ماذا نقول في رثاء عاليم ديسيسا، ماذا نقول؟ ماذا نقول لأهلها في إثيوبيا؟ لا، لا الورود تكفي ولا حمل الشموع. الغضب والتغيير الجذري في طبيعة العلاقات الاجتماعيّة في ظل الرأسماليّة، وحدهما يفيان ببعض الغرض. كم ستتدلّى من العاملات الأجنبيّات من الشرفات، قبل أن يستيقظ البعض على حقيقة الاستعباد السائد في لبنان؟ حذّرتنا عاليم ديسيسا قبل أن تموت أنّهم سيقتلونها. الكل شارك في قتلها: تحريضا ومساهمة ومشاركة، أو تفرّجاً على الجريمة وهي تقع أمام أنظارنا. هكذا. يا عاليم، كلّنا أجرمنا ضدّك وكلّنا ساهمنا في عدم دكّ بنيان الاضطهاد الطبقي في لبنان.
ماذا عساهم يقولون في إثيوبيا عنّا عندما يرون عاليم وهي تُدفع كالأحمال من نافذة السيّارة وتُذلّ أمام المارّة والعدسات؟ ماذا يقول انتحار ديسيسا عن لبنان وعن شعبه وعن دولته وعن إعلامه؟ أين يختبئ دعاة الحضاريّة _ هؤلاء الذين واللواتي يظنّون أنّ لب الحضارة يكمن في تقليد الرجل الأبيض؟ كيف يتحوّل خبر تعذيب خادمة إثيوبيّة وانتحارها إلى مدعاة للتندّر والسمر والزهو بإنسانيّة اللبناني في برنامج طوني خليفة (المُعدّ للإثارة الغريزيّة) على «الجديد»؟ رحلت ديسيسا كما رحلت العشرات، لا بل المئات، من الخادمات الأجنبيّات في لبنان في عمليّات انتحار لا تثير قلقاً في أجهزة الدولة ولا تثير حسّاً قضائيّاً. مَن سيصرخ في وجوهكم ووجوهكنّ: لماذا ينتحرن؟ ما هي المعاناة القاسية التي تدفعهنّ نحو الانتحار؟ رحلت عاليم كما رحل العشرات من العمّال السوريّين الذين قتلوا في لبنان، أو المئات من الذين اختفوا (والذين لم تكترث لأمرهم الحكومة السوريّة ولا الحكومة اللبنانيّة، لا حركة 14 آذار ولا حركة 8 آذار، ويجرؤ أفرقاء 14 آذار على الحديث عن المفقودين اللبنانيّين والفلسطينييّن في سوريا ــ وبعضهم خطف وعُذّب في لبنان على أيدٍ لبنانيّة ــ من دون السؤال عن مصير المفقودين السوريّين في ربوع بلاد الأرز).
لكن لعائلة ديسيسا، ولعائلات كل ضحايا الانتحار من الخادمات الأجنبيّات في لبنان ولكل الخادمات الأجنبيّات في لبنان، حساباً عسيراً معنا. طاقة على المجاهرة بالعنصريّة لا مثيل لها. وقاحة في المفاخرة بمهارة في ممارسة القهر الطبقي. هؤلاء الذين قال فيهم ويليهام رايخ إنّهم يحتاجون إلى من يقمعونه كي تنتفخ صدورهم وأوداجهم: الذين يحتاجون إلى حيوان أليف وخادمة لمحاكاة سلوك من يمارس القهر ضدهم هم وهنّ.
هناك من رفع الصوت في بريّة لبنان: «حركة مناهضة العنصريّة» في لبنان كانت ناشطة دوماً في هذا الخصوص، وقد أدركت النوازع العنصريّة في ما حصل لعاليم. قوى الدولة (التي تملّصت تاريخيّاً من حماية الحدود) كان أولى بها حماية عاليم وحماية حقوق العمّال والعاملات الأجنبيّات بدلاً من تكريس همّ الدولة في حماية السفارات الغربيّة، وفي مواكبة كل زائر يأتي من أوروبا (ويحظى بوجبة حميمة على مائدة وليد جنبلاط الذي تخلّى عن التخلّي عن التخلّي، مرّة أخرى). شاهدت أجهزة الدولة ما حدث لعاليم على شاشة التلفزيون، ولم تجد واجباً في تأمين حماية لها. الأمن للسفارات الغربيّة وللدولة وزعاماتها الصغيرة. الفقير (المحلّي والأجنبي) لا حماية له في بلد العنصريّة والجشع الرأسمالي.
