أحدث الحراك الشعبي العربي مطلع عام 2011 تغييرات في السلطة من جهة، وتغييرات في طبيعة الإعلام السياسي من جهة أخرى. وتسعى هذه الورقة إلى فهم دور الإعلام التواصلي الجديد ومساهماته الفعالة في تحريك الشارع العربي وتحقيق التغيير. ذاك أنّ ما حدث لم يطاول البنية السياسية وحسب، بل طاول أيضاً البنية الإعلامية على أصعدة عديدة. إذ انتقل الإعلام السياسي العربي بفضل الوسائط الاتصالية الجديدة من إعلام رأسي من الأعلى إلى الأسفل، من الحكام إلى المحكومين، من الرؤساء إلى المرؤوسين، انتقل إلى إعلام أفقي من خلال وسائط إعلامية بديلة سمحت للطبقات الشعبية بأن تعبر عن رأيها وتصنع الخبر من خلال التقنيات الحديثة ومن خلال لوحة مفاتيح الحاسوب.

إن كل المتابعين والدارسين للشأن الإعلامي يدركون تماماً التغيرات التي حصلت ما بين الإعلام التقليدي والإعلام الجديد، لقد كان الإعلام التقليدي في العالم العربي يعكس الواقع الهامشي الذي يشغله الجمهور في التلقي، باعتباره مستهلكاً وليس مشاركاً أو محاوراً. كما اعتمد على تفريغ محتواه من عملية اجتماعية تعتمد على المشاركة الفعالة، إلى وظيفة إعلامية ذات طابع إقناعي دعائي ذات اتجاه أحادي يخدم السلطات السياسية الحاكمة التي تتحكم بصورة مطلقة بصياغة السياسات الإعلامية والاتصالية بما يحقق أهدافها السياسية.
أما الإعلام الجديد فيقوم على إمكانية الحوار والتبادل والمشاركة، وقد أعطى وسائل الإعلام معناها الحقيقي باعتبارها وجهاً من وجوه الحرية الاجتماعية وحقاً من حقوق الأفراد والجماعات في المشاركة في العمليات الاتصالية أخذاً وعطاءً. لقد استطاعت الوسائط الاتصالية الجديدة أن تدرك أنّ ديموقراطية الاتصال ليست مسألة فنية تترك في أيدي المديرين الإعلاميين، وإنما هي مسألة أشمل من ذلك تستلزم مشاركة كاملة من جانب السواد الأعظم من الناس للإسهام في صنع السياسات الإعلامية والاتصالية على مختلف المستويات.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه، كيف استطاع الإعلام التواصلي الجديد أن يساهم في التغيير السياسي في العالم العربي؟
الجواب يكمن في التفاعل بين التقنية والجمهور انطلاقاً من الحاجة، فالإعلام الجديد New Media أو الإعلام البديل Alternative Journalism لم يعتبر جديداً أو بديلاً إلا لأنه وفّر للجمهور ما لم توفره التقنيات السابقة، لذا نعرض في دراستنا النقاط الآتية: دور مواقع الشبكات الاجتماعية، دور المدونات الإلكترونية وصحافة المواطن، دور مواقع الفيديو التشاركي، ودور الفضائيات وتشبيكاتها مع الإنترنت.

أولاً ــ دور مواقع الشبكات الاجتماعية:

تعدّ مواقع الشبكات الاجتماعية من أكثر المواقع انتشاراً في العالم، وبات من لا يمتلك صفحة خاصة على أحد مواقعها يبدو كأنه منعزل عن العالم. وتشير بعض ال إلى أنّ من بين 50 موقعاً الأكثر زيارة في العالم، نجد 10 مواقع للشبكة الاجتماعية. في العالم العربي، اشتهر موقع الفايسبوك وانتشر بصورة مذهلة، واستطاع مستخدموه أن يستفيدوا من خدماته ليحققوا أهدافهم في تحريك وتعبئة الجماهير لإسقاط أنظمتهم الاستبدادية.
