في بدايات الحراك التونسي المناهض لنظام بن علي، كتبتُ في هذه الصفحة نصّاً بعنوان: «حين لا يعود التثوير مجرد رطانة». كنت مثلي مثل كثيرين، منحازاً بالكامل لما اعتقدتُ وقتها أنّه عودة السياسة بمعناها الراديكالي إلى الحيّز العام، وعودة الناس إليها من منظور المواطنة وإدارة فعل التغيير. لكن يبدو لي اليوم، وبعد وصول الحراك الشعبي في أكثر من منطقة إلى حائط مسدود، أنّ العودة تلك ما كان مسموحاً لها بأن تكون إلا كذلك: أي جزئية وناقصة ومحدودة الأثر. ويبدو ذلك واضحاً في أكثر من مكان، بدءاً من تونس مروراً بمصر واليمن (ليبيا خارج السياق تماماً لأنّ «التغيير» فيها كان استعمارياً خالصاً من دون الحاجة إلى أقنعة وادعاءات كبيرة) وصولاً إلى سوريا. «جلّ ما فعله» الحراك الشعبي في تلك الدول أنّه أسقط حاجز الخوف وفتح أفقاً لعودة السياسة من باب الإضرابات والاعتصامات والمطالبات بالحقوق المسلوبة في العمل والرعاية الصحية والأجر و... إلخ. طبعاً من شأن التقليل من إنجاز كهذا أن يجعلنا نصطفّ إلى جانب العدميين الذين يجاهرون اليوم بعدائهم المفرط للحراك، لمجرد أنّه لم يمالئ تطلعاتهم الأيديولوجية المقلوبة. ففي عرف هؤلاء لا يعني شيئاً أن يجبر موظفون وعمال وأجراء، أرباب عملهم على الرضوخ لمطالب زيادة الأجر والتثبيت الوظيفي وانتزاع الحقوق المكتسبة في التظاهر والاضراب و... إلخ. كلّ ذلك لا يعدو كونه تفصيلاً صغيراً إزاء الصورة الكبرى التي ترتدي غالباً طابعاً استراتيجياً وجيوسياسياً. كأنّ السياسة قد وجدت لتخدم الاستراتيجيا وتفنى في خرائطها فحسب. يسهل على المرء في حالة كتلك أن يقنع ذاته بأنّ الخلاص من الاستراتيجيا ودعاتها لا يكون إلا بالارتماء في أحضان كارهيها، والداعين إلى فصلها تعسفياً عن السياسة بما هي إدارة لشؤون الناس اليومية فحسب! (مَن قال إنّ الناس لا شأن لهم بالاستراتيجيا ونظرياتها؟). والمشكلة اليوم أنّ مَن يدعو إلى هذا الفصل التعسفي هو ذاته الذي يحتكر سردية «الثورات»، ويصادر «تعريفها اليساري». تعريف يفترض به أن يصل الاستراتيجيا بالسياسة، وأن يعيد تعيين هذه الأخيرة طبقياً. هكذا ينبغي أن تعرّف الثورات عادة. فأن تكون حيث تكون الطبقات الشعبية ومصالحها لا يعني أن تنأى بنفسك عن القراءة الاستراتيجية والجيوسياسية للصراع في المنطقة. أصلاً لا تناقض بين الأمرين إلا لدى مَن يريد للكتل الشعبية ألا تنخرط أساساً في السياسة. ذلك أنّ الانخراط لا يكون انخراطاً إلا بمقدار ما يجذّر الوعي لدى الناس (والناس كما السياسة هي فعل مركّب بالأساس، وأن مزاولتها من زاوية محض عاطفية أو محض نفعية ستفضي إلى المزيد من نقضها وتلفيقها أيديولوجياً. ثمّة مفارقة لا بد من التقاطها هنا: مَن يقود الحراك اليوم ومَن يعاديه متّفقان على أن القراءة المركّبة وغير الاستهلاكية لما يجري لا تناسبهما، ولا تمالئ بما فيه الكفاية نزعتهما الجارفة إلى مصادرة الصراع في المنطقة ونسبه كلّ إلى معسكره. معنى ذلك أن إمكانية تقاطع السرديتين المهيمنتين (النيوليبرالية