استحوذت أزمة «السفير» على اهتمام الكثيرين في العالم العربي، لكن أزمة الصحافة هي أزمة عالميّة. إن انتشار المحطات الفضائيّة وانفجار صفحات الإنترنت بأعداد هائلة وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي يكاد يقضي على الصحافة الورقيّة (أنا من هؤلاء الذين لم يمسكوا بصحيفة ورقيّة منذ بضع سنوات لأن القراءة الرقميّة باتت أسهل وأفضل بيئيّاً —ومنزليّاً). وكان الفرنسيّون في الثمانينيات يسخرون من الانحدار الذريع في بيع الصحف في أميركا وكان التعليق نخبويّ المقصد: إن الأميركيّين خلافاً للفرنسيّين مقلّون في القراءة. لكن الصحف الفرنسيّة عانت منذ التسعينيات ما عانته وتعانيه الصحافة الأميركيّة بمجرّد وصول الـ«كايبل» إلى المنازل الفرنسيّة. الصحيفة فقدت جزءاً من مهمتها، أي إيصال الخبر المتراكم في الأربع وعشرين ساعة الماضية مع تفسير لها. لكن أخبار الشاشات تقوم بإبلاغنا بتلك الأخبار دوريّاً وعلى مدار الساعة وبلغات متعدّدة، مما ينفي حاجة بعض الناس إلى الصحف. والإخبار السريع والسطحي مُفضّل أكثر من صحافة الاستفاضة والتحليل، خصوصاً عند الجيل الجديد. (أذكر أنني أصبتُ بالهلع عندما أخبرني جوزيف سماحة قبل إصدار «الأخبار» انهم لا يعتزمون تغطية التصاريح اليوميّة للساسة. قلتُ له إن الناس اعتادت على متابعة التصريحات ومن الضروري نشرها. قال إنها تحصل عليها من الشاشات، وكان على حقّ، طبعاً).
والأزمة هي عالميّة تصيب الإعلام الورقي في كل انحاء العالم، وتزيد من سيطرة الاحتكار الرأسمالي على الصحافة (في كل أنواعها، حتى الإنترنتيّة). وقد أفردت شبكة «بلومبرغ» دراسة عن الموضوع قبل أيّام أوردت فيها أرقاماً دالّة على عمق الأزمة في أميركا. والحلّ هنا على ما يبدو يكمن في الاندماج المُتفاقم، أي في ابتلاع الصحف الكبيرة (المملوكة من شركات عملاقة) للصحف الأصغر: لقد بيع في العام الماضي فقط ٧٠ صحيفة بقيمة ٨٢٧ مليار دولار. بات التنافس بين جريدتيْن أو اكثر في المدينة الواحدة سمة نادرة. والاشتراكات الإنترنتيْة صعبة، نجحت فيها «نيويورك تايمز» التي راكمت أكثر من مليون مشترك، لكن هذا نادر في عالم الصحافة. وقدّرت «بلومبورغ» ان قيمة الإعلانات في الصحف تقلّصت إلى ١٢ مليار دولار، فيما كانت القيمة ٥٠ مليار في عام ٢٠٠٠. وتقلّص حجم الاشتراكات المدفوعة بنحو النصف منذ عام ٢٠٠٥. والأزمة أصابت الصحف «العريقة» مثلما أصابت الصحف المحليّة: استنجدت «نيويورك تايمز» باستمثار من كارلوس سليم، فيما اشترى الملياردير جيف بيزوس (صاحب شركة «أمازون») «واشنطن بوست».
الصحافة اللبنانية والعربية والفرنسية كانت صحافة عائلات وأصحاب ثروات

صدّقت الدولة كذبتها عن نفسها، كما صدّقها آخرون: أنها فوق الصراعات ومحايدة (وعلى «مسافة واحدة بين الأطراف»، كما سياسة آل سعود نحو لبنان)، وان مهمتها التعبير عن عقد اجتماعي عقده الناس فيما بينهم، أو في مخيّلتهم. وأصبح للدولة مروّجون، من اليمين والوسط واليسار. هي الملاذ وهي الأمل وهي «زورق النجاة». لكن كيف تكون الدولة فوق الصراعات ولا تكون جزءاً منها وهي تعبير عن فئات اجتماعيّة-اقتصاديّة نافذة مُحدّدة؟ كيف تكون دولة من أصحاب المليارات تعبيراً عن آمال وأحزان المعذّبين والمسحوقين؟ لا جواب غير أن الدولة باتت «حبيبة» الجميع.