هناك جرائم يتحمّل مسؤوليّة ارتكابها أفراد، وهناك جرائم يتحمّل مسؤوليّتها مجتمع بحاله. إنّ أيّ جريمة بحق أي عربي في الكيان الغاصب مثلاً يتحمّل مسؤوليّتها المجتمع الإسرائيلي برمّته، دون استثناء، لأنّه _ أي المجتمع _ لعب بالتوازي مع الدولة دور مصنع الكراهية والتعصّب والعنصريّة والعنف الشامل. بصورة مماثلة، فإنّ جريمة قتل عاليم ديسيسا (وهي جريمة قتل حتى وإن لعبت هي دور القاتل بالنيابة عن القاتل الفعلي أو المُحرّض) يتحمّل مسؤوليّتها المجتمع اللبناني برمّته. تمرّ جرائم القتل والتعذيب والاضطهاد ضد العاملات الأجنبيّات في بلادنا مرور الكرام. لم يرتق العامل الأجنبي خصوصاً إذا كان من حملة البشرة السوداء أو السمراء، إلى مرتبة البشر _ ليس بعد. أبشرٌ هم أم عبيد؟ ماذا يفيد القانون اللبناني في هذا الصدد؟
هناك جانب من المسألة يتعلّق بلبنان _ حيث قتلت السيدة عاليم ديسيسا _ وهناك جانب يتعلّق بالعالم العربي، وهناك جانب ثالث يتعلّق بالنظام الرأسمالي، وهناك جانب رابع يتعلّق بالتركة الاستعماريّة في أراضينا وعقولنا. إنّ مشكلة العمّال الأجانب في لبنان ليست مشكلة طارئة: هي مشكلة تنتقل من حكومة إلى أخرى ومن عهد إلى عهد لكن جذورها الاجتماعيّة لا تسمح بالتمييز بين 14 آذار و8 آذار، وخصوصاً أنّه ليس لأي من الحركتيْن موقف مُعلن ومميّز ضد العنصريّة اللبنانيّة السائدة. الهم الانتخابي هو الطاغي عند الفريقيْن، كما أنّ المصلحة الطائفية تطغى عند زعماء الطوائف. صحيح انّ 14 آذار تبنّت العنصريّة كسياسة عامّة منذ اغتيال السيئ الذكر رفيق الحريري، وخصوصاً أنّها جاهرت للمرّة الأولى منذ الاستقلال بعنصريّة فاقعة ضد الأرمن فقط لأنّ أمين الجميّل (وهو سيئ ذكر آخر) فشل، بالرغم من هطول الأموال النفطيّة عليه، في الفوز بمقعد نيابي واحد في انتخابات المتن الفرعيّة. عبّر مسؤولون في 14 آذار يومها عن عنصريّة تقترب من محاكاة رغبات الإبادة التي رافقت صعود القوميّة التركيّة في القرن العشرين. طبعاً، إنّ حساسيّة ليبراليّي 14 آذار لم تستيقظ آنذاك، وهي لا تستيقظ إلا إذا شعرت بإهانة نحو الرجل الأبيض: لا تقبل إهانة _ حقيقيّة أو وهميّة _ ضد اليهود لكنّها لا تُستثار إذا ما سمعت أو قرأت إهانة لعنصر عربي، خصوصاً إذا كان فقيراً أو فقيرة (وهذا ليس بالمستغرب لعلمنا بذيليّة هؤلاء الليبراليّين والليبراليّات لأخطبوطات ماليّة ونفطيّة راعية، وهم القابعون في فيء مضارب أمراء آل سعود). وحركة 14 آذار تبنّت عنصريّة لا لبس فيها لكل الشعب السوري: وعندما حاول سمير قصير في احتفال 14 آذار أن يقرأ رسالة تعاطف من كتّاب سوريّين تعرّض للمقاطعة والتعيير والإهانة (ولم يكتب قصير عن تلك التجربة ولم يدن بقوّة العنصريّة الصارخة في تلك الحركة التي تمتّ إلى الفكر الليبرالي الحرّ بقَدْر انتماء الفكر الوهابي إلى الفكر النسوي الجذري. مرّ الأمر عرضاً وأثنى قصير على جمهوره بعد أيّأم فقط من مهرجان العنصريّة والطائفيّة. وشعارات «فاجأناكم مو» كانت تُعتبر ولا تزال شعارات مضحكة لهذا الجمهور).
