ليس مبكّراً إخضاع حركة معارضة للنقد والتفكيك، قبل وصولها إلى الحكم. هناك من يرى تسرّعاً في تعريض حركة معارضة للنقد والمعارضة، قبل أن تصل إلى السلطة، وخصوصاً إذا كانت تحظى _ كما في حالة المجلس الوطني السوري الإخوانجي _ بهالة من التقديس والتبجيل الغربي والعربي (النفطي). لكن هل ننتظر أن تصل المعارضة _ أيّة معارضة _ إلى السلطة كي نمارس مهمّة النقد والمعارضة _ ضد المعارضة _ التي تحوّلت إلى سلطة؟
هل ننتظر الشروع في الإعدامات والمحاكمات الميدانيّة للخونة و«الشبّيحة» (هل أصبح اسم «الشبّيحة» مرادفاً لكلّ علوي في خطاب بعض المعارضة السوريّة، كما أنّ اسم «إرهابي» مرادف للعربي في دولة الكيان الغاصب)؟ وهل ننتظر تراكم الجثث المحروقة والمشوّهة، قبل أن نصدر أحكاماً على القتلة الذين باشروا القتل قبل تشكيل السلطة؟ كان الشيوعيّون الثوريّون في ألمانيا يصرّون على ضرورة معارضة النازيّين قبل وصولهم إلى السلطة؛ لأنّ وصولهم سيقضي على إمكان المعارضة في المطلق. وكانوا على حق. وفي إيران، دفع حزب «توده» ثمن تصديقه لوعود الخميني، وكان حزب «توده» على خطأ. وينسى البعض أنّ حزب البعث ــ الذي أسّس في العراق وفي سوريا نموذجيْن من أبشع أشكال القمع المُؤسّس _ كان في مرحلة ما غابرة حزب معارضة يتشدّق بالإصلاح والديموقراطيّة والحريّة والوحدة (يستطيع ما بقي من حزب البعث أن يجعل من الشرذمة، لا من الوحدة، عنواناً في برنامجه لما له من منجزات قيّمة في هذا الصدد).
والملاحظ، أنّ الذين يدعون إلى التريّث قبل إصدار الأحكام على حكم الإخوان (لا يجوز التلطّي بعد اليوم خلف الملابس الباريسيّة الأنيقة)، هم في السياق الأيديولوجي نفسه للذين دعوا إلى التريّث قبل إصدار الأحكام على حكم الميليشيات الحاكمة اليوم في ليبيا. كان هؤلاء يصرّون على أنّ أعضاء المجلس الانتقالي الليبي (بقي معظم أعضائه سرّييّن) هم زبدة الليبراليّة والعلمانيّة، وأنّ الخوف من 1) رعاية الـ«ناتو» لهؤلاء ومن 2) السيطرة الإسلاميّة الإخوانجيّة على الحكم في ليبيا ليس مبرّراً. والطريف أنّ الطمأنة كانت تمرّ عبر طلب وضع الثقة الديموقراطيّة المطلقة برمزيْن بشعيْن من حكم الطاغية القذّافي: محمود جبريل (المُرشد والمستشار الشخصي لسيف الإسلام القذّافي) ومصطفى عبد الناتو (وزير «عدل» الطاغية القذّافي الذي لم يكن يدرك طغيان القذّافي عندما عيّنه الأخير في منصبه). لكن المثال الليبي ماثل أمام ناظريْنا، والمخاوف ازدادت، وها هي الميليشيات البن لادنيّة تعيث في أرض ليبيا فساداً ــ بلغتها هي ــ كما أنّ الواجهات الليبراليّة المُوجّهة إلى الحكومات الغربيّة أزيحت من الحكم، كي يبدأ الحكم الإسلامي الحق: وحقّ الـ«ناتو» في ليبيا لا يُعلى عليه. ولم يطل الأمر بعبد الناتو حتى راح يبشّر بالعودة إلى تعدّد الزوجات. إنّ الهويّة السياسيّة للرعاية الخارجيّة للمعارضة، بالإضافة إلى الخلفيّة الأيديولوجيّة لقادتها، تسهمان في إصدار حكم دقيق ومُنصف