يبلغ عدد مستخدمي الفايسبوك في العالم العربي مطلع العام الجاري 2012 أكثر من 36 مليون مستخدم (وفق موقع http://www.socialbakers.com/facebook-statistics/) في 16 دولة، باستثناء سوريا، السودان، الصومال، موريتانيا، جيبوتي، وجزر القمر (لا إحصاءات تخصها). وإذا اعتبرنا العالم العربي أمة واحدة، فيكون موقعه الخامس في العالم
ازداد عدد مستخدمي الفايسبوك في العالم العربي قبل التحركات الشعبية وبعدها بكثرة، فقد كان عدد مستخدميه في 2010 حوالى 19 مليون مستخدم، لكن هذه الأعداد ما لبثت أن تزايدت لتصل خلال الأشهر التي تلت بداية التحركات الشعبية (أي في نيسان/ أبريل 2011، بحسب متابعتي لعدد مستخدمي الفايسبوك عبر المواقع الإلكترونية) إلى أكثر من 26 مليون مستخدم واستمرت في الازدياد حتى بلغت مطلع 2012 أكثر من 36 مليون مستخدم (أي لغاية شباط/ فبراير 2012). هذا يعني أن مستخدمي الفايسبوك في العالم العربي كانوا يزدادون في الأشهر الأربعة التي أعقبت الثورة بأكثر من 58000 مستخدم في اليوم لتستمر هذه الزيادة حتى مطلع شباط 2012 بزيادة تفوق 37000 مستخدم في اليوم.
كما أن أبرز البلدان التي شهدت الاحتجاجات الشعبية ازداد عدد مستخدميها للفايسبوك ما بين عام 2010 ومطلع 2012 إلى الضعف أحياناً. وهذه الزيادة المتصاعدة للمستخدمين تفسر أهمية ودور هذا الوسيط التواصلي ـــ كتقنية ميديولوجية، وبالتالي تقنية ثورية ـــ في تحريك الثورات العربية. ولو لم يكن الفايسبوك وسيطاً مهماً لما كان مستخدموه قد لجأوا إليه بهذا الشكل المتزايد.
ولا بد من الإشارة في هذا السياق الى أن الإمارات العربية هي أكثر دولة في العالم بالنسبة إلى مستخدمي الفايسبوك مقارنة بعدد السكان (56.92% من إجمالي عدد السكان) وبالدول المئة الأولى في العالم من مستخدمي الفايسبوك لتليها تشيلي (54.78%)، هونغ كونغ (52.36%)، قطر (51.52%)، الدانمارك (51.04%)، كندا (50.92%)، السويد (50.39%)، أوستراليا (50.34%)، الولايات المتحدة الأميركية (50.8%)، تايوان (50.07%)، ما يظهر مدى انتشار هذا الوسيط الإعلامي في المجال السياسي والاجتماعي وكذلك الاقتصادي.
كما أن للفايسبوك مميزات عديدة جعلته الوسيط الأفضل بالنسبة إلى الثوار والمساعد في تحريك ثورتهم، منها: 1 ــ ميزة الاتصال السريع، 2 ــ الأوفر، 3 ــ سهولة الاستخدام، 4 ــ شبابي، 5 ــ متعدد اللغات، 6 ــ حضوره الدائم (وخاصة من خلال خدمات الهاتف النقال)، 7 ــ عالمي، 8 ــ قدرته على التعبئة، 9 ــ التوقع المسبق للحركة، 10 ــ خارج إطار السلطة السياسية، 11 ــ ديموقراطي.
كل هذه المميزات وغيرها جعلت من الفايسبوك أداة أساسية في الضغط وتصويب الهدف والنجاح في إسقاط الأنظمة. نتوقف عند ثلاث مميزات أساسية، بالرغم من أهمية المميزات الأخرى:
1 ــ ميزة الاتصال السريع: من أهم مميزات الفايسبوك نقل الخبر بسرعة فائقة وآنية، إمكانية التفاعل مع الخبر والتعليق عليه، تبادل الرسائل والأفكار والآراء، نقل الصور والفيديوهات والتعليق عليها ... فأي حدث يحصل في الشارع لا يحتاج إلا إلى بضع دقائق ليصبح محوراً نقاشياً مدعماً بالصور والفيديوهات والتصريحات والبيانات، ولتتوالى بعدها ردود الفعل والتعليقات والاقترحات والدعوات إلى الاحتجاج والتظاهر، ومن ثم نقل المحور النقاشي الافتراضي إلى أرض الواقع بعد تحديد الزمان والمكان والشعارات بما يتناسب مع حجم الحدث وظروف نشأته. كما أن هذه الميزة التواصلية ألغت الحواجز الجغرافية والزمانية وجعلت الفضاء الإلكتروني فضاءً مشتركاً للحوار، بالرغم من اختلاف الأمكنة والأزمنة، لأنّ الفايسبوك يسمح للحوارات بأن تحدث في لحظات مشتركة بين المستخدمين، على الرغم من اختلاف الأوقات أو الأزمنة المحسوبة بين الأمكنة المتباعدة. كما أنّ ما يميّز الفايسبوك أنّه وسيط تواصلي وتفاعلي يجعل من كل مشترك متلقياً للخبر وصانعه في وقت واحد، ما يسمح لأي متصفح بأن يتابع الأحداث، لا في بلده وحسب بل في أي بلد في العالم والتعرف على مجريات الأحداث، لحظة بلحظة، مدعمة بالصور والفيديوهات والتعليقات أينما كان وفي أي وقت. كما أنّ سرعته في نقل الأخبار تسمح للأحزاب والقوى الفاعلة بتحريك التظاهرات وتوصيل آرائها وصوتها بسرعة كبيرة تخدم التحركات الشعبية وتساعدها على تحقيق أهدافها.