لكن 8 آذار لا تختلف من حيث تعبيرها عن عنصريّة المجتمع اللبناني، كما أنّ الساسة في الفريقيْن يستعملون عبارات عنصريّة وطبقيّة (بمعنى تحقير الفقراء كونهم فقراء). الكل يستهلّ حديثه في الثناء على لبنان عبر القول، «لبنان ليس أفريقيا»! (يقولها دائماً الليبرالي واليساري _ إيّاك أن تنسى _ سمير فرنجيّة) أو الحديث أنّ الزعيم ليس «خزمتشي» عند أحد. هذه العبارات تنساب مثل المياه من أفواه الفريقيْن وليس هناك فريق في المعسكريْن المتقابليّن يتخذ موقفاً ضد العنصريّة. إنّ في التعاطي مع العنصريّة في المجتمع اللبناني نظرة واحدة متفرّعة عن عناصر القوميّة اللبنانيّة الشوفينيّة الاستعلائيّة. لا يخرج عن هذا الإجماع إلا الأفراد القلائل الذين واللواتي يعملون ضد العنصريّة. حتى احزاب اليسار (الحقيقي لا المُزيّف، مثل الحزب الشيوعي اللبناني) تغيب عن مواضيع مكافحة العنصريّة ومكافحة تعذيب العاملات الأجنبيّات في لبنان. أما اتحادات العمّال فقد طُوّعت ودُجّنت وباتت خاضعة لنفوذ زعماء الطوائف.
من قتل عاليم ديسيسا ومن حرّض على قتلها ومن شكّل البيئة الحاضنة لموتها؟ تلك قضيّة بدأت في الإعلام ويوجد دليل حسّي (فيديو) على العوامل التي أدّت إلى قتلها وإلى إهمال قضيّة تعذيبها قبل قتلها. إنّ المَشاهد عن تعذيب ديسيسا وضربها حازت تغطية إعلاميّة واسعة (وسطحيّة) وذلك بسبب التوثيق النادر لعمليّة تعذيب خادمة أجنبيّة. لكن الحكومة الخبيرة في النأي (الكاذب) بالنفس، اختارت النأي بالنفس في عمليّة تعذيب ديسيسا أمام الكاميرا. الحكومة لم تكن معنيّة، ومشهد التعذيب لم يؤدّ إلى اعتقال أو تحقيق أو مؤتمر صحافي لوزير الداخليّة الاستعراضي. على العكس، ظهر الرجل الذي شوهد أمام الكاميرا وهو يدفع بدسيسا دفعاً في السيّارة وكأنّها بهيمة من البهائم على برنامج تلفزيوني، وفاخر بإنسانيّته وتحدّث أمام الكاميرا عن معاملته الإنسانيّة. الكل مقتنع بإنسانيّته في لبنان والكل يريد من الآخر أن «يعرف حاله مع مين عم يحكي». الكل متفوّق وعقدة التفوّق تصيب الجميع وتؤدّي إلى استعلائيّة طبقيّة وعنصريّة وجندريّة ترسم علامات استفهام عن الصحّة النفسيّة لمجتمع بحاله.
