إلى جورج طرابيشي، مفكراً وصديقاً
على خلفية الموقف من الانتفاضة السورية، يتعرض علمانيون كثر في هذه الأيام لانتقادات كثيرة من علمانيين آخرين. مفصل النقد يتوقف على الموقف المهادن من النظام الذي يتخذه البعض منهم، تحت شعار التخوّف من وصول الإسلاميين إلى السلطة، كما حدث في تونس ومصر والمغرب، مع بروز مؤشرات إلى سير الأمور في كل من ليبيا واليمن إلى المصير نفسه، عدا اندراج الإسلاميين ضمن الركب الأميركي ـــــ الخليجي ـــــ الإسرائيلي، بشكله الأكثر فجاجة.
والحال أنّ هذا الأمر وضعنا أمام خطابين علمانيين، الأول يقول إنّ زوال الاستبداد هو الأساس، وبعدها نرتب الأمور مع السلطات القادمة، لأنّ الشعب الذي ثار لن يستكين بعد اليوم. والخطاب الثاني يقول إنّ الإسلاميين سيكونون أكثر استبداداً من النظم القائمة، إذ يكتفي هؤلاء بالقول على طريقتهم إنّ النظام السوري علماني رغم استبداده (!) وفق مبدأ «من تعرفه خير ممن تتعرف عليه»، بينما القادمون سيجعلون من الدين ستارهم، وبالتالي ستكون الحريات الشخصية على المحك. يستدل أنصار الرأي الثاني على ذلك بالثورة الإيرانية التي تحوّلت إلى استبداد سياسي مدمج بالديني، بعدما كان استبداد الشاه استبداداً سياسياً فقط! وهم يخلصون بذلك إلى أنّ الشروط لم تنضج بعد لرحيل المستبد. وبالتالي، فإنّ الحل برأي هؤلاء في تحصيل ما يمكن تحصيله من مكاسب من هذه السلطة المستبدة، انتظاراً للحظة الولادة الناضجة. ولدى كل طرف اتهاماته الجاهزة ضد الطرف الآخر. فالطرف الأول (علمانيو الانتفاضة) يتهم الطرف الثاني (علمانيو الحياد) بأنّه يتعامى على الدم الذي يسفك في سوريا، وعلى استبداد السلطة التي تقتل وتضرب وتهجّر مناطق بأكملها، محيلاً الأمر إلى الجانب الأخلاقي الذي يوجب الوقوف إلى جانب الضحايا ضد نظام مستبد وغاشم. بينما يتهم الطرف الثاني الأول بأنّ أولئك لا يفعلون أكثر من التطبيل لمستبد جديد، مستغلين دم الشارع الذي يموت بنبل عز مثيله. ويرى هؤلاء، وباسم المنطق الأخلاقي نفسه، أنّ علمانيي الانتفاضة (إلى جانب الاستبداد) يحرّضون الشارع على موته، حين يوهمونه بأنّه يموت في سبيل الحرية، في حين أنّه مجرد وقود لإسلاميين قادمين إلى السلطة بقوة، ليشكلوا استبدادهم الجديد.
هنا سنناقش الطرفين، قاصرين المناقشة على الرؤية العلمانية، كون الطرفين يتحدثان باسم العلمانية التي يشدها كل طرف إلى جانبه. فالطرف الأول يتهم الثاني بأنّ أفراده علمانويّون، والثاني يتهم مناصري الأول بأنّهم متعلمنون أو غيرها من الصفات التي يتراشقونها في ما بينهم، بينما الحقيقة تكمن في أنّ كل طرف منهم يجانب الصواب من جهة، ويقارب الخطأ من جهة أخرى. إذ إنّ كلاً منهم يقول نصف الحقيقة فقط، محملين العلمانية أكثر مما تحتمل، عبر تحويلها إلى إيديولوجية لحشد الجماهير، بينما هي ليست أكثر من آلية إجرائية، يتم التوافق عليها دستورياً، لتمنع هيمنة أيّة أيديولوجيا (وليس الدين فقط) على السلطة، عبر جعلها تمشي بمنطق الدولة نفسه، لا بمنطق فصيل سياسي أو إيديولوجي أو ديني، يفسر الأمور على هواه.
هكذا يختزل الطرفان العلمانية ببعدها الديني، عبر تضخيم الخطر الديني أو تقزيمه، وفق رؤية كل منهم، في حين أنّ العلمانية هي الفصل الكلي بين مؤسسات الدولة وكل إيديولوجية أو عقيدة، بما في ذلك الديني والحزبي بكل أشكاله. وعليه لم تكن الدولة في سوريا يوماً ما علمانية، لأنّها وضعت البعث بمصاف الإيديولوجية الرسمية للدولة. وكذلك علمانية بورقيبة لم تكن كذلك، لأنّها اختزلت العلمانية ببعدها الديني الذي فرض عدم ارتداء الحجاب. إذاً يفترض بالدولة أن تكون محايدة بالكامل في ما يخص أديان الناس وعقائدهم وإيديولوجياتهم، إلا حين يحدث التعارض بين حق الدولة وحق المواطن، فيتم التباحث في كيفية إيجاد المخرج الذي يجب أن يحافظ على حرية المواطن وآلية عدم إعاقة عمل الدولة.