2 ــ شبابي: من خلال متابعة الإحصاءات التي يشير إليها موقع Socialbakers حول استخدامات الفايسبوك إحصائياً في أكثر من مئتي دولة، يتبيّن أنّ الموقع الشهير في العالم العربي هو تقنية شبابية بامتياز. ففي مصر 95% من مستخدمي الفايسبوك تتراوح أعمارهم ما بين 13 و44 سنة، وكذلك في اليمن 96%، وفي فلسطين 96%، العراق 94%، تونس 93%، ليبيا 93%، البحرين 93% ... هذا ما يدل على أنّ من يتحاور ويتفاعل ويشارك ويتحرك في الفضاء الإلكتروني هم الشباب، وهذا ما يجعل ثورتهم ناجحة، إذ إنّ أي ثورة تغييرية تحتاج إلى قدرات الشباب وحماستهم. وقد ساهم الفايسبوك في أن يكون أداة ثورية لهذه الفئات العمرية. لكن من اللافت تفاوت مستخدمي الفايسبوك بين الذكور والإناث، إذ لا تزال نسبة الإناث متدنية في العالم العربي مقارنة مع الذكور من جهة، ومقارنة هذه النسبة ما بين العالم العربي والدول المتطورة من جهة أخرى.
3 ــ قدرته على التعبئة: يستطيع المستخدم من خلال الفايسبوك أن يستثمر جيداً قدرته على تعبئة الجمهور من خلال المميزات التي يتنوع بها (النص ــ الرسالة القصيرة ــ الصورة ــ الفيديو ــ التعليقات ــ الإعجاب بفكرة Like ــ إنشاء صفحات خاصة حول أي فكرة أو حدث Events ...) وقد استفاد شباب الثورة من كل هذه الخدمات، حيث رفعوا الشعارات التي تحرك روح الثورة والغضب والاحتجاج في نفوس المتظاهرين، وعملوا على نشر الصور والفيديوهات التي تنقل الأحداث بلحظتها وتحافظ على نبض الشارع وحماسته، وحرصوا على توحيد جمهورهم الافتراضي من خلال طلب توحيد الصورة التعريفية للمشترك Profile من أجل زيادة الشعور بالتوحد على أنهم شخص واحد في الفضاء العالمي. ونشروا المقالات التي تساهم في زيادة وعي الجمهور وكشف فضائح الأنظمة السابقة والطبقة الحاكمة لجهة سرقة أموال الدولة أو ارتكاب الجرائم بحق المواطنين أو عقد الاتفاقيات بما يخدم مصالحهم الشخصية. ساعد ذلك على توعية الجمهور المغترب عن وطنه ودفعه إلى التظاهر أمام سفارة بلده احتجاجاً على ما يحدث في وطنه الأم، ما عزز روح التضامن بين المواطنين كافة (المقيمين ـــ المغتربين ـــ الافتراضيين). كما حددوا مناصري ومؤيدي الثورة ومن هم ضدها، فقد ضمت صفحة باسم «Black list of enemies of the revolution القائمة السوداء لأعداء الثورة»، أسماء سياسيين وفنانين وإعلاميين ورياضيين ممن عارضوا الثورة، وأيدوا الأنظمة، في مصر وتونس وسوريا وغيرها. بالمقابل، ظهرت صفحات للمؤيدين للثورة الشعبية، ومنها حملت عنوان «القائمة البيضاء للفنانين والمشاهير المؤيدين للثورة الشعبية». كما لم تخلُ الروح الشبابية في توجيه الرسائل من خلال تأليف النكت اللاذعة للحكام أو رسم الصور الكاريكاتورية، ولا سيما في مصر وليبيا وسوريا، كذلك اللافتات التي كانت تكتب على صفحات الفايسبوك وعلى لافتات الميادين والساحات في آن معاً. كل ذلك ساهم في تعبئة الجماهير والسير قدماً بخطوات ثابتة نحو التغيير وتحقيق ما كان من الصعب تحقيقه. لقد عرف مستخدمو الفايسبوك أن يستفيدوا جيداً من هذه الوسيلة الإعلامية والاتصالية لتكون أداة ثورية تخدم قضيتهم.

