة والخدمات العامة والبيئة. وينتج من ذلك كله انهيار الطبقة الوسطى واتساع دائرة المهمشين، وبالتالي انهيار القيم الإنسانية وشيوع الانتهازية والفردية والردة الثقافية. وترتكز الكمبرادورية على مفاهيم وثقافة النيوليبرالية، وتبسط سيطرة المصالح الأجنبية من خلال فئات اجتماعية محلية من الطبقات الجديدة التي تمارس العمالة للاستعمار بصورة جماعية. وحين تحول سلطة وطنية دون الكمبرادورية، تتعاون عناصر الكمبرادور مع الاستعمار لتمكينه من تحطيم المقاومة السياسية المحلية، حتى لو أدى ذلك إلى تدمير الدولة برمتها كما حدث في العراق. لكن مصر هي التي تمنحنا أنموذجاً تقليدياً سلمياً لمفاعيل الكمبرادورية في تدمير دولة وطنية حديثة. المآل نفسه ينتظر بلداً كالأردن، كان من المفارقات أنّه استطاع، بسبب تماهي العصبية المحلية مع الحركة الوطنية المناوئة للمشروع الأميركي الصهيوني، مقاومة الكمبرادورية مدة أطول من المقاومة المصرية، لكن سيرورة الانحطاط هي نفسها.
وقارئ التجربتين، المصرية والأردنية، سوف يلاحظ، بوضوح، كيف ارتبط النظام نصف الديموقراطي بالكمبرادورية وتسويغها من خلال تسويغ ديكتاتورية آليات اتخاذ القرار التي منحت أقليات مرتبطة بالمصالح الأجنبية القدرة على التحكم بالنظام كله، بينما يستطيع الآن أن يلاحظ أن الانتقال إلى ديموقراطية ليبرالية أوسع، يصب، مباشرة، في منح الكمبرادورية الشرعية الدستورية والوطنية.
واجهت الكمبرادورية، وتواجه أشكالاً من الاحتجاجات الشعبية المجزأة والقطاعية والمترددة، لكن المتنامية. ويحاول مفهوم الديموقراطية المضادة أن يستوعب هذه الاحتجاجات، ويمنحها نسقاً من الشرعية الفكرية والسياسية.
من الملاحظ أنّ قادة الاحتجاجات القطاعية يرجعون شرعيتها إلى المظالم الملموسة التي تعانيها قطاعاتهم، وإلى المصالح المباشرة للمحتجين. وفي متابعتنا لحركة عمال المياومة في الأردن، مثلاً، رأينا ما هو أكثر من حرص الحركة على عدم تسييسها. فخلال خمس سنوات من نشاطها، انضم إلى الحركة عمال لهم مطالب مباشرة، سرعان ما غادروها بعد تحقيق تلك المطالب. وقد أدى ذلك إلى الفشل في تحقيق تراكم حركي نقابي.
ينبغي، بالطبع، تشجيع شرعية الاحتجاج على المظالم القطاعية ولنيل المطالب المباشرة. لكن مفهوم الديموقراطية المضادة يقدم تصوراً مختلفاً إزاء شرعية الاحتجاج. فهذه الشرعية، هنا، هي شرعية مطلقة. وقد لا يبدو أن ثمة فارقاً جوهرياً، على المستوى العملي، بين الشرعيتين. لكن الفارق، في السياق الاجتماعي ـــ السياسي، هو فارق نوعي. فالتأسيس للشرعية المطلقة للاحتجاج الاجتماعي يسمح بالتراكم السياسي، وبدلاً من الاقتصار على التسويات المؤقتة، فهي تخلق إمكانية لتسويات أبعد مدى. ويتأسس مفهوم الديموقراطية المضادة على أنّ الكمبرادورية هي عدوان دائم يتطلب مقاومة دائمة، وتسويات أشمل وأعمق، تمنح المجتمع ككل فرصة تجديد نفسه في ظل أنظمة الدمار الكمبرادوري، ومراكمة القوى للخلاص منها بالثورة الاجتماعية. لكن شرعية الاحتجاج الشعبي ستظل قائمة بعد الثورة أيضاً، طالما أنّ شبكات المصالح ستظل تنشأ وتعمل، وستظل مهمات الاحتجاج ضدها وتفكيكها قائمة.