و«الممانعة») ليست هزْليّة بالقدر الذي نعتقده. هي ستبقى كذلك إذا افترضنا مثلاً أن ناصر قنديل وفيصل القاسم إنما يقفان على طرفي نقيض الآن! وهذه نظرية تلقى رواجاً منقطع النظير لدى مَن يعتقد حقاً أن السلالتين الحاكمتين في سوريا وقطر قد باتتا عدوتين فعلاً، لا أن عداوتهما المستجدة هي نتاج التقسيم الجديد للعمل في المنطقة بين الغرب الامبريالي وروسيا والصين. إذا كان تحليلنا للوضع القائم في سوريا والمنطقة يرتكز على فرضيات مماثلة فسنكون حتماً أمام واقع هزلي لا مكان فيه إلا لأمثال أولئك «المهرّجين». حتى الوقائع الصلبة المتصلة بالصراع بين الغرب وإيران تصبح بلا أثر تقريباً إذا جرى توظيفها في سياقات مماثلة. ومن سوء حظنا فعلاً أننا نبدد اليوم فرصة ثمينة لرصد تفاعل جبهاتنا الداخلية في سوريا ومصر واليمن والبحرين وليبيا مع الصراع الدولي. وهي فرصة لا تكاد تتكرر إلا كل بضعة عقود، وإذا حصل وجاءت مجدداً فلن تكون الأدوات التي نستخدمها لتفكيكها فاعلة بما يكفي. والسبب في ذلك بسيط وواضح: رصد التحولات التاريخية هو فعل تراكمي بالضرورة، ومَن لم يطوّر أدواته اليوم ويرق بها إلى مستوى الحدث لن يكون جاهزاً لفعل ذلك غداً. طبعاً يشعر المرء بالمرارة وهو ينظّر للتفاعل الرصين مع الحراك في المنطقة، وفي وقت يدفن فيه هذا الحراك تحت طبقات من التفاهات والنفايات السياسوية النظرية. وغالباً ما يكون لرأس المال الموظف للأحزاب والقوى التي صادرت الحراك الدور الأكبر في صياغة هذه التفاهات، وتصديرها كبضاعة نخبوية للاستهلاك الجماهيري. ويلاحظ في هذا السياق أن النُخَب التي أعاد رأس المال الوظيفي إنتاجها وتجهيزها للمرحلة الانتقالية الحالية هي ذاتها التي استخدمتها سابقاً نُظُم المافيا المتداعية، قبل أن تنشق عنها النخبة العسكرية (المافياوية بدورها) وتعيد تشبيك العلاقة مع رأس المال، حليفها في النظام الجديد (مصر «الجديدة» نموذجاً). تبدو النخب النيوليبرالية الموكل إليها صياغة مانيفستو التشبيك أعلاه وكأنها الحلقة الأضعف في هذا التحالف. هي لا تستطيع إلا أن تذعن لمصالح رأس المال الذي يوظّفها، وحين تريد المناورة تذهب إلى الاشتباك الموضعي مع الأوليغارشيا العسكرية، ظنّاً منها أن تصيب عصفورين بحجر واحد: من ناحية ترفع عنها الحرج الذي يسبّبه استنكافها عن التصويب على البعد الطبقي للصراع داخل البلاد، كونها تمثّل جزءاً عضوياً من رأس المال الذي يغيّب هذا البعد، ومن ناحية أخرى تظهر وكأنها طليعة حقيقية في «استهداف حكم العسكر»، على اعتبار أن كتيّبات الثورات الملونة التي تحذو تلك النخب حذوها حرفياً توصي بأن التصويب الشكلي والفراغ على الحكم العسكري هو أساس الصراع اليوم. حتماً لا مجال لمساءلة الكتيّبات «الثورية» النيوليبرالية عن تحييد العلاقة الوظيفية بين الغرب الرأسمالي الامبريالي والأوليغارشيات العسكرية الحاكمة عن تصويبها. أصلاً لم توجد تلك الكتالوغات المدرسية (نظريات جين شارب ورفاقه) إلا لتفعل ذلك، ولتوهمنا بأننا نخوض فعلاً صراعاً ضد النخب العسكرية الفاشية، لا نسخة ملفّقة عنه. هذه لمَن لا يعرف ألف باء ما يسمى الثورات الملونة. بالمناسبة، هنالك اليوم ما يشبه التواطؤ بين القوى العميلة لرأس المال (يمين و«يسار» ووسط) على طمس هذا المصطلح، وعلى طمس الحقبة التي شهدت صعوده في أوروبا الشرقية ودول الاتحاد السوفياتي السابق. فمن مصلحة هؤلاء اليوم ألا تظهر للعلن وقائع تلك الحقبة التي شهدت إعادة إنتاج للنُظُم الحليفة للأوليغارشيا المافياوية الروسية على قاعدة التشبيك مع الجناح الأكثر إذعاناً للغرب داخلها (أي المافيا). وما شهدته كل من جورجيا وأوكرانيا في السنوات الأخيرة (تحجيم نفوذ ميخائيل ساكاشفيللي ورفع يد الغرب عنه سياسياً ودعائياً بعد التدخل الروسي في جورجيا، اعتقال يوليا تيموشينكو وتدعيم حكم فيكتور يانوكوفيتش حليف روسيا القوي) هو بمثابة إعادة اعتبار للفكرة التي همّشها التدخل الامبريالي «السلمي» في القوقاز، وعاود تهميشها من جديد في ديارنا. والفكرة تقول بأن الحامل الموضوعي للتغيير، وإنْ كان شكلياً، هو الطبقات الشعبية حصراً، وأي تهميش لها أو لمَن يمثّلها داخل الحراك سيفضي حتماً إلى انهيار العملية من داخلها. طبعاً ما حصل في جورجيا وأوكرانيا كان مغايراً لذلك. فالتدخل لإجهاض حراك رأس المال هناك حصل من فوق لا من تحت، أي من الجناح المافياوي القومي الذي جرى تهميشه في عملية نقل السلطة والامتيازات الطبقية من الضفة الروسية إلى الضفة الأميركية. لكن مَن يعرف جيداً طبيعة التشكيلات الاجتماعية في كل من جورجيا وأوكرانيا يدرك أن غياب الطبقات الشعبية هناك عن تقرير مصيرها لم يكن غياباً كاملاً أو مطلقاً. فالأوكرانيون من أصول روسية لا يزالون يمثلون «غالبية» داخل ذاك البلد، وهم كانوا ينحازون تاريخياً إلى ما يعتبرونه «وطنهم الأم» (روسيا طبعاً) في أي نزاع سياسي بين جناحي المافيا داخل أوكرانيا. يساعدهم في ذلك طبعاً تغليبهم النزعة القومية (والشوفينية أحياناً) على ما عداها. وهذا هو التفسير الوحيد للشعبية التي يحظى بها فلاديمير بوتين بينهم. فالرجل، مثله في ذلك مثل كثير من الزعماء الروس المرتدين عن الشيوعية، يفضّل استثمار هذه النزعة القومية المعادية للغرب لدى الروس البسطاء في صراعه مع خصومه داخل المافيا الحاكمة فحسب. ذلك أنّه ليس إصلاحياً كما «يروّج لنفسه»، ولا تعنيه في شيء مصالح الطبقات الشعبية الروسية التي تضررت من حكمه النيوليبرالي، تماماً كما تضررت مثيلاتها في جورجيا وأوكرانيا من حكمي ساكاشفيللي وتيموشينكو. معنى ذلك أنّ انهيار الثورات الملونة التي رعاها الغرب في أوروبا الشرقية والقوقاز كان مشفوعاً بدينامية داخلية هي دينامية الطبقات الشعبية المشحونة قومياً. وهذه الدينامية تقاطعت مصالحها إلى حد معين مع مصالح الدينامية الفوقية التي مثّلها آنذاك بوتين وحاشيته داخل الجناح القومي من الأوليغارشيا الحاكمة، لتفضيا بعد حين إلى معادلة صفرية كاملة. معادلة لم تنتج تغييراً يذكر، لكنّها حافظت على الحد الأدنى من «التماسك الداخلي» و«النزعة الاستقلالية» تجاه الغرب الامبريالي وأذياله «الثوريين».