ثانياً ــ دور المدونات الإلكترونية وصحافة المواطن

المدونات هي منتدى يستطيع الناس من خلاله مناقشة الأفكار والآراء حول مختلف الموضوعات. كما يستطيع أي مستخدم طرح الموضوع الذي يريده ويعرضه للنقاش والحوار. ويبقى لكل مستخدم حرية الكشف عن هويته الشخصية وصورته الحقيقية أو التخفي باسم مستعار وصورة مصطنعة.
لم تضع الأنظمة العربية في حساباتها أنّ الإنترنت وخدماته ستخلق جيلاً من المدونين والنشطاء ينتقدونها ويقفون ضد الانتهاكات المختلفة والفساد ويدفعون قدر استطاعتهم نحو التغيير.
بدأ التدوين على الإنترنت في 1999، إلا أنه بدأ ينتشر ويظهر تأثيره منذ 2003 مع بدء الحرب الأميركية على العراق. أما المدونات العربية فبدأت بالظهور في 2004 وزاد انتشارها وتأثيرها بدءاً من 2005 والذي تزامن مع بدء حراك سياسي في المنطقة وبدء ارتفاع الأصوات المطالبة بالتغيير والإصلاح، وقد لعب المدونون فيه دوراً بارزاً وشاركوا بقوة في الدفع نحو التغيير وزيادة الوعي السياسي، وخاصة بين الشباب في دول مثل مصر وتونس وسوريا.
وقد حمل المدونون المصريون لواء المبادرة، واستطاعوا رفع هامش حرية التعبير بالرغم من القمع الممارس عليهم، عبر تسليط الضوء على قضايا سياسية واجتماعية عديدة.
يستخدم المدونون العرب تقنية الويب 2 «Web 2.0» ويقومون بربط مدوناتهم بمواقع مختلفة مثل ويكيبيديا Wikipedia ويوتيوب YouTube وفايسبوك Facebook ومواقع إخبارية تأتي الجزيرة. نت Aljazeera.net في مقدمتها، تليها بي بي سي BBC والعربية AlArabia.
ساهم هذا النمط الجديد من الإعلام في ظهور الصحافي المواطن المشارك الفعال في العملية الاتصالية والمساهم في تغيير الكثير من المفاهيم الاتصالية الحالية.
كثرت التسميات حول صحافة المواطن التي يسميها البعض «صحافة التطوع»، وآخرون «صحافة الهواة» Amateur Journalism و«إعلام النحن» We Media، و«الصحافة القائمة على النقاش» Conversation Journalism أو «صحافة المصدر المفتوح» Open Source Journalism أو «الصحافة التشاركية» Participatory Journalism..
إلا أن ما يجمع كل هذه التسميات هو النشاط الصحافي الذي يقوم به المواطن والمضمون الإعلامي المبني على الرسائل الموجهة إلى الجمهور.
وبالرغم من وجود عدد كبير من الصحافيين المحترفين في عالم المدونات والذين يعملون في مواقع متخصصة لصحافة المواطن، إلا أن غالبية الممارسين لهذا النمط من الصحافة هم المواطنون الهواة الذين استطاعوا أن يكونوا الخبر وصناعه في آن واحد، وأن يصبحوا مراسلين حقيقيين للقنوات والمؤسسات الإعلامية وناقلين للمعلومات بشكل واقعي ولحظوي وملامس للحدث.
وما يميز الصحافي المواطن عدم خضوعه للمحطة الإعلامية التي كانت تهيمن على الخبر ونقله إلى الجمهور، فهو طليق في التعبير وفي نقل الخبر بالصوت والصورة وبشكل مباشر وآني وسريع، ما يجعل التحكم والسيطرة على الخبر من قبل السلطات أمراً صعباً. وقد حاولت السلطات الرسمية في الكثير من البلدان حجب بعض المواقع أو المدونات ومنعها من النشر، إلا أنّ التقنيات الحديثة تتيح إمكانية بث الموقع من بلد آخر، أو من موقع إلكتروني آخر. وتسمح للمواطنيين الافتراضيين Netizens بأن يتناقلوا الأخبار ويسارعوا في نشرها ويفرضوا حضورهم على الإعلام التقليدي واضطراره إلى نقل رسائلهم الإعلامية المتداولة والمتنقلة وبثها ضمن فضائها.