الحق في الاحتجاج الجماهيري السلمي على كل انتهاك للحقوق الجماعية، بغض النظر عن المحددات القانونية والسياسية والاقتصادية، هو الدرس الأول للديموقراطية المضادة. سأذكر، هنا، مثالاً من جنوب الأردن. إذ ثار النقاش على احتجاج عشيرة الحجايا الفقيرة على انتزاع الشركات أراضيها. وجهة النظر الرسمية، الحكومية والمعارضة، انبنت على أساس قانوني. فبخلاف الاستيلاء غير القانوني على أراضي عشائر أخرى، عمدت الشركات الى شراء أراضي الحجايا. وخلال النقاش، غضضنا الطرف عن كون عمليات الشراء تلك كانت مخادعة من حيث تقدير ثمن الأراضي، بل غضضنا النظر عن كون عائلات الحجايا اضطرت إلى البيع تحت ضغط الفقر الشديد، ووقفنا أمام واقعة أنّ هذه العائلات وصلت إلى وضع كارثي؛ ليس لديها أرض لممارسة الرعي ولا حتى للسكن، والأفق المطروح أمامها هو الهجرة والتحوّل إلى لاجئين معدمين داخل البلد نفسه. لكن جيلاً جديداً من هذه العائلات رفض الخنوع، وقرر الاحتجاج الذي يطاول هنا الشركات والقانون البورجوازي معاً، في حركة هدفها استرداد الأراضي. لم يُنتخَب منظمو الاحتجاج، وحصل كل منهم على موقعه السياسي الجديد بالتزامه بالمطالب الجماعية، بحيث إن أي بادرة تخلّ عنها، ستفقده دوره، وهكذا، نشأت ديناميكية تمثيل سياسي مضادة للأنظمة المسيطرة.
للجماهير حس عملي. إنّها لا تنخرط في نشاط لا يتمتّع بشروط معقولة للنجاح الملموس. لكن هذا الحس العملي ـــ السليم بحد ذاته ـــ هو نفسه الذي يقود الأفراد إلى الأنانية والخنوع. وليس هذان بلا استحقاقات مريعة بالنسبة إلى غير المحظوظين، بل هما يحيلان الحياة الاجتماعية إلى مستنقع، ويخنقان الفرد ويبددان طاقاته الإنسانية. الديموقراطية المضادة نهج عملي يمتلك، بذاته، إرادة وفرص تحققه هنا والآن، حركات الاحتجاج الفئوي واللجان السياسية المحلية الحرة والتعاونيات الإنتاجية والتجمعات الثقافية والفنية الشعبية الخ، غير المموّلة أو المرعية أو المرتبطة بمركز سوى التنسيق على المستوى الوطني، أي أنه يسمح ببناء الأطر الكفيلة، في الوقت نفسه، بتحسين نوعية الحياة وتكوين قوى ضاغطة باتجاه التغيير التقدمي المستمر. نهج الديموقراطية المضادة نهج عملي يتطابق مع المصالح الفردية والعائلية والشخصية والمحلية، لكنه ينبذ الجهوية والانغلاق، على المستوى الجماعي، كما ينبذ الأنانية الفردية طالما أنّ شرطيه الرئيسيين هما الجماعية والمبادرة.
وبقدر ما يحقق الأفراد في ظل الجماعية وحركات الاحتجاج والتعاون من نجاحات، فإنّ استعدادهم للتسيس ونبذ الخنوع يغدو أكبر. وفي إطار عمل ثقافي مضاد، يمكن أن نتوصل إلى المزيد من الأشخاص المسؤولين العقلانيين الديناميكيين القادرين على نبذ الخنوع بكل أشكاله.
الناس، ناسنا، ليسوا سعداء. إنّهم يعانون شتى ضروب الضغوط النفسية: بسبب المصاعب المعيشية والقلق على المستقبل، واضطراب الهوية والمخاطر والشعور بالهزيمة والعجز. لكن، أيضاً، بسبب انحلال الحياة الاجتماعية، وتلاشي روح الإخاء والصداقة والتضامن. وإحياء هذه الروح يمكنه أن يكون الأساس لتفعيل وتوسيع مدى الديموقراطية المضادة.