لكن ماذا لو أنّ لبنانياً تعامل مع مواطنة أميركيّة أو أوروبيّة بالوحشيّة التي تعامل بها لبنان مع مواطنة إثيوبيّة؟ هل كانت الدولة عندها ستنأى بنفسها عن الموضوع، ام أنّ الدولة كانت ستحشد كل قواها الذاتيّة والمُستعارة (على طريقة الاستعانة بقوّات خاصّة فرنسيّة في «تحرير» الأستونيّين) من أجل الدفاع عن حق الرجل الأبيض المهضوم؟ ماذا كانت الأمانة العامّة لـ14 آذار (والتي علّقت أعمالها بانتظار هطول المزيد من الأموال لضخّ الحريّة في البلد) ستفعل لو انّ المُضطهَدة هي امرأة بيضاء أوروبيّة؟ ماذا كانت الجمعيّات الدوليّة العاملة في لبنان، وموفد الاستعمار المُنتدب من الأمين العام للأمم المتحدة للتدخّل في كل شؤون الدولة والمجتمع في لبنان باسم «الشرعيّة الدوليّة»، ماذا كانوا سيفعلون لو أنّ الضحيّة أوروبيّة بيضاء؟ كانوا سيطالبون بممرات إنسانيّة وبمناطق حظر جوّي لإتاحة الفرصة امام مقاتلات الـ«ناتو» لقصف القَتَلة أو من تريد في لبنان. لكن ديسيسا ماتت، كما يموت المئات من العاملات الأجنبيّات في لبنان، والعمّال السوريّون ايضاً، بصمت وسكينة. لا جنازات تُقام لهؤلاء، ولا يتقاطر السياسيّون لتقديم واجب العزاء لأهل الضحيّة ولا يظهر سفير مملكة الفتنة المذهبيّة حاملاً الشيكات. هؤلاء الضحايا من طينة أخرى. لبنان، مسخ الوطن، بلد يؤمن فيه الناس بنظريّة المعادن في جمهوريّة افلاطون: هناك من هم من ذهب وهناك من هم فضّة وهناك من هم وهنّ «طين حقير» _ على قول إيليا أبو ماضي.
أما الجانب اللبناني من المشكلة فيظهر في ترسّبات إنشاء القوميّة اللبنانيّة التي ساهم فيها المُستعمر الفرنسي الذي وجد فائدة في إقناع من لا ضرورة لإقناعه بتفوّق اللبناني على غيره من العرب (وعلى الأفارقة بطبيعة الحال)، وأنّ هذا التفوّق يمكن مع مرور الزمن ان يؤدّي إلى وصول اللبناني إلى مرتبة الرجل الأبيض. سعى اللبناني عبر السنوات وبحيل مختلفة إلى الارتقاء في سلّم العنصريّة التراتبي الذي أنشأه الرجل الأبيض: يظن اللبناني (واللبنانيّة) أنّه، باستنباطه لاحتقار الأفارقة والآسيويّين، وبالإكثار من استعمال المفردات الأجنبيّة في الحديث بالإضافة إلى التشبّه بالرجل الأبيض في كل أطواره وأذواقه (ترى كلّ ذلك بصورة فظّة على شاشتيْ «إل.بي.سي» و»إم.تـي.في»)، يقترب نحو الاتحاد (أو الفناء، على طريقة الصوفيّين) في الرجل الأبيض المعبود. واحترام سلّم التراتبيّة الطبقي والإكثار من تحقير الفقير والفقراء يجعل اللبناني مؤهّلاً لاضطهاد العاملين والعاملات في أدنى سلّم الاستغلال الطبقي الرأسمالي.
لكن من الظلم تحميل لبنان وحده وزر اضطهاد العاملات الأجنبيّات. المشكلة موجودة في دول الخليج وفي الأردن بصورة خاصّة، وقد أدّى ذلك إلى اتخاذ دولة الفيليبين إجراءات لحماية عاملاتها (والعاملات الفليبينيّات يحتللن مرتبة تفوق مرتبة العاملات الأفريقيّات بسبب لون البشرة، ولأسباب أخرى). وقد نشرت صحيفة كينيّة هذا الأسبوع رسماً كاريكاتوريّاً يقارن بين دور العرب التاريخي في تجارة الرقيق واضطهاد الخادمات في الدول العربيّة حاليّاً (وجاء نشر الرسم إثر حوادث موت خادمات كينيّات في السعوديّة العام الماضي). ويبدو انّ العائلات الحاكمة في العالم العربي (من آل سعود إلى آل نهيان إلى آل القذّافي) تتمرّس في اضطهاد الخادمات والخدم بصورة عامّة. تحدّر بعض هؤلاء من أهل ملكوا العبيد والجواري (تملّك العبيد والجواري انتقل في السعوديّة من الملك المؤسّس إلى الجيل الثاني من أمراء آل سعود). وقد نشرت منظّمات حقوق الإنسان تقارير دوريّة عن وضع العاملات في الشرق الأوسط. لكن الرجل الأبيض يرى القشّة في عيون الملوّنين من البشر ولا يرى الخشب والجرائم والغزوات والإرهاب في عينه هو. وتعامل الرجل الأبيض مع أهل البلاد في العراق وأفغانستان، بالإضافة إلى اضطهاد المهاجرين الفقراء في أوروبا وأميركا يجب أن يمنع الرجل الأبيض من وعظنا في هذا الصدد.