كذلك سمحت تكنولوجيا الاتصال بالربط بين الحاكم والمحكوم وبتطوير العملية الديموقراطية، من خلال تمكن الأفراد من الاطلاع على وثائق حكومية أو زيارة المؤسسات السياسية والانتخابية، أو إجراء نقاشات جماعية عبر مختلف التطبيقات الإلكترونية أو التواصل مع صانعي القرار من السياسيين والإداريين، وهو ما يجعلها الوسيلة الإعلامية الوحيدة حتى الآن التي تجعل أفراد الجمهور يتخاطبون مع صناع القرار، ومع السياسيين بصورة
مباشرة.

ثالثاً ــ دور مواقع الفيديو التشاركي

لعبت مواقع الفيديو التشاركي دوراً فعالاً خلال الحراك الشعبي في العالم العربي. فقد نقلت حقيقة ما يحدث في العالم الواقعي (باستخدام الهاتف المحمول في التصوير والتسجيل) ونقله على شكل مقطوعات فيديو إلى مواقع متعددة، وتعميمه وتبادله بين الناس، مما ساعد في إيصال مشاعر الغضب والرفض عما يحدث، وتأهيل قبول الدعوة بالخروج إلى الشارع.
أشهر المواقع التي استخدمت خلال الحراك الشعبي العربي هو موقع يوتيوب YouTube. تأسس هذا الموقع في أوائل عام 2005. وتمثلت رؤية يوتيوب في منح صوت لكل شخص وتطوير الفيديو وإنجاح الشركاء والمعلنين.
في العالم العربي، أحسن المستخدمون الاستفادة من هذا الموقع الذي تطور تطوراً مذهلاً. ففي أيار/ مايو 2005 (سنة إطلاقه) لم تكن مقاطع الفيديو المشاهدة في حينه تتجاوز 8 ملايين مقطع فيديو يومياً، أما في العام 2012 فقد وصلت إلى 3 مليارات فيديو يشاهد يومياً، وفي عام 2010 كان يتم تحميل 24 ساعة من الفيديو كل دقيقة، أما في العام 2012 فقد وصل إلى 48 ساعة من الفيديو في كل دقيقة، أي حوالى 70000 ساعة يومياً أي ما يوازي 8 سنوات من المحتوى يومياً.
وقد ترجم محتوى يوتيوب إلى أكثر من 43 لغة في العالم، ما جعل 70% من حركة اليوتيوب من خارج الولايات المتحدة الأميركية. كما أن تشبيكه مع مواقع الشبكات الاجتماعية زاد من الإقبال عليه، حيث يشاهد يومياً من خلال الفايسبوك ما يعادل 150 سنة من تسجيلات اليوتيوب.
ساهم اليوتيوب كوسيلة تنقل بالصوت والصورة المشاهدات الحية لأي حدث من الحياة اليومية ونقله للتداول بين ملايين البشر في العالم وبسرعة فائقة، إلى الكشف عن ممارسات الحكومات الحاكمة وفضح وقائع القمع والتعذيب وترويع المتظاهرين خلال الثورات العربية أو قبلها. إذ عمد المدونون الى كشف وقائع التعذيب ونشروا فيديوهات تظهر رجال شرطة يقومون بتعذيب مواطنين داخل أقسام الشرطة. ومن فيديوهات التعذيب الأكثر شهرة في مصر هي ما ظهر فيها «عماد الكبير» سائق الميكر وباص أثناء تعذيبه وانتهاك عرضه على يد الضابط «إسلام نبيه» وتصويره بكاميرا تلفون محمول بهدف إذلاله ونشر الفيديو بين زملاء «عماد الكبير». وظلت أجهزة المحمول تتناقل الفيديو حتى قامت عدة مدونات بنشره في أواخر 2006. ومن تلك المدونات مدونة «الوعي المصري» لوائل عباس www.misrdigital.com ما دفع وسائل الإعلام المختلفة من صحافة وقنوات فضائية إلى الحديث عن هذه الواقعة، وتحولت القضية إلى قضية رأي عام وانتهت بحكم كان سابقة من نوعها وبمعاقبة الضابط «إسلام نبيه» وأمين الشرطة «رضا فتحي» بالحبس 3 سنوات. وقد شاهد هذه الواقعة ما يتجاوز الـ 12 مليون زائر.
أما خلال الثورات العربية فقد كثرت مقاطع الفيديو التي لعبت دوراً مؤثراً في تأجيج الجماهير وتعبئتهم، كذلك بتزويد المحطات التلفزيونية الفضائية بالأحداث الواقعية اليومية التي تعبر عن حقيقة الميدان، بالرغم من رداءة الصورة في معظم الأحيان.
