يمثّل ملتقى النهضة الشبابي تجمعاً لشباب وشابات من الخليج يهتمون بقضايا النهضة، ويعقدون ملتقاهم مرة واحدة في السنة للتناقش والتحاور بشأن المسائل المرتبطة بمفهوم النهضة، وتعرّف بعضهم إلى بعض، وتكوين صلات تعاون في ما بينهم. ويمثل الملتقى حالة فريدة من حيث التنوّع، وقيام شباب بتنظيمه والإشراف عليه. عُقِدَ المؤتمر الأول في البحرين، وكانوا في الغالب شباباً من خلفية إسلامية. ثم عقد المؤتمر الثاني في قطر، وتوسعت دائرة المحاضرين فيه لتشمل أطيافاً فكرية أخرى.
وكان برنامج المؤتمر الثالث في الكويت يحوي تنوعاً أكبر لتيارات وأطياف مختلفة، كمحاضرين ومشاركين، تناقش مفهوم «المجتمع المدني»، لكن هجمة تحريضية منظمة قادتها قوى متشددة، دفعت الداخلية الكويتية إلى إلغاء الملتقى، فنشط شباب كويتيون لإقامة بعض نشاطات الملتقى تحت عنوان «ملتقى المجتمع المدني»، في جمعية المتخرّجين هناك.
عدّت مجموعة من السلفيين الحركيين ملتقى النهضة معركة بالنسبة إليها، وخاضت حرباً شرسة استخدمت فيها كلّ الوسائل لمنع إقامته. وبالتنسيق مع مجموعة من السلفيين الموتورين في الكويت، جرى الضغط على الحكومة الكويتية لمنع الملتقى، فرأت المجموعة في هذا الأمر انتصاراً لها في سلسلة معارك تخوضها منذ فترة لإثبات الذات، في ظل المتغيرات المحلية والعربية.
من المهم التأمل في تفاصيل الهجمة الشرسة ضد ملتقى النهضة والشيخ سلمان العودة (المشرف العام على الملتقى)، فهي تكشف مجموعة من الأدبيات والاستراتيجيات التي يقوم عليها نهج هذه المجموعة من السلفيين الحركيين، وتستخدمها في معاركها. وهذه الاستراتيجيات تفضح تناقضات أفرادها كما تفضح تشريع الممارسات غير الأخلاقية من منطلق براغماتي نفعي، تجري تغطيته بشعارات دينية.
الاستراتيجية الأولى هي التضليل والكذب. ويجري هذا الأمر عبر تشويه الخصوم من أفراد أو مؤسسات، باقتطاع كلمات معينة من سياقها وتحريف معناها، أو بتقديم معلومات كاذبة بشأنهم. حصل اقتطاع الكلمات من سياقها مع ضيفة الملتقى هالة الدوسري، في تغريدة لها في «تويتر» حول الإنجيل. وحصل أيضاً مع إعطاء معلومات كاذبة عن ضيف الملتقى توفيق السيف، الذي زعموا بأنّه كان عضواً في حزب الله الحجاز، وحصل الأمران معاً لهما ولغيرهما من ضيوف الملتقى والقائمين عليه.
الاستراتيجية الثانية هي التشنيع على الخصوم بعلاقتهم بالآخر غير السلفي. وهنا تفنن السلفيون الحركيون في الهجوم على الملتقى وعلى الشيخ سلمان العودة تحديداً من هذا الجانب، فعدّوا استضافة الملتقى لليبراليين (خالد الدخيل وهالة الدوسري) ولشيعة (توفيق السيف ووليد سليس) ولإسلاميين مختلفين (عبد الله المالكي) ولـ«كفار» (ستيفان لاكروا) جريمة تستحق إدانة الشيخ العودة، والملتقى على نحو عام، ويمكن توظيفها في إحراج العودة أمام جمهوره وعامة الناس.