بمستقبل الحكم في يد المعارضة تلك. الصورة في الحالة السوريّة باتت واضحة. تستطيع أن تقرأ مستقبل معارضة المجلس الوطني السوري عبر قراءة ماضي حركة 14 آذار اللبنانيّة وحاضرها. تستطيع أن تتوقّع أنّ المجلس الوطني السوري، هذا إذا وصل إلى السلطة، سينفي أنّ الجولان أرض محتلّة وسيقول ــ على طريقة 14 آذار اللبنانيّة ــ إنّ ملكيّة الأرض مُلتبسة، وإنّ على المُحتلّ الحفاظ على احتلاله بانتظار ترسيم الحدود والوصول إلى حلّ جغرافي. وسيعمد رئيس حكومة الإخوان إلى ذرف الدموع، كلّما اعتدت إسرائيل على سوريا. طبعاً، لا تُخترل المعارضة السوريّة بالمجلس الوطني السوري، مع أنّ السعوديّة وقطر (راعيتي حقوق الإنسان والديموقراطيّة والثورة في العالم العربي) تصرّان على جعل المجلس هو الممثّل «الشرعي والوحيد» للشعب السوري. لكن المجلس الوطني السوري يخطب ويجول في الكرة الأرضيّة باسم الشعب السوري، وهو لا يرضى لنفسه بديلاً، ولا يرضى بغيره في المعارضة ندّاً. نستطيع أن نحلّل مواقف المجلس الوطني المُعيّن (من قبل نفسه) خلال معياريْن: معيار تحديد مصلحة الشعب السوري ــ والمعيار هذا غير مطلق لأنّه يعود إلى منظار الكاتب أو الكاتبة ــ ومعيار المبادئ والسياسات التي أطلقها المجلس نفسه عند ولادته.
من المعروف أنّ المجلس بدأ مسيرته بإطلاق مواقف سياسيّة تحدّد مسيرته السياسيّة (والمواقف تلك لا تزال موجودة على موقع المجلس الوطني على الإنترنت) بعدما جرى إدخال سلس (وخفي) على المشروع السياسي للمجلس نتيجة للتلوّنات والتقلّبات التي خضع لها المجلس. من المعروف أنّ المجلس كان قد شدّد عند انطلاقته على سلميّة الانتفاضة السوريّة، وردّد مع المتظاهرين في الداخل السوري شعار سلميّة الاحتجاجات ونبذ الطائفيّة ورفض التدخّل الخارجي. وكانت تلك المواقف أو اللاءات عنوان التحرّك الاحتجاجي الشعبي العفوي الذي انطلق في سوريا ضد النظام القمعي. لكن المجلس، من دون إعلانات رسميّة، وجد نفسه في تناقض صارخ مع مبادئه هو، ما يثير تساؤلات عن أسباب التغيير في المبادئ والتعديل في السياسات. ويمكن تلخيص تناقضات المجلس في ما يأتي:
ــ أولاً، إنّ المجلس الذي كان يردّد شعار «سلميّة» عن الانتفاضة السوريّة أضاف كلاماً جديداً عن الجيش السوري الحرّ في الجملة نفسها التي (لا تزال) تتحدّث عن النضال السلمي، كذلك فإنّه أنشأ مجلس قيادة عسكريّة (أي إنّ غليون بات قائداً عاماً للكتائب الطائفيّة التي تنضوي تحت اسم الجيش السوري الحرّ). قد يكون المجلس أوّل من اجترح مفهوم النضال السلميّ المُسلّح والمُفخّخ في آن واحد. والمجلس العسكري للمجلس ينسّق العنف السلمي مع الجيوش المسلّحة الثلاثة التي تتنافس في ما بينها لقيادة العمل العسكري ضد النظام. كذلك إنّ المجلس بات يرحّب بالسلاح من كلّ حدب وصوب، ولم يعارض رسميّاً السلاح الإسرائيلي (هل اندلع صراع مسلّح في داخل العالم العربي لم يصل السلاح الإسرائيلي إليه، في هذا الجانب أو ذاك؟).
ــ ثانياً، بدأ المجلس أعماله بإصرار على النأي بنفسه عن الصراعات اللبنانيّة الداخليّة. كان برهان غليون يقول متبرّماً لمن يسأله في الشأن اللبناني: أبعدونا عن صراعاتكم في لبنان. اليوم، زالت الحجب وسقطت الادّعاءات وبات المجلس في قيادته وأعضائه يعتبر نفسه «خرطوشة في فرد» آل الحريري في لبنان. اتضح أنّ المجلس الوطني السوري ما هو إلا الفرع السوري لحركة 14 آذار اللبنانيّة، وبالرعاية نفسها التي يسمّونها خفراً «إقليميّة». فارس سعيد (محلّل العلاقات الدوليّة الذي ربط بين فضيحة اللحوم الفاسدة والملف النووي الإيراني) بات يقرأ (أو يكتب) بيانات المجلس الوطني السوري ــ أو هكذا يبدو. ومن المحتمل أن يشارك ممثّل عن المجلس في اجتماعات «بيت الوسط».
ــ ثالثاً، كان المجلس الوطني حازماً وحاسماً عند انطلاقته في رفض التدخّل الخارجي. لكنّه عاد وبدأ بالمراوغة التي أجادها في أشهر قليلة. بدأ بالتمييز بين التدخّل الخارجي والتدخّل العربي، وبات آل سعود وآل ثاني، ومن ينتدبونه، من حواضر البيت الشامي. أصبح التدخّل الخليجي الظالم داخليّاً (شاميّاً)، «أهليّة بمحليّة، سلميّة على عنفيّة». لكن المجلس الوطني (وهو مليء بالوطنيّة كما يوحي الاسم) عاد واستطاب التدخّل الخارجي، ولم يجد ضرورة في مصارحة جمهوره أو في توضيح تقلّباته أو تفسيرها: على طريقة وليد جنبلاط، الزعامة تقرّر والقطيع يسير. لكن المجلس تغيّر، أو تطوّر كما تفضّل منظمات المجتمع المدني الموقرة، وأصبح يناشد من أجل تدخّل خارجي، وكلما زاد التدخّل راقه الأمر أكثر. وتنطّح مجلس الناتو الحاكم في ليبيا بمدّه بأوّل مساعدة علنيّة له (تحدّثت محطة «الجديد» عن دعم سعودي ــ قطري للمجلس بقيمة بدأت بأكثر من مئة مليون في الشهر لتنخفض إلى زهاء 85 مليوناً في الشهر). وتذاكى المجلس الوطني على طريقة «حلف الناتو» عندما أدرج إلحاح استجدائه للتدخّل الخارجي في باب «حماية المدنيّين».
ــ رابعاً، كان المجلس في قيادته المجهولة يؤكّد أنّ الإخوان لا يسيطرون على المجلس، وكان الموقف الرسمي أنّ الإخوان لا يسيطرون على أكثر من 20% من المقاعد. لكن غليون كان يتذمّر أمام بعض الصحافيّين من سيطرة الإخوان، وكان يردّد أنّه لن يقبل أن يصبح صورة، على طريقة محمود جبريل في ليبيا. ولكن الأمر لم يعد سرّاً. فضح انشقاق كمال اللبواني (مع هيثم المالح وغيره) الحقيقة: اللبواني اعترف بأنّ الأخوان يسيطرون على المجلس بالكامل. ثم إنّ «يوتيوب»، وهو بات صوت الأكاذيب والمزاعم من قبل الإخوان والنظام على حدّ سواء في خضمّ الصراع السوري، فضحهم: تسرّب لقاء تنظيمي لعلي البيانوني (وهو أداة حريريّة وقد تأكّد ذلك في «ويكيليكس») في بلجيكا وهو يشرح أنّ الإخوان انتقوا برهان غليون بسبب خلفيّته اليساريّة كي يحجبوا دورهم الخفيّ. ما عاد ينفع الإنكار. اللعبة انشكفت.
ــ خامساً، كانت جماعة المجلس والإخوان في البداية، وقبل إنشاء المجلس، تسخر من تعاطي النظام (السيئ جداً) مع ملف الصراع العربي ــ الإسرائيلي و(عدم) تحرير الجولان. تكرّس شعار «أسد في لبنان وأرنب في الجولان». والشعار انطلق ــ بفخر ــ من لبنان عندما تصدّى التحالف اللبناني ــ الفلسطيني (قبل وصول وليد جنبلاط إلى رئاسة الحركة الوطنيّة لحسن الحظ) لقوّات الجيش السوري الغازية إلى جانب القوّات الفاشيّة في لبنان. والمعارضة الإخوانجيّة سخرت من سياسة النظام الجولانية، وكثيراً ما اتهمته بالتواطؤ مع العدوّ الإسرائيلي. لكن تبيّن أنّ سياسة النظام السيّئة في الصراع العربي ــ الإسرائيلي (وهي سيّئة لأنّها متطابقة مع سياسة أسوأ الأنظمة العربيّة التي توافقت جميعها على مبادرة الاستسلام السعوديّة، كذلك إنّ النظام ترك الجولان محتلاً بالرغم من أشعار سليمان العيسى الحماسيّة وبالرغم من اعتداءات إسرائيليّة متكرّرة على سوريا) قد تكون أقلّ سوءاً ــ على سوئها ــ من سياسة المجلس الوطني. فالمجلس الوطني أرسل الكثير من الإشارات الغزليّة نحو العدوّ الإسرائيلي. المجلس، على لسان قياداته وبرنامجه، لا يحيد عن سياسة 14 آذار اللبنانيّة: فهو يؤمن بتحرير الجولان من خلال المفاوضات. أليست هذه هي سياسة النظام السوري المُتبعة منذ 1973 والتي لم تحرّر إنشاً واحداً من الأرض؟ ثم هل تكون المعارضة ذات صدقيّة عندما تعيّر النظام في سياسته، ثم تأتي لتعد بأن تقتفي أثره في مجال يدخل في صلب الأمن الوطني السوري مع أنّها تزيد من التملّق للعدوّ الإسرائيلي؟ وعلي البيانوني ظهر على شاشة التلفزيون الإسرائيلي (من دون أن يعلم ذلك لأنّه ظن أنّ نجمة داوود هي نجمة مغربيّة وأنّ اللهجة العبريّة هي أمازيغيّة) وطمأن العدوّ إلى نيّات الإخوان الاستسلاميّة. كذلك إنّ برهان غليون (المُمدّد له بشعبيّة 99% من قيادة المجلس) طمأن العدوّ إلى أنّه سيقطع علاقة سوريا بكل أعداء إسرائيل في المنطقة العربيّة حالما يثبّت التاج المرصّع على رأسه والصولجان في يده.
لكن هناك ما هو أخطر من ذلك. لم يذع المجلس الوطني طريقة انتقاء أعضاء مجلس القيادة. كانت هناك شائعات عن إصرار تلك الحكومة أو تلك المملكة على ضرورة تنصيب هذا الرجل أو تلك المرأة في مجلس القيادة. لكن انفضاح كلام السيدة قضماني في برنامج على التلفزيون الفرنسي، وإجادتها للتملّق الرخيص للإسرائيليّين بصورة لا تقلّ بشاعة عن تملّق أنور السادات لهم، فضح الكثير عن طبيعة المجلس وعن سياساته المقبلة، وخصوصاً أنّ صوتاً واحداً لم يرتفع (لا من المجلس ولا من خارجه) ضدّها.
ــ سادساً، وعد المجلس بنبذ الطائفيّة لكنّه: أ) ارتبط بالمحور الإقليمي السعودي الذي يحضّ على الفتنة المذهبيّة ويرعى الشيخ عدنان العرعور من دون كلل، وب) لم يجد بعد ممثّلاً علويّاً ملائماً للجلوس في قيادة المجلس وإن وجّه المجلس رسالة «مدّ فيها يده» للعلويّين. ومدّ اليد كفيل بضمان اللحمة في نسيج الشعب السوري (كما مدّ وليد جنبلاط يده للمسيحيّين بعد مجازر الشوف). كذلك إنّ المجلس لا يتخذ موقفاً قويّاً من الأصوات الطائفيّة والمذهبيّة في المعارضة السوريّة (مثل تصريحات مأمون الحمصي ــ الذي اشتهر بنفي استعمال المال لغايات سياسيّة من قبل آل الحريري ــ والتي هدّد فيها كل العلويّين بالإبادة). والكتائب ذات الأسماء الدينيّة للجيش السوري الحرّ قامت بأعمال طائفيّة شنيعة بشهادات تقرير منظمة «هيومن رايتس ووتش»، لكن ذلك لم يؤدّ إلى إدانات من قبل المجلس. إنّ المجلس الوطني السوري بات مسؤولاً بحكم قيادته الجديدة ومجلسه العسكري عن جرائم الجيش السوري الحرّ (كما أنّ نظام بشّار الأسد مسؤول حكماً عن جرائم قواته العسكريّة والأمنيّة).
ــ سابعاً، يدين المجلس الفساد المستشري في جسم النظام السوري، لكنه لم يكشف دفتر حساباته أمام الرأي العام السوري، ولم يصارح بموارده الماليّة. نسمع فقط عن «تمويل من أثرياء سوريّين» ساعة، ثم بدأنا نسمع عن تمويل من دول خليجيّة وإن سمعنا شكاوى أنّ «المبالغ ليست كبيرة». لماذا لا يقدّم المجلس بيانات صريحة عن المداخيل الهاطلة، وعن النفقات إذا كان ينوي إبدال النظام القائم (الفاسد) بنظام نزيه ومنزّه؟
ــ ثامناً، كيف يوفّق المجلس بين شعاراته الديموقراطيّة والرعاية من دول مجلس التعاون، غير العريقة في الديموقراطيّة؟ لا تستقيم الديموقراطيّة في مضارب شيوخ النفط والغاز وأمرائهما وملوكهما. هذه معادلة بديهيّة في السياسة العربيّة.
ــ تاسعاً، يريد الإخوان المسلمون، من سيطرتهم على المجلس ومن وضع علمانيّين في الواجهة، تزييف مقاصدهم. إنّ شعار «الدولة المدنيّة» (شعار حركة 14 آذار نفسه، يا للصدفة مرّة أخرى) لا معنى له في الفكر السياسي ــ الدستوري. الدولة إما تكون علمانيّة أو هي تتصالح مع دين سائد على طريقة الدول العربيّة كلّها (باستثناء لبنان حيث تحوّل الصراعات الطائفيّة دون ذكر الدين في الدستور). يريد الإخوان (على طريقة الخميني في منفاه الباريسي) أن يحقّقوا دولة دينيّة لكنّهم يخدعون الناس قبل الوصول إلى السلطة. ثم لماذا لا يعلّق المجلس بكلمة على الأسماء الدينيّة (والمذهبيّة في حالة «كتيبة يزيد بن معاوية») لكتائب الجيش الحرّ، بعدما أصبح الأخير حليفه العضوي؟
ــ عاشراً، إنّ المنحى الإنساني الحريص على حقوق الإنسان في الخطاب الليبرالي للمجلس يفتقر إلى الانسجام الأخلاقي. لماذا سكت المجلس عن إثباتات عن تورّط الجيش السوري الحرّ في جرائم حرب؟ (وردت في تقرير لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة وفي تقرير منظمة العفو الدوليّة الأخير، كذلك إنّ منظمة «هيومن رايتس ووتش» نشرت للتو تقريراً تفصيليّاً عن جرائم طائفيّة فظيعة وعن تعذيب مارسه الجيش السوري الحرّ وفصائل متشابهة).
ــ حادي عشر، ألا يستحق الرأي العام السوري أن يعرف حقيقة موقف المجلس من لجنة المراقبين العرب (مات عمل اللجنة ونام تقريرها في الأدراج لأنّ ملاحظاتها لم تتوافق مع مقاصد المؤامرة الخليجيّة، ولأنّ فكرة إرسال اللجنة افترضت رفض الحكومة السوريّة للفكرة). لماذا كان المجلس موافقاً على اللجنة ولماذا عاد وعارضها؟ ألا يجب على المجلس ان يوضّح؟
ــ ثاني عشر، إّن الديموقراطيّة تبرز في جسم حركة سياسيّة قبل أن تصل إلى السلطة. يستطيع الحزب ــ أي حزب ــ ان يُظهر معالم الديموقراطيّة في جسم الحزب قبل ان يُظهرها في ممارسة السلطة. لكن المجلس لا يختلف في هذا الشأن عن قرينه، المجلس الانتقالي الليبي الذي أبقى أسماء معظم أعضائه سريّة. كيف يُنتقى أعضاء المجلس، وكيف يُختار أعضاء مجلس القيادة؟ ثم، كيف جرى تمديد ولاية برهان غليون في رئاسة المجلس؟ ما هي آليّة الحكم والقيادة والبيعة (هي بيعة لأنّ استعمال كلمة انتخابات يهين العقل المُتابع) في المجلس الموقر؟ (هناك أخبار تسرّبت من القيادة عن تهديدات بالاستقالة من قبل غليون وعن دموع ذُرفت من أجل التمديد الثمين). والقيادة، مثلاً، لا توضّح اسباب الانشقاقات المتوالية في صفوق القيادة، وكان آخرها انشقاق هيثم المالح الذي كال اتهامات (شاهد من أهله) بالديكتاتوريّة والتسلّط. وقد نبذ المجلس المحاسبة قبل ان يصل إلى السلطة، وقس على ذلك مستقبلاً. كذلك إنّ وليد البنيّ، في انشقاقه الأخير، اعترف بغياب الديموقراطيّة والمحاسبة داخل المجلس، وقال إنّ «الديموقراطيّة هي ديموقراطيّة في كل وقت وحين».
أكثر من ذلك، إنّ أنصار المجلس في داخل سوريا وفي خارجها (خصوصاً في مصر) تورّطوا قي ممارسات أقل ما يُقال فيها إنّها غير ديموقراطيّة. إنّ التعاطي مع معارضة الداخل، التي مثّلها في الجامعة العربيّة هيثم المنّاع ورفاقه، يشير إلى منحى لا لبس في بعثيّة منهجه وممارسته. إنّ الذين ضربوا وأهانوا معارضي الداخل ــ بصرف النظر عن الاختلاف أو الموافقة مع المعارضين في الداخل أو في الخارج ــ مثّلوا أسلوباً في التشبيح يُفترض ان يكون الشعب السوري قد نبذه.
الشعب السوري يستحق ما هو أفضل بكثير. عاش الشعب السوري وعانى على مرّ أكثر من أربعة عقود من حكم ظالم لا يستحق الاستمرار ولا ليوم واحد. إنّ حق الشعب السوري ــ أو الشعب العربي بصورة عامّة ــ في الثورة مضمون بحكم سنوات الطغيان. لكن المجلس الوطني السوري (ومن يتحالف معه مثل الكتائب الحقيقيّة والخياليّة للجيش السوري الحرّ) أخرج نفسه من أحقيّة تمثيل الشعب السوري، لأنّه تورّط في مؤامرة خارجيّة قد تجهض أو تعوق عمليّة التغيير الحقيقي في سوريا، ولأنّه تورّط في خرق حقوق الإنسان السوري. إنّ تورّط المجلس الوطني في مؤامرة تشترك فيها دول مجلس التعاون بالنيابة عن الحلف الأميركي ــ الإسرائيلي يخرجه من معادلة التغيير الديموقراطي ويجعل منه ــ على نسق 14 آذار في لبنان ــ مجرّد أداة لقوى خارجيّة تقرّر من دون اعتبار مصلحة البلد التي تستغلّ ساحته للتآمر.
انكشفت حلقات المؤامرة على الشعب السوري. والمؤسف أنّ تحالفات معارضة المجلس الوطني والجيش السوري الحرّ وممارساتهما كانت في مصلحة النظام. ومن يدري، في حالة نظام استخباري على شاكلة النظام السوري قد يكون الاختراق الاستخباري فاعلاً فعله في صفوف قوّات المعارضة. ولكن بالتأكيد إنّ الشعب السوري الذي يستحق التخلّص من ربقة حكم سلالة عائليّة في جمهوريّة لن يستكين مهما طال الزمن، ومهما طال القمع.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)