الأمر نفسه يسري على الصحافة. صدّقت الصحافة كذبتها عن نفسها، لكن منطق الصحافة أفعل لأنها هي بنفسها أفضل دعاية عن نفسها، وبنفسها. الصحافة تحتاج إلى ان تكذب على الناس عن دورها، كما أن الدولة تحتاج من أجل ان تسهّل مهمّة القمع والتسلّط ان ترفع نفسها إلى مرتبة «السلطة التي هو فوق رأس الجميع»، أو هي راعية الصراعات المُحايدة أو هي «ناظم للمجتمع»، كما يصفها عبد الكريم مروّة في كتاب «نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي». والصحافة تريد ان تكون بنظر الناس صوتاً أخلاقيّاً مستقّلاً ومحايداً. وكذبة السلطة الرابعة تهدف إلى اكثر من ذلك: تهدف إلى الترويج لنفسها على أنها محايدة في الصراع، كما تهدف إلى المبالغة في قوّتها (واصطلاح «السلطة الرابعة» نسبه توماس كاريل في كتابه «عن الأبطال وعبادة الأبطال» إلى خطبة لادموند بيرك، وإن كان البحث لا يزال مستمرّاً للعثور على تلك الخطبة). لكن الصحافة لم تكن منذ نشوئها إلا جزءاً من الصراع الاجتماعي-الاقتصادي وهي مؤجّجة له، وغالباً في صف الطبقات الحاكمة. الصحافة «المُغايرة» هي الأقل تأثيراً وهي التي تتعرّض للإقفال والقمع والتفجير (كما فعل النظام السوري بجريدة «المُحرّر» في لبنان في عام ١٩٧٦).
لم تنبت الصحافة الأوروبيّة في القرن السادس عشر والسابع عشر من عدم. هي كانت متلازمة مع صعود الطبقة البورجوازيّة. والصحافة الألمانيّة نشأت على يد صناعيّين، وهي كانت اكتشافاً أيضاً للطبقة الحاكمة من أجل تلقين الشعب على نطاق أوسع. الرقابة على الصحافة غير الرسميّة كانت مفروضة حتى لا تحيد. لكن الطبقة البورجوازيّة الصاعدة كانت بحاجة الى التعبير عن مطالبها ومصالحها، فكانت لها الصحافة المكتوبة —الصحف والمجلاّت. وقد ربط بنديكت اندرسن في كتاب «المجموعات المُتخيّلة» بين صعود الخيال القومي وربط الراسماليّة بالطباعة في أوروبا: وحّدت الصحف بين الناس عبر الكتابة بلغة محليّة (غير لاتينيّة) تربط بين الناس في أنحاء عديدة. أما بنجامين فرانكلن الذي أسّس صحيفة «بنسلفانيا غازيت» في ١٧٢٩ في فيلاديلفيا فقد عمّم نشر الفضيلة (الرأسماليّة-الدينيّة) المُتزمّتة والمحافظة على العموم. أي ان للصحافة رسالة، لكن بالمعنى الطبقي لا المثالي المُتجرّد مِن (وعَن) الهوى. وجريدة فرانكلين تضمّنت في معظمها إعلانات مبوّبة، بما فيها بيانات للعثور على عبد هارب، أو خادمة هربت من منزل مخدومها (كما الإعلانات المُبوّبة في صحف لبنان). هي كانت رسالة المُستعبِد وصوته، لا للعبد.
