يردد المسؤولون الأتراك، يومياً، مواقف عالية اللهجة تجاه النظام السوري، كدعوته الى التنحي والمطالبة بفتح ممرات إنسانية، والقول بأنّ أنقرة لا يمكنها السكوت أكثر عما يجري هناك، لكن في النهاية، تبقى أنقرة عاجزة عن التدخل على نحو أكثر وضوحاً وقوة. لم تكن هذه المرة الأولى التي تضع فيها أنقرة نفسها أمام إحراج كهذا، بل عانت الأمر ذاته أثناء التصعيد المتبادل مع تل أبيب. بسرعة البرق، وصلت السياسة الخارجية التركية المستجدة الى ذروتها، ربما بفعل خضوعها للشغف بالتاريخ المجيد والإحباط من تكبر الأوروبيين، ومطارحات داوود أوغلو الجيوبولتيكية، والأبرز كان حاجة حزب العدالة والتنمية إلى تبني خطاب شعبوي حماسي في سعيه إلى تمكين سيطرته على اللعبة السياسية الداخلية، ولا سيما في وجه العسكر والقوى القومية التركية. نظرياً، تجري المجادلة بين مقاربتين، الأولى تشدد على أهمية البنية الخارجية والظروف الموضوعية في تحديد السلوك الخارجي للفاعل السياسي، كالتوازنات الإقليمية، هوية المنافسين والحلفاء، وطبيعة النظام الإقليمي. والمقاربة الثانية تعطي الأولوية للفاعل نفسه لا للبنية، أي لهوية الفاعل السياسي، تاريخه، ثقافته الاستراتيجية، قيمه وطموحاته. ويرد أصحاب المقاربة الأولى بأنّه «بدون شك فإنّ اللاعبين يصوغون بيئتهم الخارجية، لكن ليس بإرادتهم المنفردة، لكونهم مقيدين بمحدودية قدراتهم، بالقوة النسبية لللاعبين الآخرين، والشروط التي تنتجها تحولات تلك البيئة» (سولي أوزيل، الموجات، الطرق، والانعطافات التاريخية: سعي تركيا الاستراتيجي، صندوق مارشال، 30 كانون الثاني 2012).لذا يمكن القول إنّ العيب الجوهري في سياسة أنقرة في الشرق الأوسط كان تجاوزها الى حدّ التجاهل كثيراً من الوقائع السياسية والبنيوية للمنطقة، في ظل هيمنة العوامل الذاتية.
أسهمت هذه المعضلة في المراوحة الحاصلة في السياسة الخارجية التركية، بعدما اصطدمت بجملة قيود وضوابط، كما في الموضوع الإسرائيلي أو السوري. في الموضوع الإسرائيلي، كان اللافت أنّ أنقرة كلما ازدات بعداً عن تل أبيب، كانت تزداد قرباً من واشنطن والناتو، مما جعل خطابها العدائي تجاه تل أبيب موضع شك، وهو شك تعزز بتصريح لأوباما رأى فيه أنّ تركيا: «حليفة لحلف شمال الأطلسي، واقتصادها يتوسع على نحو رائع. علاوة على ذلك أنّها ديموقراطية ودولة يغلب على سكانها المسلمون، مما يجعلها نموذجاً له أهمية كبيرة للدول المسلمة الأخرى في المنطقة».
لا نسعى هنا إلى القول إنّ تركيا هي أداة غربية، إذ لا يمكن مقارنة النظام التركي بالأنظمة العربية التابعة لواشنطن، بل الأصح أنّ تركيا تتناغم وتتكامل مع المشروع الغربي للمنطقة. فتركيا بناءً على طبيعة نظامها السياسي، وقدراتها العسكرية والاقتصادية، ودورها التاريخي في المنطقة، هي قطب بارز، لا يمكن القوى الدولية أو الإقليمية أن تتجاهل مصالحه المستقلة وطموحاته بالزعامة الإقليمية، إلا أنّ بعض الغربيين يريد من أنقرة أن تنساق تلقائياً خلف المصالح الغربية، وأن تتورط في المواجهة الإقليمية ـــــ ولا سيما في الملف السوري ـــــ تحت حجة أنّ الزعامة والقيادة تستلزمان تحمل المسؤوليات. في هذا السياق، انتقدت الكاتبة آنا ماري سلاتر، الموقف التركي التراجعي من الأزمة السورية، وذلك في سياق الحديث عن دعوة أنقرة لمؤتمر «أصدقاء سوريا»، الذي عدّته الكاتبة دعوة الى مزيد من الكلام فقط بدون أفعال. فالدول التي تطمح لأن تكون في مرتبة «القوى الكبرى»، وأن تكون موضع مشورة في أحداث المنطقة، وتدعو إلى مؤتمرات دولية على أرضها، لا بد في المقابل أن تتحمل أعباءً موازية لذلك، أي بحسب الكاتبة أن تقوم تركيا بالتدخل عسكرياً في سوريا الى جانب المعارضة، لوجسيتاً، جوياً واستخبارياً، فغالباً ما تحتاج الدول الكبرى الى أخذ قرارات غير شعبية كهذه. (الاختبار التركي، بروجيكت سينديكات، 13/2/2012).
إلا أنّ حزب العدالة والتنمية، بعدما تمكن من الإمساك باللعبة الداخلية واختبار الحقائق والتوازنات القاسية للمنطقة، بدأ يميل نحو الاهتمام أكثر بالحسابات الاستراتيجية للعبة القوة، ولا سيما في ظل تصاعد الدور الإقليمي لروسيا والصين، فضلاً عن التوترات مع إسرائيل واليونان وقبرص وسوريا وإيران والعراق والأكراد. هذه المعطيات دفعت جملة من المحللين الى التنبؤ بأنّ الخطوات التركية تجاه الأزمة السورية ستبقى خطابية فقط، في ظل غياب إجماع دولي على اتخاذ إجراءات أكثر قوة (أنظر مثلاً: أسلي آيدينتاسباس، سياسة تركيا الجديدة نحو سوريا).
ولذلك يبدو أنّ التركي يدرك حاجته في ظلّ هذا الكباش المحتدم الى نسج شراكة استراتيجية مع القوى العربية الصاعدة، ولا سيما في مصر، وفي الوقت ذاته تمتين ارتباطه بالناتو. فقد كتب سابان كارداس أنّ الربيع العربي دفع تركيا الى إعادة الانتباه نحو سياستها الدفاعية والأمنية ، وهذا بدوره أدى الى إعادة تقويم تركية لعلاقتها مع الناتو، باعتباره أداة موثوقاً بها لممارسة القوة، وكذلك منصة مفيدة لطرح الأجندات. ويحاجج الكاتب بأنّه لا تغيير جوهرياً في السياسة الخارجية التركية، التي ستبقى ترتكز على الرغبة في تحقيق دور استراتيجي مستقل، مترافق مع ازدواجية بين مواءمة المصالح مع الغرب والاستمرار في توجيه نقد خطابي إليه. (سابان كارداس، صندوق مارشال، 28 تشرين الثاني 2011).
يخالف هذا التماسك في علاقة تركيا بالناتو ما أشاعه الإسرائيليون في بدايات التقارب التركي مع إيران وسوريا، باعتباره تحالفاً من شأنه تهديد النفوذ الغربي في الشرق الأوسط. فقد حذر إفرايم ينبار (مدير معهد بيغن ـــــ السادات للدراسات الاستراتيجية) من أنّه «سيغير توازن القوى في الشرق الأوسط ـــــ كما سيؤثر سلباً في التوجه المؤيد للغرب في جمهوريات آسيا الوسطى، وسيضعف الناتو، ويهدد ممر الطاقة ما بين الشرق والغرب، ونظراً إلى الأهمية الاستراتيجية لتركيا، فإنّ تحالفاتها الجديدة يجب أن تكون جرس إنذار للغرب». إلا أنّ الحملة الإسرائيلية كانت تهويلية، وتهدف الى استنفار الغرب وابتزاز أنقرة، وذلك في لحظة كان الإسرائيليون يشعرون فيها بالإرباك والقلق من التحوّلات التركية، وتراجعات واشنطن الإقليمية. في المجمل تراهن أنقرة على قوتها الناعمة ـــــ لا العسكرية ـــــ على نحو أساسي، بهدف التمدد والنفوذ في المنطقة، وتسعى في سبيل ذلك الى استعمال الخطاب الإسلامي على نحو كثيف، وهو خطاب ينحو تدريجياً نحو المذهبية. ففي الوضع السوري تطغى الخطابة والعروض السياسية والدبلوماسية التركية، إلا أنّ ذلك رغم محدوديته في التأثير على مجريات الأزمة السورية، فإنّه يؤمن لأنقرة مزيداً من المعجبين والأنصار في العالمين العربي والإسلامي. وتنبع أهمية ذلك من أنّ الصراع على الشرعية بين القوى الإقليمية في أشد لحظاته، بسبب أنّ الرأي العام العربي أصبح أكثر انكشافاً للتأثيرات الخارجية. إنّ الدور التركي المستجد لم يتحرك خارج الإرادة الأميركية، بل كان من تأثيرات إقرار واشنطن بتراجع نفوذها الإقليمي، وضمور القوة الإسرائيلية، بما يحتم إقامة توازن إسلامي سنّي في وجه طهران، فالمنطقة تعج «بالإسرائيليات النائمة» التي تستدعيها واشنطن عند فشل إسرائيل المعروفة في تأدية دورها، وبالمناسبة فإنّ قطر هي نموذجها الأنصع.
* كاتب لبناني