ولنفترض أنّه بعد مئة عام أصبح عدد الملحدين في أية دولة أكبر من عدد المؤمنين بالله، فلا يحق لهؤلاء الملحدين فرض إلحادهم على الجميع، وبالطريقة نفسها، لا يحق لأنصار أي دين أو إيديولوجية أن يفرضوا تحت اسم الأكثرية رؤيتهم.
في سوريا، تحت حجة العلمانية، يوجه علمانيو الانتفاضة نقداً مبرحاً إلى علمانيي الحياد (المقصود علمانيون يقفون على الحياد أو مع النظام) بأنّ موقفهم من العلمانية ازدواجي وقابل للتوظيف، وأنّ تخوّفهم من قدوم الإسلاميين لا يبرر موقفهم المهادن للاستبداد، منطلقين من فكرة صحيحة أنّ الانتفاضة كشفت علمانيتهم الزائفة التي تجلت بانتقاد الخروج من الجامع، دون أن ترى كل الدم الذي يهدره الاستبداد. وبالتالي، فإنّ عدم نقد هؤلاء للاستبداد ووقوفهم على الحياد أو إلى جانب النظام، تحت حجة حماية المكتسبات العلمانية في نظام لم يكن في أي يوم من الأيام علمانياً (والدليل المادة الثالثة من الدستور الجديد) هو تبرير زائف حقيقة. وهذا كله صحيح، لكن مشكلة علمانيي الانتفاضة أنّهم يتوقفون بنقدهم هنا، على طريقة «ولا تقربوا الصلاة»، دون أن يكملوا نقدهم الموجه لزملائهم في العلمانية باتجاه الانتفاضة وقواها، إذ بات هؤلاء، باسم الانتفاضة وباسم الموقف الأخلاقي الذي يجب أن يقف مع دم الضحايا، يبررون أو يصمتون عن الكثير مما يحصل من أخطاء داخل الانتفاضة نفسها، وخاصة في ما يتعلق بسيطرة السلاح والشعارات الدينية التي ساهمت في انكفاء البعض. والأهم هو عدم توجيه علمانيي الانتفاضة النقد للقيادات السياسية في المعارضة، وخاصة المجلس الوطني، الذي يتاجر بدم الشارع، إضافة إلى قصورهم الكامل عن نقد الاستخدام السيئ للدين في الانتفاضة (وهو مضر في أحيان كثيرة) وعدم نقدهم الابتذال الطائفي الذي وصلت إليه بعض القوى التي تحاول الركوب على الثورة، وعدم انتقادهم خطاب الإخوان المسلمين المزدوج، وعدم مساءلتهم عن جلوسهم المريب في الأحضان التركية والقطرية (حيث مفرخ التنظيمات السلفية والإرهابية) والأميركية، ومعنى مدنية الدولة التي ينادون بها، وكذلك الأمر رفضهم المطلق للعلمانية التي يدافع علمانيو الانتفاضة عنها، ويوجهون باسمها سهام النقد إلى علمانيي الحياد.
هنا نجد أنّ علمانيي الثورة محقون في موقفهم بوقوفهم إلى جانب الانتفاضة، لكنّهم يتغاضون (منهكين بذلك العلمانية التي ينطلقون من الدفاع عنها!) عن الاستخدام السيئ للدين. بمعنى أنّ نقدهم يتوقف على النظام وموقف خصومهم من العلمانية، أي على اللحظة الراهنة فقط، ودون التفكير في أفق المستقبل وما يحمل، ليغدو كلامهم عن حتمية الانتصار وعن الشعب الذي لن يعود بعد اليوم إلى البيوت، تقديساً في غير مكانه. إذ قيل هذا الكلام في كل الثورات، وسيبقى يقال في ثورات قادمة ولاحقة، لأنّ حقيقة الأمر أنّ الثورات تنكص أحياناً وتموت بسرعة، وقد تكون مجرد استبدال استبداد بآخر، خاصة حين لا تكون نتاج وعي مؤسس في القاع الاجتماعي، وهذا قريب من الحالة العربية الراهنة عموماً. هل يدرك أحدنا كم نسبة القراءة في العالم العربي؟ هل يدرك أحدنا كم نسبة الأميين الذين لا يقرؤون ولا يكتبون، علماً بأن الأمية في العالم المتحضر باتت تقاس بمن لا يعرف استخدام الكمبيوتر والإنترنت؟ الأسئلة عن إجابات بسيطة كتلك، تجعلنا نضع يدنا على الجرح، لأنّ الاستبداد لا ينتهي إلا بانتهاء مسبباته وعلى رأسها الجهل وعدم المعرفة. وهذا النقد ليس انتقاصاً من الشعوب المنتفضة التي يقدسها علمانيو الانتفاضات، بل هو حقيقة واقعة مثبتة علمياً، لا يمكن القفز فوقها، مما يعني عملياً أنّ خطر النكوص باتجاه استبداد جديد هو قائم، خاصة إذا عرفنا أنّه سيتم باسم الدين، في بيئة عربية أضعف ما فيها نقدها تجاه المقدسات. مقدسات سيعيد هؤلاء استخدامها لتقديس ذواتهم في السلطة، ما لم يتم التأسيس منذ الآن لنقد جذري تجاه كل المقدسات، بما في ذلك تلك الخاصة بالانتفاضة التي باتت تتحوّل عبئاً.
إذن، علمانيو الانتفاضة يركزون نقدهم على اللحظة الراهنة، دون أن يفكروا في أفق المستقبل، ودون أن يتابعوا آلية النقد ذاتها باتجاه الانتفاضة، وهو في حقيقة الأمر ما يجعل موقفهم مشابهاً تماماً لموقف علمانيو الحياد، إنما بطريقة مقلوبة. إذ يصمت علمانيو الحياد عن نقد الاستبداد، أو يؤيدون بقاءه تحت حجة تخوّفهم من الإسلاميين، أو وجود قسم كبير من الإسلاميين في الشارع، دون أن يتساءلوا: من يحق له منع الإسلاميين، حتى لو بصفتهم تلك، من النزول إلى الشارع، في حين أنّه يحق للعلمانيين النزول مثلاً؟ ويتغاضى هؤلاء عن الكثير مما يحصل في الشارع، تحت حجج واهية بأنّ التظاهرات تخرج من المساجد، في حين أنّها كفت منذ زمن بعيد عن ذلك، ليبقى موقفهم كما هو. يبدون بذلك غير مدركين أنّه في المعارك ضد الاستبداد، يتم استخدام كل عناصر القوة بما في ذلك الدين، وتجارب الشعوب في هذا المجال كثيرة. ولعل تجربة تشيلي حيث كان للكنيسة دور بارز في إطاحة الديكتاتورية مثال واضح في هذا الشأن. وهنا أيضاً يمكن الأخذ على علمانيي الحياد عدم سعيهم إلى تنظيم تظاهرات من خارج الجامع، إن كانت تلك حجتهم حقاً، بدل اكتفائهم بالتنظير. بل لم نشهد لهم أي حراك مثلاً ضد الدستور الجديد، وخاصة المادة التي تكسر ظهر العلمانية المزعومة التي يتشدقون بها، وتنص على أنّ رئيس الجمهورية يجب أن يكون مسلماً! هكذا فضحت علمانيتهم الزائفة المستترة تحت الخوف المزمن من المستبد، ليغدو تشدقهم بالعلمانية الذريعة التي يبررون بها صمتهم تجاه الدم الذي يسفك. يركز علمانيو الحياد نقدهم على اللحظة القادمة، متناسين أهمية اللحظة الراهنة، في حين أنّ علمانيي الانتفاضة يركزون نقدهم على اللحظة الراهنة، دون البحث في كيفية التأسيس للحظة القادمة. هكذا نغدو أمام خطابين مقلوبين ومبتورين وناقصين، وكل منهما يدّعي النطق باسم العلمانية.
نحن أمام نظام مستبد يجب أن ينتهي كاملاً، سواء تفكيكاً بالتدريج أو رحيلاً الآن، ولم تعد تجدي المداورة في هذا الأمر بتاتاً. لكن أيضاً نحن أمام نظم تتشكل من جديد، تتلبس لبوس الدين مرة، ولباس الحرية مرة أخرى، بعضها عقد صفقات مسبقة مع واشنطن والخليج (وربما إسرائيل) وهذا يجب أن يواجه الآن، كي لا نكون شهود زور مرة أخرى، إذ إنّ الموقف الصحيح يتحدد بما يلي: أن لا نسكت على دماء الشهداء التي هدرها الاستبداد الحالي، وأن لا نجعل من دمائهم مطية لاستبداد جديد. وبالتالي فإنّ المعركة لا تتكامل إلا برؤية الجانبين معاً، عبر السعي الكامل والحثيث، وبكلّ السبل، إلى التخلص من عهد الاستبداد من جهة، ونقد بعض آليات عمل الانتفاضة (الآن وليس غداً) التي تحجب الرؤيات وقد تكون مقتلها إن تضخمت. وهنا المعركة الأهم التي يجب أن يخوضها السوريون بكل أطيافهم: علمانيين وملحدين ومتدينين، ذكوراً وإناثاً، شباباً وكهولاً.
* شاعر وكاتب سوري