وبالغت الصحافة في دورها وفي أهميّة دورها حتى صدّقته. هي قالت في أميركا إنها كشفت فضيحة «ووترغيت» وتلا ذلك أفلام وكتب ومقالات طوال عن الدور البطولي للصحافيّيْن بوب وودورد وكارل برنستين من «واشنطن بوست». لكننا بتنا اليوم نعلم حقيقة هويّة «الحلق العميق» (الذي كان يمدّ وودورد بالأسرار والأخبار للنيل من نيكسون)، إذ انه كان مسؤولاً كبيراً في مكتب التحقيقات الفدرالي، أي ان كشف الحقيقة كان من قبل جناح في السلطة، ولم تكن الصحافة إلا مُتلقيّة لإخباريّات من جناح في السلطة (وودورد لم يكن عبر العقود إلا صحافي بلاط في كتبه، يعبّر عن مكنونات المسؤول الذي يسرّ له بالأسرار). وكشف «أوراق البنتاغون» جرى على يد باحث في مركز «راند»، بعد ان هالته كميّة الأكاذيب الرسميّة عن حرب فييتنام.
أما في العالم العربي، فلم يختلف الأمر. كانت الصحافة ذات بدايات بعيدة عن المثاليّة. منذ بداياتها، كانت الصحافة مرتبطة بالنظام الحاكم، وبالمستعمِر او السلطان. قد يكون المُستعمر الفرنسي هو أوّل مُنشئ للصحافة العربيّة، مع الحملة الفرنسيّة في مصر بداية ثم جريدة «المبشر» في عام ١٨٤٧ في مدينة الجزائر. ويُذكَر رزق الله حسّون (الحلبي والأرمني، إذ ان اسم عائلته الأصلي هو حسّونيان، لكن الروايات عنه تغفل ذلك) على أنه أوّل رجل عربي يُصدر صحيفة عربيّة، «مرآة الأحوال»، في عام ١٨٥٥. والرجل دخل في صراع الدول عند نشوب حرب القرم، واضطرّ إلى اللجوء إلى روسيا هرباً من حكم إعدام عثماني. كانت السلطة العثمانيّة تريد من الصحافة خدمة سياساتها فقط (هكذا عرّف جمال الخاشقجي سياسة محطة «العرب» في حديث مع جريدة «الشرق» القطريّة قبل أسبوع حيث قال إن دور المحطة سيتركّز على «خدمة سياسات المملكة»، لكنه لم يشرح سبب الهجرة من السعوديّة إلى البحرين ثم إلى قطر، لخدمة سياسات هذه المملكة). والكاتب الفذّ، أحمد فارس الشدياق، ذكّر في تاريخه الصحافي بما يعتري الصحافة العربيّة اليوم من مشاكل. وصحافة الشدياق (المتمرّد) لم تكن مُتمرّدة دائماً، وكانت «الجوائب» تتلقّى دعماً من أكثر من جهة. يروي «الكونت» فيليب دي طرازي، في «تاريخ الصحافة العربيّة» أن الشدياق كان «يقبض كل سنة خمسمائة ليرة عثمانيّة من السلطان... وكان كل من إسماعيل باشا خديوي مصر ومحمد الصادق باشا باي تونس ينفحهُ بمثل المبلغ المذكور لأجل خدمة أفكارهما وترويج مصالح بلادهما» (جزء أوّل، ص. ٦١).
وبدايات الصحافة في بلادنا كانت نوعيْن: إمّا صحافة النظام الحاكم أو العائلة الحاكمة، او الصحافة المتنوّعة في مصر ولبنان وسوريا وفلسطين. لكن الصحافة تلك كانت صحافة عائلات صاعدة، مثلما ان بداية الصحافة في اميركا كانت على يد الطبقات المتنفّذة من تجّار «نيو إنغلاند» وأصحاب المزارع في الجنوب. والصحافة ترافقت في البلدان العربيّة المذكورة مع مرحلة نشوء الأحزاب، فكان لكل حزب صحيفة ناطقة باسمه. لكن الصحافة كانت أكثر حريّة في الإصدار قبل سنّ قوانين مانعة ومُقيّدة في لبنان، حيث أصبحت الثروة من شروط إنشاء صحيفة. لكن الصحافة الأقوى في لبنان كانت صحافة الطوائف، وكان لكل طائفة صحيفة. وانعكس الواقع اللبناني على صحافة المهجر الأميركي: فكان للموارنة صحيفة «الهدى» لنعّوم مكرزل فيما كانت صحيفة «مرآة الغرب» لنجيب دياب ناطقة باسم الطائفة الأرثوذكسيّة، وكانت الصحيفتان (كما الطوائف في بلد المنشأ) تخوضان غمار حروب شعواء.
والصحافة اللبنانيّة والعربيّة والفرنسيّة كانت صحافة عائلات وأصحاب ثروات. كان المعني بها النخبة تتكلّم بكلام تفهمه النخبة وحدها (نشر غسّان تويني أوّل ما نشر في شبابه باللغة الفرنسيّة). لم يكن القصد هو العامّة إلا في الصحافة الحزبيّة. لكن مرحلة الاستقلال والحرب العربيّة الباردة جعلت من لبنان مقرّاً لصراع الصحف، فكان لكل نظام وسفارته في لبنان صحيفة - أو اكثر ناطقة باسمه. ولم يكن الرأسمال المفروض لإصدار جريدة مانعاً امام الأنظمة. ولم يكن في لبنان من موانع قانونيّة امام شراء دول أجنبيّة لصحف محليّة. وقانون سريّة المصارف الذي أريد له حماية أموال التهريب وأجهزة المخابرات والسفارات ساهم في إنعاش الصحافة وحماية داعميها الخارجيّين. كانتا «النهار» و«الحياة» تمثّلان الفريق الإقليمي البريطاني - الأميركي - الخليجي فيما كانت صحف «المحرّر» و«الشعب» و«بيروت المساء» و«الأنوار» تمثّل الفريق الآخر. وكان بعض الصحف يتنقّل برشاقة بين الفريقيْن، مثل «الحوادث» التي كان تمويل صاحبها ينوّع في الولاءات والخدمات السياسيّة (لكن سليم اللوزي تحرّر بالكامل بعد ١٩٧٠ من الجماهيريّة الناصريّة وتلقّى دعماً إقليميّاً وعالميّاً جعل من مجلّته الناصريّة السابقة —والتي دعت في الستينيات إلى قتل المحامي محسن سليم لأنه رافع امام المجلس العدلي في قضيّة اغتيال كامل مروّة- بوقاً بأصوات عدّة).
الصحف الفرنسيّة عانت منذ التسعينيات بمجرّد وصول الـ«كايبل» إلى المنازل

لكن مرحلة الصعود النفطي غيّرت من طبيعة الصحف. كانت الصحيفة تكتفي بمكتب من ثلاث غرف أو أربع، وأصبحت وجاهة الناشر لا تقبل بأقلّ من مبنى أو أثنيْن («دار الصيّاد»، على قلّة نشاط وحركة «الأنوار» و«الصيّاد»، لا تزال تحتلّ أكثر من مبنى، لكن رعاية دولة الإمارات العربيّة ثابتة وضامنة). في الحقبة الناصريّة، كان النظام الناصري يمدّ الصحف الموالية بالورق والمعونات (الزهيدة نسبيّاً)، فيما كانت دول الخليج والمخابرات الغربيّة تمدّ الصحف الموالية بالمال والعتاد والأخبار. لكن الحقبة السعوديّة التي تلت وفاة عبد الناصر، هي التي فجّرت عالم الصحافة: إغداق لا سابق له للمال النفطي على صحف ومطبوعات حول العالم... ولكلّ أمير صوته وبوقه. ناشرون محليّون كنزوا المال من دون رقابة أو محاسبة على كميّة الأموال الواردة والمُستوردة. إعلانات من «النهار» ومن غيرها عن استكتاب عام، لكن العائلة تبقى هي المالكة بالاشتراك مع الكنيسة أو مع نافذ (لا نافذة). ليس من صحيفة تنشر بدقّة معلومات عن مصادر الدخل وعن المصاريف، كما ان دور أجهزة المخابرات في الإنفاق على الصحف زاد من السريّة المطلوبة. وبدلاً من ان تصبح هجرة الصحافة اللبنانيّة إلى لندن وباريس فرصة للتحرّر من القيود والضوابط والرقابة، زادت تلك القيود والرقابة بإرادة ذاتيّة بغية استمرار الضخ المالي: مجلّة «التضامن» و«الدستور» و«الوطن العربي» تنطق باسم النظام العراقي —أو واحد من أجهزته للدقّة، فيما تنطق مجلّة «المستقبل» باسم دولة الإمارات، فيما بزّ سليم اللوزي باقي الإعلاميّين إذا رفض ان يحتكر نظام واحد مجلّته فسخّرها لعدد من الأنظمة العربيّة (وغير العربيّة) جاعلاً منها أحياناً منبراً للتباري بين أجهزة مخابرات متعدّدة (رواية إبراهيم سلامة «غدا سندخل المدينة» تبقى أدق وصف لحكاية مجلّة «الحوادث» ودهاليزها). وسليم اللوزي حاز عقوداً بإعلانات من شركات يابانيّة كانت تكفي لتمويل المجلّة لسنوات عديدة لكنه —مثل أصحاب الصحف والمجلاّت العربيّة— طمع بثروة ونفوذ أكبر. ترجم مجلّة «الحوادث» وأصدرها بالإنكليزيّة من لندن لكنها لم تستمرّ طويلاً: قراءة سليم اللوزي بالإنكليزيّة المُترجمة كانت مثل قراءة عوني الكعكي باللغة... العربيّة.
والنظام الليبي دعم هو أيضاً عدداً هائلاً من الصحف والمطبوعات العربيّة، في لبنان والعالم العربي والمهاجر. كان يكفي ان يقوم الناشر بحوار «ثقافي» عن «الكتاب الأخضر» يمتدّ على ساعات طويلة رتيبة كي يستمرّ التمويل، سنة بعد سنة، مقرونة باسشتهادات من «الكتاب الأخضر» (وعندما مات القذّافي نسيه كل أيتامه، لا بل راكموا التراب على جثّته بعد ان كان لهم —بأقلامهم— حلم الأمة العربيّة بعد عبد الناصر).
بكلام آخر، مثلما ان المال النفطي افسد السياسة والثورة في العالم العربي، فإن المال النفطي أفسد الصحافة التي لم تكن يوماً طاهرة (لا غربا ولا شرقاً). لكن وفرة المال غيّر من طابع الصحافة، وأصبح كل ناشر يبني لنفسه ولمجده مبنى كاملاً، أو أكثر إمعاناً في تخليد اسمه. لكن لماذا كل هذه المباني؟ ولماذا المكاتب حول العالم؟ ولماذا هذا الكم من المراسلين؟ خذ (وخذي) مثلاً المكاتب في واشنطن وفي باريس وفي لندن؟ ماذا أضافت على الصحافة العربيّة؟ إن مراسلي الصحافة العربيّة في واشنطن يصبحون (في أكثرهم) شبه ناطقين وناطقات باسم الحكومة الأميركيّة، فيما يصبح المراسلون والمراسلات في باريس شبه ناطقين باسم الحكومة الفرنسيّة، وهلم جرّا. ماذا يضيف هؤلاء غير المزيد من الضخ الدعائي (لا الإعلامي) لوجهة النظر الحكوميّة في البلد المُضيف. وعندما يحصل مراسل أو مراسلة على «سبق»، يكون مقابلة مع مسؤول أميركي أو باريسي يُصدر فيه تهديدات من قبل حكومته لجهة عربيّة. أي أن تغطية العواصم الغربيّة من بيروت أو القاهرة بات أفضل، خصوصاً في عصر الإنترنت والفضائيّات وخدمات الخبر العاجل (طبعاً هناك استثناءات لمراسلات ومراسلين غطّوا تلك العواصم على أفضل وجه، لكن يصلح التعميم بعض الشيء في الحديث عن ضرورة خفض النفقات). وتغطية الأخبار العالميّة يعتمد كما في أغلب الأحيان على الوكالات الأجنبيّة (من المفارقة انه بالرغم من إنفاق الملايين لا بل المليارات من المال النفطي والغازي على الإعلام الدعائي فأن أحداً لم يفكّر في تأسيس وكالة أخبار عالميّة عربيّة. هذه الوكالات هي التي تؤثّر في تغطية اخبار العالم وبأكثر من لغة وفي كل دول العالم. لكن أنظمة النفط تفكّر في الدعاية لا في الإعلام والتأثير الذكي).