لقد أتاحت مواقع الفيديو التشاركي فرصة واسعة للمحتجين في التقاط زلات الأنظمة وأهوال ردود الفعل الظالمة ونقل غضب الشارع الثائر، هذا الأمر الذي كان حكراً لتوه على الصحافيين المحترفين أصبح اليوم ممكناً مع أي شخص يحمل هاتفاً خلوياً وبإمكانه تصوير فيديو.
لا شك أن محتوى بعض الفيديوهات زائف، وكثير منها سخيف، ولكن نظراً إلى حجم المادة المتوفرة فبالتأكيد يوجد هناك الكثير من الحقيقة. لقد اتسم رد فعل الحكومات العربية بنوع من الفزع تجاه هذا التدفق من الصور غير الخاضع للرقابة. لذا أمر المسؤولون في الكثير من البلدان العربية بحجب الموقع أو حذف الكثير من مقاطعه. ففي السعودية مثلاً، أطلقت السلطة السعودية حملة «تطهير موقع يوتيوب» من المقاطع المسيئة للعائلة الحاكمة والأمراء. كذلك في الكويت، اعتبر النائب محمد هايف المصيري أن حجب موقع يوتيوب هو «واجب شرعي وواجب وطني»!
كل ردات الفعل هذه والكثير غيرها، تؤكد أن يوتيوب والمواقع الكثيرة المثيلة له تمكنت من تقديم الحقائق القاسية لمن يرغب في الاطلاع عليها. وتكاملت هذه المواقع مع ما قدمته الفضائيات من مواد إخبارية أظهرت تفاعلاً إعلامياً لم نجده من قبل بين الوسيط الإعلامي التلفزيوني والوسيط الإعلامي الإنترنتي. هذا التفاعل الذي ساعد المحتجين على إيصال رسائلهم المحقة.

رابعاً ــ دور الفضائيات وتشبيكاتها مع الإنترنت

رغم السرعة الهائلة التي انتشرت بها قنوات التلفزيون الفضائية، والتي تقدر «بأكثر من 450 قناة فضائية عربية تملأ الفضاء»، فإنّ ذلك لا يمثل شيئاً مقارنة بما تقدمه شبكة الإنترنت التي تمكّن الناس من الوصول إلى عدد غير محدود من مصادر المعلومات، بدءاً بوسائل الإعلام وانتهاءً بالمدونات الناشئة، إضافة إلى إمكانية التواصل مع بعضهم البعض. فالطبيعة التفاعلية للإنترنت جعلت منها أداة للتحاور والتعبئة ومنحتها القوة في التغير.
لقد كانت المحطات الفضائية مصدراً للمعلومات وما زالت طبعاً، لكن الجديد أنها لم يعد باستطاعتها أن تغفل المعلومات الصادرة عن الإنترنت، أو مبادرات المواطنين الصحافيين الذين أصبحوا مراسلين حقيقيين يزودون المحطات الفضائية العملاقة.
هناك تفاعل بين الإعلام التقليدي والإعلام الجديد غير الرسمي، مثال إيراد مدونين لمقاطع من سي أن أن CNN، ومتابعة نيويورك تايمز New York Times وقناة الجزيرة وغيرهما للمدونات.
لقد أنتج الإنترنت جيلاً رقمياً يعتمد على البوابات الإلكترونية مثل ياهو Yahoo وغوغل Google للحصول على معلوماته. هذا الجيل يعتبر أن الحصول على المعلومات مسار من المشاركة، كما يبدو ذلك جلياً في شبكات الويكي Wikis التي تسمح للقراء بتحرير المحتوى والمشاركة في إنتاجه، خلاف الجيل السابق من كبار السن الذي ما زال متعلقاً بالريموت كونترول وتقليب الفضائيات والبرامج الحوارية للتزود بالمعلومات.
إن اختلاف الأجيال هو الذي يبقي استمرار الصحيفة الورقية والشاشة التلفزيونية، لكن ألا نرى أن التغير الإعلامي آت لا محال؟ الجواب لدى صانعي الإعلام في العالم حيث نجد معظم الصحف العالمية تشبك مع الإنترنت وكذلك الفضائيات.