ووضع العاملات جزء من النظام الرأسمالي العالمي الذي يزيد في إفقار بعض المناطق في العالم فيما يزيد ثراء الأثرياء في دول المركز الرأسمالي. إنّ التقسيم الصارم للعمل والتفاوت في مستوى «الوجاهة» (المفهوم الذي أضافه فيبر إلى مفهوم الطبقة الاجتماعيّة الماركسي حول التقسيمات والتحليلات الاجتماعيّة) هو الذي يُضفي طبعة دونيّة على فئة من البشر بحكم موقعهم وموقعهنّ في عمليّة الإنتاج. والعمل اليدوي يكتسب أقل نسب الاحترام في فكر الرأسماليّة الحديث والقديم: والزيادة في استعمال الآلة شَيّأ في البشر العاملين في المنازل. لهؤلاء مرتبة أدنى من مرتبة الآلة الصناعيّة الحديثة أو جهاز الحاسوب. والمجتمعات التقليديّة في أميركا اللاتينيّة وفي الشرق الأوسط، تعتبر اقتناء العاملة المنزليّة سمة من سمات التقدّم الطبقي، وعلامة وجاهة لا غنى عنها. وزيادة عدد الخادمات من علامات زيادة الثروة في بلادنا، كما أنّ لصنف الخادمات نوعيّة تترافق مع التسعيرة: فالفليبينيّة أثمن من الإثيوبيّة، كما كان اقتناء الجواري في التاريخ العربي خاضعاً لتسعيرة تتعلّق بالمواهب والكفاءة والجمال والخبرة.
والمفاهيم البورجوازيّة السائدة عن تحرير المرأة (قد تكون تلك فكرة إلياس الرحباني في إعلان من السبعينات يقول: «صارت حرّة ست البيت بفضل مولينكس») تهدف إلى إدخال نساء الطبقة المتوسّطة المتعلّمة في الحقل الاقتصادي والسياسي من دون أي اعتبار لنساء الطبقة العاملة أو الفقيرة، ولهذا تحوّلت الحركة النسويّة في الغرب والشرق على حدّ سواء إلى حركة لنساء النخبة المرتبطات بالحركات السياسيّة البورجوازيّة السائدة. وفي هذا السياق، تكون الخادمة ضرورة وجاهة وضرورة من ضرورات التحرّر السطحي للمرأة. فالمرأة في الطبقة المتوسّطة تحتاج إلى خادمة كي تنخرط في نشاط تحرّر المرأة البورجوازيّة، وهي مفارقة في الظاهر فقط.
لكن لظاهرة الحاجة (المصطنعة، والحاجة والذوق والموضة هي نتاج دعاية رأسماليّة تدخل في حيّز صناعة الثقافة) إلى الخادمة جانب آخر. فهناك الكثير من حياة النخبة مما هو نتاج للتركة الاستعماريّة التي لا يتحرّر منها البلد المُستعمَر بمجرّد جلاء قوّات الاحتلال. لم يخرج الاستعمار بثقافته وقيمه من عالمنا العربي بمجرّد الحصول على جلاء القوّات الأجنبيّة من بلادنا. المُستعمر كان يستعبد فئات بحالها من مجتمعاتنا في الخدمة المنزليّة، وانتقلت الممارسة من المُستعمِر إلى النخبة المُستعمَرة (النخبة المُستعمَرة هي تلك التي توهم نفسها أنّها غير مُستعمَرة وأنّ الاستعمار درجة ضرورية من الحضارة والرقيّ، وهذه الصفة تنطبق على كلّ الطبقة السياسيّة الحاكمة في لبنان، أثناء الاستعمار الفرنسي وبعده). هذا يُفسّر كثرة اهتمامهم بزيارات الرجل الأبيض وعظاته وأوامره، مثل أن يأتي مندوب غير رفيع من وزارة الخزانة الأميركيّة ويجمع اصحاب المصارف ومسؤولي الماليّة في الدولة ويعطيهم تعليماته التي تُدوّن في دفاتر صغيرة وكبيرة.
ماتت عاليم ديسيسا وساهم طوني خليفة عبر برنامجه في الدوس على جثّتها. اختار طوني خليفة أن يدعو _ إلى حلقة كان من المُفترض أن تُكرّس للتحقيق في انتحار السيّدة ديسيسا _ رجلاً للحديث عن حادثة نادرة قتل فيها طفل على يد خادمة أجنبيّة. إنّ إقحام موضوع حادثة نادرة تظهر فيها الخادمة مظهر القاتلة _ وهذه الحوادث نادرة بندرة مقتل رجل على يد امرأة _ يهدف إلى التخفيف من التعاطف مع الضحيّة ديسيسا ومع غيرها من الضحايا المتكرّرات. ودعوة الرجل الذي شوهد على الكاميرا وهو يعذّب ديسيسا ويضطهدها أمام سفارة بلادها كانت إهانة للضحيّة بعد وفاتها. والرجل (الذي بتنا نعرف من خلال الكاميرا طبيعة شخصيّته ونظرته ومعاملته للخادمات الأجنبيّات) أثنى على نفسه وعلى معاملته للخادمات وعلى إنسانيّته، وسوّغ فعلته بإخبارنا عن معاناته مع الأرق. وهنا، دخل طوني خليفة في حفلة المزايدة وأطنب في مديح ذاته، وصارح الجمهور بأنّه يعامل خادمة منزله بصورة لا مثيل لها _ بشهادته هو طبعاً. والعنصري اللبناني (والأجنبي) يزهو دوماً بإنسانيّته: كانت حفلة الاعتداء على العمّال السوريّين واتهامهم كلّهم (وبالتخصيص باعة الكعك) بأنّهم زبانية الاستخبارات السوريّة، متزامنة مع بيانات عن الحريّات وعن الحضارة وعن الدولة المدنيّة. قليلاً ما يعترف العنصري بعنصريّته. جلس فون ريبنتروب، وزير خارجيّة هتلر، في قفص الاتهام في محكمة نورمبرغ وأثنى على إنسانيّته. هو مثلهم في الإنسانيّة.
ماتت عاليم ديسيسا مرتيْن: مرّة على الشاشة أمام الكاميرا، ومرّة أخرى في مستشفى فشل في علاجها. إنّ قائمة المسؤولين عن قتلها تتعدّى المجتمع والدولة لتطاول الجسم الطبّي المشرف على علاجها. إنّ الطبيب المُشرف يجب ان يخضع لتحقيق، ويجب ان يؤدّي التحقيق إلى محاكمة. لكن هذا لن يحصل لأنّ التحقيق غائب ومستحيل في بلد يحتمي فيه الفرد وراء الطائفيّة (من أنقذ أحمد فتفت من المحاسبة والمحاكمة غير سعير المذهبيّة الذي ضخّه آل سعود وآل الحريري في لبنان؟). تملّصت الدولة من مسؤوليّة حماية العاملات الأجنبيّات على مدى العقود. لا تؤدّي الانتحارات المتوالية بين العاملات الأجنبيّات في لبنان إلى تحقيقات. وزارة الداخليّة في لبنان وقوى الأمن الداخلي لديهم مهام استراتيجيّة تتمثّل في خدمة زعماء الطوائف ومندوبيهم بالاضافة إلى حماية السفارات الأوروبيّة والأميركيّة (جنّدت قوى الأمن والجيش فرقاً بحالها في العام الماضي بحثاً عن أميركي مفقود، كما أنّ موقع «ناو حريري» نشر خبراً عاجلاً هذا الأسبوع عن تعرّض رجل أميركي للسرقة في لبنان).
ماتت عاليم لكنّ جثّتها تحدّق إليكم كلكنّ وكلكم. جثّة عاليم ستطاردكم كلّكم واحداً واحدا وواحدة واحدة. ستظلّ عاليم شاهدة على كلّ حادثة تعذيب واضطهاد في لبنان. عاليم هي السيّدة، وأنتم العبيد.

ملاحظة: سهت الإشارة في مقالة السبت الماضي إلى أنّ نسقاً إنكليزيّاً منها قد نُشر في موقع «جدليّة».

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)