بمقاييس عصرية وتقدمية يعدّ انفتاح الملتقى والشيخ العودة على الأطياف المختلفة فكرياً ومذهبياً، ميزة تحسب له، وشهادة له بالبعد عن الطائفية وبالتسامح الديني، لكنّه بمقاييس التيار السلفي الحركي أمر خطير وجريمة كبرى، فالأدبيات الأساسية التي يقوم عليها هذا التيار تشدد على احتكار فهم الدين وإقصاء المختلف مذهبياً وفكرياً، وبالتالي تكون كل دعوة إلى التعايش بين أهل المذاهب والأفكار المختلفة عدواً لهذا التيار يجب التصويب عليه بعنف.
يجوز القول إنّ هذه الجزئية بالذات تكشف «مآلات الخطاب السلفي الحركي»: يُستخدَم الإقصاء في حق الآخر البعيد، ثم يذهب الإقصاء باتجاه القريب، فالأقرب عندما تظهر اختلافات معينة صغيرة أو كبيرة. ويجري هذا على أساس احتكار الحقيقة وفهم الدين، وفي النتيجة يذهب هذا الخطاب باتجاه معاداة الديموقراطية والتعددية و... المجتمع المدني.
يثير الاستغراب بعد هذه الهجمة أن ينتقد السلفيون الحركيون ملتقى النهضة لكونه لم يستضف سلفياً من تيارهم ضمن المتحدثين، ويظهر هذا النقد في سياق مطالبة الملتقى بإبراز تنوّع حقيقي لا وهمي. والمثير للدهشة أنّ المطالبة بالتنوع تأتي من تيار إقصائي يقيم مؤتمرات علنية هدفها ضرب التنوع، كالمؤتمر الذي عقدوه حول «خطر الرافضة»، وهو لم يقم بدعوة أيّ ليبرالي أو إسلامي غير سلفي وغير مرضيّ عن فكره من قبلهم، لإلقاء كلمة في أحد مؤتمراتهم.
تزول الدهشة مع أجوبة يقدمونها سريعاً، إذ يقول أحدهم بوضوح إنّهم لا يعترفون بالآخر، وسيعملون على إلغائه عند تمكنهم. ويقول آخرون إنّهم يحاسبون «غلاة الحرية» وفق منهجهم، وبالتالي عليهم إعطاء فرصة للسلفيين، وليس علينا إعطاؤهم فرصة بحكم أنّنا لا نؤمن بالتعددية. بمعنى آخر: حديثكم عن تساوي الفرص للجميع وحق الحرية للجميع أمر يخص منهجكم، أما منهجنا، فيملي علينا انتقائية الحرية وفق مصلحتنا الحزبية الضيقة، والعمل على عدم تساوي الفرص بكل وسيلة ممكنة (وتدخل فيها طبعاً الوسائل غير الأخلاقية).
عملية محاكمة الملتقى والقائمين عليه وفق منهج الحرية الذي يؤمنون به جاءت أيضاً في غير محلها، واستُخدمت على نحو يفتقر إلى الذكاء، إذ إنّ الملتقى ليس ملزماً، وفق منهج الحرية والتعددية، إلا بالقول إنّ للجميع حق إقامة المناشط التي يريدونها وقول ما يشاؤون، لكنّه ليس منتدىً للحوار الوطني كي يُلزَم بدعوة جميع الأطراف (ومع ذلك دُعي سلفيّون ولم يستجيبوا). ولا يتناقض مع التعددية أن يقيم نشاطاً يناقش فيه أفكاراً يؤمن بها، ويدعو من يرى أنه يخدم هذا النشاط للحديث عنها.
تعتمد الاستراتيجية الثالثة على إعلاء الصوت بالحديث عن خطر فكري على المجتمع ينتجه الخصوم، والتحذير من عمل يخرب عقول الشباب والشابات، ويغسل أدمغتهم. وقد استُخدم مصطلح «غسيل المخ» تحديداً في هذه المعركة. عدا دلالات احتقار لعقول الشباب والشابات وبيان حاجتهم إلى وصاية فكرية عليهم كي لا ينحرفوا، تقدم هذه الاستراتيجية دليلاً واضحاً على ضعف حجة هذا التيار، وخوفه من مواجهة الفكر بالفكر، واعتبار الشريعة عصا تُستخدَم في وجه المختلفين عوضاً عن محاورتهم. والأهم أنّ هذه الاستراتيجية تعكس خوفاً حقيقياً من التحوّلات الفكرية الجارية في المنطقة، التي عملت الثورات العربية على تسريعها، وقلقاً جدياً من تسرب مجموعة من الشباب من التيار إلى فضاءات فكرية أخرى بفعل هذه التحوّلات.
إنّ المشكلة الحقيقية التي تدفع السلفيين الحركيين إلى اعتماد خيار التهويل من أخطار فكرية على العقيدة، كاستراتيجية شبه وحيدة تحكم عملهم وحركتهم في الوقت الحالي، هي غياب المشروع والرؤية للبلاد والمنطقة والعالم، والتخبط في تقديم أجوبة عن المسائل الكبرى المطروحة في الواقع العربي والإسلامي، وتشغل بال الشباب السعودي والعربي. لذلك يجري تغليب الهامشيات على الأساسيات، وبحكم منطلقات التيار وأدبياته يُرفَض كل ما يتصل بقضايا التعددية والديموقراطية والحريات العامة، فتُخَاض المعارك ضد الاختلاط والتعددية الفكرية في معرض الكتاب، ويجري الإغراق في التشنيع على كل مختلف. هكذا يظهر هذا التيار وهو يصارع تحوّلات لا يفهم طبيعتها ولا يدري ما الذي ستنتجه، فلا يعود يفكر بغير شد عصب الأنصار والأتباع في مواجهة مخاض التحولات هذا.
يمكن ملاحظة استخدام كلمة «غسيل المخ» من قِبَل من يرفضون كل نشاط لا يوافق هواهم بغرض الحفاظ على «عقيدة المجتمع وأخلاقه»، ويريدون احتكار منابر الحديث في المجتمع لتوجيهه على هواهم، مما يطرح أسئلة من قبيل: أليس هذا نوعاً من الوصاية الفكرية؟ وهل يمكن تسمية احتكار المنابر في المناشط الطلابية المدرسية والجامعية نوعاً من «غسيل المخ»؟ وكيف يخشى هذا التيار من ملتقى معلن يطرح ندواته في الإنترنت للتداول العام؟ ولماذا يرفض هذا التيار الاتهامات التي وجّهها الليبراليون الإقصائيون إليه بغسيل مخ الطلبة ثم يعيد توجيهها لملتقى النهضة؟
تنتهي الاستراتيجيات عند الاستراتيجية الرابعة التي عبرت عن ذروة الهجمة الإقصائية ضد الملتقى، وتمثّلت في التحريض السياسي والأمني، أو ما سماه أحدهم «المنع السياسي الشرعي». وكالعادة هذا الأمر مذموم ومرفوض حين يكون ضدهم، لكنّه محمود طالما يستخدمونه هم «وفق الضوابط الشرعية»! إنها النتيجة النهائية لمنطق الإقصاء ورفض وجود الآخر، فضلاً عن الاستماع إليه، ومن الطبيعي أن يسعى من يرفض الآخر ويحتكر الحقيقة إلى إسكات كل من يختلف معه بشتى الوسائل والطرق غير الأخلاقية. ولا تنتهي سلسلة التناقضات بين شعارات الدين المرفوعة والمنطق الميكيافيلي الذي حكم عمل هذه المجموعة الإقصائية.
وفق هذه الاستراتيجيات تمكّن التيار السلفي الحركي من المساهمة في إلغاء ملتقى النهضة، ولأنّه يحفل بالمكاسب اللحظية والصغيرة، فقد عدَّ هذا انتصاراً كبيراً يعوّض فيه فشله الذريع في مقاطعة معرض الكتاب، لكنّه لم يكسب أكثر من ذلك، فالملتقى وإن جرى إلغاؤه يمكن أن يُعقد في مكان ووقت آخرَين. في المقابل، خسر هذا التيار كثيراً، فظهر مثلاً تململ بعض شبابه من الطريقة اللاأخلاقية التي خاض بها المعركة ضد من كانوا رفاقاً بالأمس، كذلك أملت هذه اللاأخلاقية موقفاً نقدياً لها من «الأغلبية الصامتة» غير المتحزبة، التي لا تملك موقفاً مسبقاً. وكان لظهور السلفيين الحركيين بوجه إقصائي فجّ أثره في توحيد مجموعة التيارات الأخرى ضدهم، وكسبهم المزيد من الخصوم. لعل هذا يدفعهم إلى مراجعة حقيقية لاستراتيجياتهم والتصالح مع الآخرين ووجودهم.
ربح الملتقى سمعة وصيتاً كبيرين، وقد اعتاد السلفيون الحركيون إهداء خصومهم دعاية مجانية عبر إحداث جلبة كهذه، كما أنّه نال تعاطفاً واسعاً نظراً إلى الظلم الذي تعرض له، وحصل على احترام كبير من فئة الشباب بالذات، وانتشرت فكرته والمواد التي قدمها في المؤتمرين الأول والثاني في الإنترنت. ولم يخسر إلا في المسائل المادية والتجهيزات المتعلقة بتنظيم الملتقى، لكنّه حقق من المكاسب ما يجعل هذه الخسارة صغيرة.
ربح الشيخ سلمان العودة الجولة أيضاً، وأسهمت الهجمة في إظهار مدى الاختلاف بينه وبين الإقصائيين، وتوضيح تسامحه الفكري وقربه من فئة الشباب بالتحديد، وتطوّر خطابه الذي تمكّن من مجاراة التحولات الفكرية في البلاد والمنطقة، وقدرته على الانفتاح على كافة المكونات الاجتماعية دون حرج.
أيضاً ربح النشطاء الكويتيون الذين نظموا ملتقى المجتمع المدني، وخاضوا معركة ضد الحسابات السياسية التي تشرعن فكرة المنع والإلغاء، ليقدموا نموذجاً لحراك مدني حقيقي قدم نصراً للمبادرات المدنية في الكويت والسعودية على السواء.
لعل أهم مكاسب «معركة ملتقى النهضة» أنها وضعت حداً فاصلاً بين الإسلاميين الإقصائيين والإسلاميين المؤمنين بالتعددية الفكرية والمذهبية، وأنّها أظهرت بوضوح الفارق بين من يؤمن بالحوار والانفتاح والتسامح، ومن يرفض الآخر ويجعل من الإقصاء قضيته ومن الوسائل التحريضية غير الأخلاقية سلاحه.
تقدّم هذه المعركة فرصة لتعزيز خطاب يرفض الإقصاء ويحترم وجود الجميع وحقهم في التعبير بما فيهم السلفيون الحركيون الإقصائيون، وفرصة لتعزيز المفاهيم التي يقوم عليها ملتقى النهضة، وبالذات مفهوم «المجتمع المدني» الذي جرى اختياره عنواناً للملتقى الثالث، إذ إنّ تطبيق المفهوم وجعله واقعاً يعتمد على خطاب مدني يؤكد على قيم التعددية والديموقراطية والحريات، وعلى مبادرة الشباب والشابات للقيام بأعمال مدنية، تؤكد على قيمة التنوّع وحق الجميع، لا فئة بعينها دون سواها، في العمل والحركة.
يربح خطاب التعددية والمجتمع المدني، ويخسر من لا يزال يراهن على أدوات القمع القديمة في مواجهة الفكر الحر.
* كاتب سعودي (ينشر بالتزامن مع موقع www.almqaal.com)