لنأخذ على سبيل المثال بعض النماذج التي ربطت ما بين الإنترنت والفضائيات:
1 ــ نقاشات يوتيوب YouTube
في واحدة من أولى عمليات دمج الويب مع التلفزيون على الإطلاق، شاركت «يوتيوب» مع قناة «سي إن إن» لإنتاج نقاشين رئاسيين أساسيين أثناء السباق الانتخابي لعام 2008، والتي طرح فيها المقترعون أسئلة على المرشحين من خلال مقاطع فيديو «يوتيوب». ولقد جُمع ما يزيد على 3000 سؤال مصور بالفيديو لمرشحي الحزب الديموقراطي وما يزيد على 5000 سؤال لمرشحي الحزب الجمهوري. وتمت مشاهدة النقاشات عشرات الملايين من المرات، ما ألهم مبادرات مماثلة من البرامج للانتخابات عبر العالم. ولقد تكرر هذا النموذج الآن عشرات المرات.
2 ــ تصوير التصويت بالفيديو Vote Video Your
اشتركت كل من قناة «PBS» و«يوتيوب» مع العديد من المنظمات المدنية غير الربحية والمعنية بالإصلاح الانتخابي في «Video Your Vote» (تصوير التصويت بالفيديو)، وهو برنامج تم تصميمه لتشجيع الناخبين على توثيق تجربة يوم تنتخابات 2008 الأميركية الخاصة بهم بالفيديو. وكان الهدف زيادة شفافية العملية الديموقراطية وإنشاء سرد ثري للعملية الانتخابية عبر المجتمع. فقد تم إرسال أكثر من 2500 مقطع فيديو إلى قناة «Video Your Vote» على «يوتيوب» من الولايات الخمسين جميعها، مع عرض أفضل ما أرسل في تغطية البث الإعلامي ليوم الانتخابات على برنامج «نيو آور» على قناة «بي بي إس» «PBS NewsHour» وعلى صفحة يوتيوب الرئيسية. وقد طُبق النموذج ذاته في العراق في آذار/ مارس 2010، بالاشتراك مع قناة الجزيرة الإنكليزية لتغطية الانتخابات العراقية.
3 ــ برنامج Good Morning America على قناة ABC
برنامج Good Morning America استخدم «YouTube Direct» لجمع مقاطع فيديو عن عطلة عيد الشكر في خريف 2009. وطلب مضيفو برنامج Good Morning America من جمهورهم تحميل مقاطع الفيديو الخاصة بهم عبر «يوتيوب» على موقع «abcnews.com»، للتعبير عن أكثر شيء يودّون تقديم الشكر عليه. تم عرض أهم المقاطع في مونتاج حلقة يوم عيد الشكر بالبرنامج.
4 ــ مقابلة الرئيس أوباما على قناة «فوكس نيوز»
استخدم برت بايير Bret Baier، الذي يعمل في قناة «فوكس نيوز»، منسق حوارات «غوغل» لجمع أسئلة من جمهوره لطرحها على الرئيس باراك أوباما في مقابلة حصرية. وفي أقل من 24 ساعة، جمع ما يزيد على 100000 صوت عن 5000 سؤال تقريباً.
5 ــ نقاش CNN/YouTube حول تغيّر المناخ
اشتركت «سي إن إن» و«يوتيوب» في توصيل أصوات المواطنين إلى قمة الأمم المتحدة حول تغيّر المناخ في كوبنهاغن على صفحة «نقاش CNN/YouTube حول تغيّر المناخ». وقبل النقاش، تمت دعوة المواطنين إلى إرسال أسئلة مرئية ونصية من خلال منسق حوارات «غوغل» على «يوتيوب». وقد أرسل أكثر من 5500 سؤال من الجمهور، وطرحت أهم المختارات على هيئة قادة تغيّر المناخ بكوبنهاغن. وقد وصل الحدث إلى أكثر من 220 مليون مشاهد في المنازل من خلال البث المباشر على «يوتيوب» والبث الإعلامي لقناة «سي إن إن».
6 ــ تزويد الفضائيات بالمعلومات الميدانية من الإنترنت
اعتمدت الفضائيات خلال تغطيتها لأحداث الثورات العربية كثيراً على المواقع الإلكترونية الخاصة بالثوار، إذ شاهدنا لقطات الفيديو المأخوذة من موقع «يوتيوب» والمصورة من المواطنين مباشرة، أو تعليقات من شهود عيان لما يجري على أرض الواقع، أو الطلب من المواطنين تزويد الفضائيات بالمعلومات وإرسالها على روابط إلكترونية تعرضها في أسفل شاشتها.
من الأمثلة على ذلك «المرصد السوري لحقوق الإنسان» الذي تعتمد عليه الفضائيات في معلوماتها حول ما يجري من أحداث دامية في سوريا، والذي يزود المحطات بمواقف المعارضة وتحركاتها، وبأعداد الضحايا، ومشاهد التظاهرات، وكل التحركات الميدانية.