لجنة أحرار الطفيلة

تحت ضغط شعبي وطني واسع، أطلقت السلطات الأردنية سراح العشرات من نشطاء «لجنة أحرار الطفيلة» (المدينة الريفية المهمّشة في جنوب الأردن) المعتقلين بتهمة «إطالة اللسان على المقام السامي» وخرق القوانين المنظّمة للنشاط السياسي.
خلال الاعتقال الذي لم يصمد طويلاً، ـــ ما يدلّ على تغيّر موازين القوى في البلاد لمصلحة الفئات الشعبية ـــ تعرّض أحرار الطفيلة للإهانات الحاقدة، بسبب دورهم المتصاعد في كسر محرمات السياسة الأردنية. وهو دور أصبح جزءاً من التقاليد النضالية المستجدة في الطفيلة العالية النبرة في الاحتجاج على النهج النيوليبرالي ومنظومة الفساد والاستبداد.
لكن «لجنة أحرار الطفيلة» ليست مجرد تجمع سياسي شعبي يستلهم التراث الأردني في التنديد بالطبقة الحاكمة. فمن بين نشاطات اللجنة ـــ التي أوجدت نوعاً من قرابة سياسية جديدة بين أبناء عشائر المنطقة، تقوم على الإخاء والتضامن ـــ فعاليات يومية تهدف إلى تحسين نوعية الحياة المحلية. ومنها، مثلاً، اعتصام أمام مستشفى الأمير زيد العسكري في الطفيلة، لتحقيق مطلبين في طريقهما للإنجاز فعلاً: وقف حرق المخلفات الطبية في محارق غير مؤهلة في مناطق سكنية، واستكمال الكادر الطبي التخصصي والأجهزة الناقصة. يجب أن نتذكر هنا أنّ للطفيلة محافظاً وللمدينة بلدية ويمثلها نواب وأعيان، وفيها فروع أحزاب وجمعيات مدنية مرخصة ووجهاء، أي أنّها تملك كامل الجهاز البيروقراطي والمدني والسياسي التقليدي. ومع ذلك، لم ينتبه هذا الجهاز، أو أن شبكة المصالح القائمة تمنعه من أن ينتبه، في أي من مستوياته، إلى أنّ حرق النفايات الطبية يتم بطريقة غير صحيحة، وأنّ المستشفى العسكري في الطفيلة يفتقر إلى اختصاصيين في مجالات القلب والجهاز الهضمي والمسالك البولية والعظام والجراحة الباطنية والنسائية والتوليد! وتعوزه أجهزة أساسية، ولا تتوافر في صيدليته قائمة من الأدوية! بينما يُعتبر القطاع الطبي الأردني الخاص مركزاً إقليمياً للعلاج في المنطقة العربية.
«لجنة أحرار الطفيلة» ـــ كما هي اللجان الشعبية المثيلة في المحافظات ـــ ليست مؤسسة، وإنما هي مؤسسة مضادة، ليست مرخصة ولا تقيدها قيود بيروقراطية، ولا تتضمن عضويتها أية مصلحة فردية. ولذلك، فهي خلية حية مرتبطة، عضوياً، بمجتمعها واحتياجاته. ومن هنا، فهي تتمتع، تلقائياً، بالانتباه والاهتمام وتملك إرادة المبادرة، ولديها هيبتها ووسيلتها في الضغط: الاعتصام.
لكن علينا، هنا، ملاحظة أن حيوية اللجنة وقوتها تأتيان من ممارستها للعمل السياسي الوطني، وأن مطالبها الصغيرة ترتبط بمطالبها الكبيرة، وأنها لجنة محلية من حيث التنظيم، لكنها تنتسب، سياسياً، إلى حراك شعبي سياسي يمتد على مساحة الوطن. ولذلك، فإن اعتصام اللجنة أمام مستشفى الأمير زيد مشحون بالظلال السياسية، ومدعوم، موضوعياً، بقوة الحراك الوطني.
هذا التوجه أرسته، أولاً، لجنة ذيبان (بلدة ريفية بالقرب من عمان) التي كانت أول مَن رسم هذا الخط من ربط المطالب المحلية بالحراك الوطني. وقد نال نشطاؤها، بسبب ذلك، الكثير من الانتقادات التي تبددت لاحقاً لدى تبلور الرؤية. فحركيّة اللجان الشعبية فيها جدل معارضة الدولة في السياسات الكبرى والتفاوض مع أجهزتها في المطالب المحلية.
من الجدير بالملاحظة أنّ النخب الرسمية من الموالاة والمعارضة هي المهجوسة اليوم بالانتخابات البلدية والنيابية المقبلة، المعدودة مدخلاً إلى التحول الديموقراطي، بينما لجان الحراك الشعبي لا تزال تركّز على تصفية ملفات الفساد واستعادة القطاع العام والتنمية في المحافظات، بما يصب في إسقاط الطبقة الكمبرادورية. وبينما سينخرط قياديون في الحراك الشعبي في المنافسة الانتخابية، إلا أن التجربة الشعبية الملموسة توصلت إلى أنها معنية، بالدرجة الأولى، بدوام وفعالية اللجان الشعبية الحرة التي تسعى النخبة الحاكمة إلى إذابتها في العملية الانتخابية الرسمية، واستيعابها بحيث تفقد صفتها كمنظمات للديموقراطية المضادة، الديموقراطية الشغّالة من تحت، الممارَسَة من خارج المؤسسات المدنية والسياسية التقليدية (كالبلدية والبرلمان) ومن قبل تجمعات شعبية محلية حرة وطوعية ويتمحور نظامها الداخلي غير المكتوب حول نقطة استقطاب الحساسية المجتمعية، وعضويتها وقيادتها مفتوحة حسب النشاط والفعالية والانتباه، ووسائلها مباشرة تتمثل في الاعتصام والتظاهر والإضراب والعصيان المدني، سواء للتعبير عن الموقف من القضايا الكبرى أو في سياق الانتباه للمطالب المجتمعية المحلية والسعي إلى تحقيقها.
يبقى أن تجربة اللجان الشعبية الحرة في الحراك الأردني، في ممارستها وتطورها الفكري، لا تسعى إلى السلطة (وإن كانت ستدعم حكومة شعبية)، ولا تمارس أي قدر متاح منها، بل تؤسس للاعتراض المستمرّ على الامتيازات والاستغلال والقهر، في ظل أي سلطة، بما في ذلك سلطة الحكومة الشعبية.



مشروع «الوطن البديل» ليس في الأدراج



لا يتوقف الجدل بشأن الوطن البديل في الأردن. هناك اتفاق غامض على أنه «مشروع» إسرائيلي مدعوم أميركياً. مشروع في الأدراج الصهيونية الإمبريالية يمكن، اليوم، الاكتفاء برفضه. لكن أنصار التجنيس والمحاصصة، يعتبرونه مجرّد فزّاعة، هدفها تأبيد «الحقوق المنقوصة للفلسطينيين ـــ الأردنيين»، بينما المتشددون الأردنيون يتخيلونه «مؤامرة» انقلابية، سوف تنتهي بتغيير الكيان القانوني للدولة الأردنية واسمها وعلمها وأجهزتها لمصلحة قيام دولة فلسطينية في البلد. وهذا هو ما يعتبره الخطاب الملكيّ «وهماً»، يؤكد أنصار معاهدة وادي عربة مع إسرائيل أنّهم «دفنوه» عند اعتراف تل أبيب بالمملكة في 1994.
«الوطن البديل» مشروع صهيوني قديم يقوم على اعتبار أنّ فلسطين التاريخية تشتمل على الأردن أيضاً، وأنّ التقسيم قد حصل فعلاً في 1921، لدى قيام إمارة عربية في الجزء الشرقي من فلسطين التي يكون جزؤها الغربي، في هذه الحالة، حقاً خاصاً للصهاينة. لكن ذلك المشروع ـــ وهو، كذلك، مشروع لأنّه لم يتحقق كاملاً ـــ لا يقبع في الأدراج، بل يسعى في الواقع الفعلي. ومَن يعتبره «فزّاعة» ليس سوى شريك في المشروع. لكن الوطن البديل ليس أيضاً مؤامرة، ولا عملية انقلابية. فلن يكون هناك، حتى لدى اكتمال المشروع، تغيير لاسم الدولة الأردنية ولا لعلمها ولا لكيانها الدولي الخ، وليس مطروحا أبداً، من وجهة نظر أصحاب المشروع من أميركيين وصهاينة وكمبرادور، قيام دولة فلسطينية في الأردن، وإنما التغيير يلحق (كما هو حاصل فعلاً) بمكوناتها الديموغرافية السياسية وتركيبتها الاجتماعية وهويتها المحلية وارتباطها العربي. وهكذا، فإن إلحاح رئيس الوفد الأردني إلى مفاوضات السلام مع إسرائيل، الدكتور عبد السلام المجالي، مجدداً، على أنّه، بعمله في 1994، «دفن» الوطن البديل، ناجم عن تقديره بأنّ الوطن البديل يعني دولة بديلة ونظاماً بديلاً. وهذا، بطبيعة الحال، «وهم» لا يحتاج إلى الدفن أبداً.
الوطن البديل هو سياق (سلسلة من العمليات) بدأ منذ ضم الضفة الغربية، عنوة، إلى المملكة وتجنيس سكانها واللاجئين إليها ـــ ضد إرادة شعبها وقواه الوطنية. ثم تأكد ذلك السياق في سياسة الجسور المفتوحة مع الضفة، بعد 1967، ثم تعمّق بفصل اللاجئين والنازحين في الأردن عن وحدة الشعب الفلسطيني، وتكرّس في معاهدة وادي عربة في 1994، والتي نصت في مادتها الثامنة على التوطين، ثم في سياسات تسهيل الهجرة والتجنيس والتوطين المستمرة حتى الآن.
يتكوّن سياق الوطن البديل من ثلاث عمليات متعاضدة هي:
أولاً، منع قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وقدرة على إعادة بناء المجتمع الفلسطيني واستيعاب النازحين من أراضي الـ 67، بل حتى استيعاب الزيادة السكانية الطبيعية لمواطني الضفة وغزة. وذلك باستمرار الاحتلال وتوسّع المستوطنات وتمزيق الوحدة الجغرافية للأراضي الفلسطينية والحصار والقمع الخ، وكذلك رفض عودة اللاجئين إلى وطنهم في مناطق الـ 48.
ثانياً، ... وينتج من التعايش الفلسطيني والعربي والدولي مع هذه السياسات الإسرائيلية المعادية، بل المدمرة للشعب الفلسطيني، مشكلة ديموغرافية تم التوافق الضمني بين الأطراف على حلها واقعياً في الأردن. ولكن هذا الحل لن يكون جذرياً وثابتاً إذا لم يؤطّر سياسياً في البلد المضيف. وهو ما طرح على بساط البحث مطالب ما يسمى الحقوق المنقوصة والمحاصصة
السياسية.
ثالثاً، ولتلبية تلك الحقوق المنقوصة وتجذيرها في نظام المحاصصة الديموغرافية السياسية، لا مناص من تغيير الهوية الوطنية الأردنية، لا باتجاه فلسطنتها، بل باتجاه تغييبها لمصلحة نمط لاوطني ـــ عولمي يركّز على أولوية قيم «البزنس» وينبذ التراث والوطنية ومبادئ التقدم الاجتماعي. وطالما أنّ الوطنية الأردنية ارتكزت، تاريخياً، على الدولة والقطاع العام، كان لا بد من تفكيكهما. وهو ما عشناه ونعيشه منذ سيطرة النيوليبراليين على مفاصل القرار منذ مطلع الألفية.
على هذه الخلفية، نلاحظ أن الحركة الوطنية الاجتماعية الصاعدة في الأردن منذ سنتين، تتبنى برنامج توحيد الشعب الأردني بكل مكوناته وأصوله في إطار حركة وطنية واحدة تركّز على الربط بين مجابهة التدخل الأميركي ومقاومة المخططات العدوانية الإسرائيلية، وبين المطالب الاجتماعية الجذرية، وفي مقدمها استعادة القطاع العام.
الوطن البديل هو، إذاً، سياق من العمليات اللازمة لتوفير وتشكيل إطار ملائم لاستيعاب المشكلة الديموغرافية السياسية للاغتصاب والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. وقد كرسته معاهدة وادي عربة، طالما أنّها قبلت بالسلام مع إسرائيل، قبل الانسحاب من الأراضي المحتلة، وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعودة اللاجئين.