لكن التقشّف لا يكون وارداً في ثقافة الانفلاش والبذخ الإعلامي. وأعياد الصحف السنويّة باتت تنافس الأعياد الوطنيّة في السفارات النفطيّة في الفنادق الفخمة. لكن التقشّف الإعلامي له نواقصه: هو أدّى في الصحف الأميركيّة إلى تقليص خدمات التغطية الدوليّة للأحداث وإقفال المكاتب الأجنبيّة. كما أنّه أدّى إلى الاعتماد (كما في «الأخبار») على خدمات الكتّاب بـ«القطعة»، وهم وهن لا يتمتعون بـ«المنافع» الوظيفيّة، من تأمين طبّي ونظام تقاعدي، الخ. أي أن الصحافة المُتشقّفة المُستقلّة هي وحدها التي سيمكن لها مواجهة الهجمة النفطيّة والغازيّة. كما ان فكرة اندماج الصحف غريبة عن ثقافتنا، لكنها قد تنقذ صحيفتيْن في آن. لكن الناشر لا يُنازَع في ملكه.
لكن إصلاح الصحافة وإنقاذها يجب ان ينطلق من دحض الأوهام عنها، والانصراف عن التغنّي بالحريّة. الصحافة هي أبواق للبورجوازيّة في اصلها. وفي بلادنا، هي أبواق للسفارات ولأصحاب الأموال. نادرة هي صحافة القضيّة، وهي أيضاً تضطرّ إلى عقد مساومات مع أصحاب الأموال، أو مع السفارات، كي تستطيع ان تستمرّ. ما كانت صحيفة الحزب الشيوعي الأميركي لتستمرّ من دون معونة سوفياتيّة، مثلها مثل «النداء» في لبنان. إن فكرة حريّة الصحافة هي جزء من الوهم الضروري لزرع القبول والرضى في أوساط الجماهير عن النظم الديمقراطيّة. إن الصحافة تتجهّ نحو الشاشات، وهي تتطلّب من المال أكثر من الصحافة الورقيّة. أي إن الاحتكار الإعلامي سيتقلّص بازدياد، وقد يضطرّ إعلام النظام القطري إلى التقلّص هو الآخر (كما حدث أخيراً في «الجزيرة») إلى الإقفال والاعتماد على إعلام النظام السعودي بعد ان زال الخلاف بين النظاميْن (او بعد تصنّع الطرفان زوال الخلاف المستحكم).
ما الحلّ؟ صحافة الإنترنت قد تكون هي الحلّ لكنها أيضاً تصبح في بلادنا أبواقاً لأنظمة الخليج. موقع يتغنّى بالحريّات المدنيّة يسهب في مديح «الربيع القطري»، وآخر كان يُفترض ان يكون نسخة عربيّة لـ«هافنغتون بوست» الليبراليّة الأميركيّة تحوّل إلى «صوت مَن كل الأصوات لهم» —أي أنظمة الخليج بالذات. لا بل ان أبواق الأمراء باتت تعظ في مسألة الصحافة والمهنة وأصولها. لكن المواجهة هي سياسيّة قبل كل شيء، ونتيجة الصراع السياسي هي التي ستقرّر مستقبل الصحافة في لبنان. ليس بالورق وحده يحيا الإنسان، وليس بالورق وحده يُقاتِل.