حتماً سيقضّ المثال الأوكراني مضاجع النخب التي ترعى التغيير الصوري في منطقتنا، وسيصيبها بالفزع رغم اختلاف السياقات، ورغم ضمور الأيديولوجيا القومية التي حفّزت الطبقات الشعبية على تحجيم وصاية النخب النيوليبرالية العميلة للغرب على العملية السياسية في تلك البلاد. لكن اختلاف السياق وكذا الفروقات بين بؤر استقطاب الطبقات الشعبية هنا وهناك لا يعنيان في حال من الأحوال أنّ ثوراتنا ليست ملونة مثل ثوراتهم، أو أنّ الصراع الدائر اليوم ليس صراعاً على مَن يحق له أن ينهب أكثر ويثري أكثر على حساب أغلبية الشعب المفقرة والمسحوقة. ذلك أنّنا نعيش اليوم ظروفاً مماثلة (كما أسلفت) لتلك التي عاشها الأوروبيون الشرقيون منذ عقد من الزمن. فالمافيات التي أعيد إنتاجها لتتسيّد الحقبة الثورية الملونة هي ذاتها، ورأس المال الكومبرادوري الذي تحالف مع تلك المافيات وجيّر النخب لمصلحته بعدما ابتاع ولاءها الكامل هو ذاته، والعسكريتاريا الفاشية التي تحاول عقد الصفقات مع هذا وذاك لكي توحي للطبقات التي تسحقها بأنّها لا تريد أن تحكم هي ذاتها، والطبقات الشعبية المفقرة التي لم تصلها ثمار التغيير المزعوم بعد ولا غيّرت تنظيرات النخب المأجورة شيئاً في واقع تهميشها واستعبادها هي ذاتها. حتى المكسب الوحيد من الحراك الحاصل والمتمثل في انتزاع حق التظاهر والاضراب من الطغمة الحاكمة، يكاد يضيع اليوم في ظل استبعاده من التغطية الإعلامية المهيمنة، والتركيز بدلاً منه على النقاشات التي تطال تغيير شكل السلطة المافياوية لا بنيتها (صراع أجنحة اليمين الإسلاموي والعلماني على ما يسمى «مدنية الدولة»، النقاش الهزلي المستمر حول عضوية الجمعية التأسيسية للدستور، الصراع داخل البرلمان الصوري المنتخب بين يمينين نيوليبراليين أحدهما ديني والآخر علماني، توريط ما تبقى من اليسار الثوري غير المأجور بالصراع داخل معسكر اليمين وإسناده لجناحه العلماني على حساب الآخر الإسلاموي... إلخ). كل ذلك يقول لنا شيئاً واحداً: ما حدث في أوكرانيا وجورجيا سيتكرر هنا وإنْ على نحو مغاير بعض الشيء. و«غيريته» تلك ستبدو على الأرجح أكثر اتّساقاً مع طبيعة التشكيلات الاجتماعية المحلية في مصر وسوريا واليمن و... إلخ. الأمر «حتمي» إذاً. وهو كذلك لأنّ طبيعة الصراع وهوية المنخرطين فيه ستفرضان منطقهما في النهاية. فالصراع المستمر هنا هو استكمال لما بدأته الصيرورة التاريخية هناك (في أوكرانيا وجورجيا). والصيرورة تقول بأن مَن يحكم رغماً عن إرادة الطبقات الشعبية ولو باسمها أحياناً ستلفظه هذه الطبقات لاحقاً. و«البديل» الذي ستأتي به في ما بعد لن يكون معبّراً بالضرورة عن مصالحها الحقيقية، لكنّه سيحفظ في المقابل الحد الأدنى من تلك المصالح، وسيكون بقاؤه من عدمه مشروطاً بالتشبيك بينها (أي المصالح) وبين السيادة الوطنية في حدودها الدنيا. على هذا الأساس فحسب تخوض الطبقات الشعبية صراعها وتصوغ شعاراتها، لا على أي أساس آخر يمليه رأس المال التابع ونخبه الملونة بلون الثورة... الملونة.
* كاتب سوري