لقد استفادت المؤسسات الإخبارية الكبرى من لقطات الفيديو التي تعرض على الإنترنت. كما أن وتيرة زيادة أعدادها هي في تراكم مستمر وعلى نحو يومي، وهو ما يقلص من اعتماد مستهلكي الأخبار على المؤسسات الإخبارية التقليدية أمام ما توفره وسائط الإعلام الجديد من مصادر متنوعة وغنية للمعلومات.
في المقابل، لعبت الفضائيات دوراً بارزاً في تغطية الأحداث خلال الثورات العربية، وكان لها الحضور الإعلامي البارز والمؤثر في نجاح الثورات خاصة وأنها ما زالت تحظى بجمهور واسع في أصقاع العالم أجمع. يمكننا إيجاز هذا الدور في النقاط الآتية:
1 ــ ساهمت الفضائيات في استكمال التعبئة الإنترنتية من خلال عرض الأحداث اليومية للحراك الشعبي، ونقل وقائعه والتذكير بمواعيد التظاهرات والتعريف بها والتأكيد على عزم المتظاهرين وبيان ما يثار من محاولات إحباط وإثارة البلبلة بين المتظاهرين والرد على ذلك. فكانت الفضائيات الرابط والواصل لجموع المتظاهرين والحرص على نقل آرائهم مباشرة من الميدان أو متابعة تحركاتهم عبر الإنترنت والمدونات الخاصة والفيديوهات التي يعرضونها.
2 ــ ساعدت الفضائيات في إكساب تعاطف بالغ للثوار والثورة من خلال عرض فعاليات الثورة والاستماع إلى رؤية الثوار وتصريحاتهم، ومرافقة ذلك بعرض آراء المعلقين والمحللين السياسيين الذين يؤكدون على أحقية هذا الحراك ووجوب استمراره ليحقق أهدافه. كل ذلك زاد من حماسة الجمهور، وبالتالي زيادة الراغبين في الانضمام إلى الثوار ومؤازرتهم أو التضامن معهم عبر وسائل الاتصال الحديثة معبراً عن تأييده لهم بالرأي والموقف.
3 ــ استطاعت الفضائيات أن تنقل مظاهر الثورة وسلوكياتها ومفرداتها وأساليبها من بلد إلى آخر، إذ إنّ شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» بات شعاراً موحداً لا نعرف للوهلة الأولى أين يهتف. هذا التعميم السلوكي الثوري لا يحدث إلا بفعل الشحنات الإعلامية المتكررة التي ما زالت الفضائيات مؤثرة فيه لدرجة كبيرة.

الخاتمة

لم تعد «وسائل الإعلام» وسائل إعلام فقط، إنها لاعب أساسي بصدد تغيير شؤون العالم على أكثر من صعيد. وإذا كنا قد عرضنا دور الإعلام ولا سيما الإعلام التواصلي الجديد في تحريك الثورات العربية، فإنّ دوره لا يقتصر أبداً على المجال الثوري والسياسي، بل يطاول كل الجوانب الحياتية من اجتماعية واقتصادية وثقافية وقيمية ... وعليه، هل سيتمكن الإعلام بكل أشكاله من الدفع بالديموقراطية إلى الأمام؟ وهل سيقلص من احتمال صدام الحضارات؟
لقد فتح الإعلام التواصلي الجديد المجال واسعاً أمام أي مجموعة في العالم لأن تنشىء لنفسها إعلامها الخاص، وأن تنادي مؤيديها للانضمام إليها وإلى عقيدتها وأفكارها. وأصبح بإمكان العالم اليوم أن يتحوّل إلى «جماعات سياسية متخيّلة» عن طريق خلق أرضية فكرية مشتركة للجماعة وتمكينها من القيام بذاتها دون اعتبار للحدود التقليدية.
هل نحن أمام نشوء الدول الافتراضية التي تمنح كل من حرم من قيام دولته الواقعية إنشاء دولته الافتراضية؟ فكما استطاعت تكنولوجيا الاتصال دعم أواصر الهوية الوطنية وساهمت في تحريك الثورات للمطالبة بالديموقراطية، تستطيع كذلك إنشاء هوية غير مرتبطة بالأرض وتحث المواطنين الافتراضيين على تحقيق حلمهم في التوحد ككيان مشترك.
الإعلام التواصلي الجديد سيلعب أدواراً كثيرة في تغيير الخريطة السياسية في العالم، وقد شهدنا ملامحها مع الثورات العربية ولن يتوقف تأثيره عندها فقط.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية