انطلقت الثورات العربية، بسببِ شرطٍ عام وهو الوضع الاقتصاديُّ المنهار لملايين القادرين على العمل وغير المتوفر لهم والذين يتزايدون تِباعاً. وقد أخذت تلك الثورات أشكالاً متعددة، وفقاً للوضع العام لكل بلد. وكانت الثورة في سوريا في انطلاقتها وتطوّرها ومشكلاتها وطول زمنها، سوريةً بامتياز.استمراريتها في المناطق المهمشة بصفة خاصة، وخروج مدن بأغلبيتها عن طاعة السلطة، ساهم في خلق ظروف جديدة لا بد من رؤيتها، وهي عوامل إضافية لتصاعد الثورة، وبالطبع هي نتيجة الثورة الأسطورية ومحاولة النظام إنهاءها بكل وسائل القمع. فأكثر ما لوحظ بالعين المباشرة، انقطاع الكهرباء لساعات طويلة والهاتف الأرضي والخلوي، وأزمة الغاز والنفط المستمرة، وارتفاع أسعار البنزين والغاز، وحدوث ارتفاع عام في كافة أسعار المواد الأولية والكهربائية وكل أنواع البضاعة في الأسواق، حتى الخضرة والفواكه المحلية، مع بقاء الأجور كما هي، وشطب الكثير من المكافآت. بالتالي شهد دخل الفقراء تراجعاً كبيراً، عدا إغلاق العشرات من المعامل وتراجع عمليات البيع والشراء بالنسبة إلى التجار، وفرار العشرات منهم خارج البلاد. ويعني ذلك ضعفاً شديداً لقيمة العملة السورية، ودخول كتل بشرية جديدة في حالة من التأزم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ورفد الثورة بهم. الانهيار الجديد للأوضاع، هو ما ساهم في توسيع الثورة في كلّ من حلب والرقة والسويداء وأدخل أحياء وبلدات جديدة فيها، عدا الشعور العارم بأنّ النصر ممكن، خاصة وأنّ شلالات الدماء لا تتوقف كل يوم، والتدمير الممنهج للبلدات والأحياء، بفعل همجية النظام، وهو ما يؤجج نار الثورة في دماء الشباب، ويدفع عشرات ومئات العسكريين للانشقاق والالتحاق بها، إذ إنّ الجيش جزء من الشعب، ويوضع أفراده في زاوية ضيقة يجبرون خلالها على القتل أو أن يقتلوا.
يعد موضوع الإغاثة الشعبية، التي تأخذ أشكالاً كثيرة، ومن أوساط متعددة، ومن كلّ المدن والمشارب، تأكيداً جديداً على انخراط مجموعات ناشطة جديدة في الثورة، ووجود وطنية جامعة قديمة وجديدة. ونتيجة ذلك واقعياً، خلق علاقات متشعبة في كلّ المدن والبلدات والقرى المنكوبة، تسهم وستسهم بالضرورة في تعزيز الهوية الوطنية ورفد الثورة بفئات جديدة، وتحويل الدين إلى شأنٍ شخصيٍّ أو جماعاتي خاص. وذلك يقف في الضفة المقابلة لتيار طائفيٍّ التحق بالثورة، ويحاول حرفها وتشويهها عن مسار انطلاقتها وأهدافها، نحو طائفية مقيتة، تزعم أنّ الثورة سنيّة وتناضل ضد نظام علوي، وحام للأقليات. بينما حقيقة الأمر أنّ الثورة شعبية، والنظام ديكتاتوري، ويحاول استخدام جزء من شباب الطائفة العلوية لحشد الطائفة خلفه، وتحييدها عن الاشتراك بالثورة، خشية سقوطه السريع، وسيتخلى عنهم لاحقاً بكل تأكيد، وهو يضحي بهم يومياً من جراء مواجهة الثورة المتصاعدة. وبالفعل لم تبق قرية وبلدة أغلبيتها علوية، ولم يقع لها قتلى، وهو الأمر ذاته في كلّ سوريا. وبالتالي الثورة شعبية والفقراء هم الشهداء، ويقع على العاقلين من كلّ السوريين موالين ومعارضين، فهم تعقيدات هذه الثورة، والتأكيد على أنّها، بتوسعها المستمر، وحدها هي القادرة على الانتصار، وضرورة مدّها وتطويرها نحو مناطق جديدة، وأن تتبنى برنامجاً وطنياً ديموقرطياً لصالح كل السوريين، وأينما كانوا. وفي أسوأ الأحوال إنّ سوريا لن تعود إلى ما قبل 15 آذار 2011 ولا بد من المساهمة في خلق سوريا الجديدة.
إذن علينا ملاحظة الشروط الجديدة في الإفقار وتراجع الخدمات وتزايد الأعباء المادية على المفقرين والانشقاقات العسكرية، وكلفة الدم المهولة من فقراء سوريا، ومجموعات الإغاثة الشعبية، ودورها في تفعيل الثورة، وضرورة تطوير أشكال التواصل مع المتضررين؛ الثائرين والخائفين من النظام ومن المستقبل. وربما يتطلب ذلك، وبشكل حازم، الابتعاد عن الأصوات الراغبة في تطييف وتسنين الثورة والنظام، والعمل على برنامج وطني عام كما أشرنا، يبيّنُ بوضوحٍ إلى أين تذهب سوريا، وينسف تخوفاتٍ طائفية وعلمانية وشعبية، خلقها النظام أولاً والمعارضة ثانياً من طائفية ظلامية في الثورة السورية.
وإذا كان مفهوماً أنّ النظام يساهم في ذلك، عبر أدواته الإعلامية والأمنية، بسبب عمق أزماته، فإنّ من غير المفهوم القصور السياسي والمعرفي عن فهم هذه الثورة المتصاعدة من قبل أنصار المعارضة؛ إلا إذا كانت تلك المعارضة تخشى مصيراً بائساً بعد نجاح الثورة، وتريد بالفعل منع تطور الثورة نحو ثورة شعبية وأن تسقط هي السلطة، وتبني دولتها المدنية الديموقراطية على أساس المواطنة. وهذا ليس من باب التفكير المؤامراتي، أو العلماني بمكان؛ فنحن لسنا بهذا الوارد على الإطلاق، ولكن غياب معطيات الثورة بكل تفاصيلها وتشعبات الواقع وتأزمه الشديد، عن رؤية تلك القوى، هو ما يدفعنا للاستنتاج المذكور.
ولكن، ولأنّنا نبتغي تطوير الانتفاضة، ونعتمد عليها في إسقاط النظام، كصيرورة موضوعية لتطور الثورة، فإنّنا نرى كلّ تهميش لمعطيات الواقع والكلام عن ضعف الثورة، والعمل على أسلمتها والاعتماد الصبياني على التدخل الدولي، يصب في خانة تأخير انتصارها، وتقوية السلطة. سلطة هي في أشدِّ حالاتها من الضعف، نظراً لتدهور الوضع الاقتصادي ومشاركة مناطق جديدة بالثورة، عدا عن العزلة الدولية.
ما قلناه أعلاه، يستدعي تركيز الجهد النضالي على تشكيل قيادة داخلية للثورة، عابرة للمدن وإحداث تحالف عريض من قوى سياسية ثورية، تشرف على أعمال الثورة وتطوّرها، وتصوغ برنامجاً عاماً لها. كذلك ينبغي مناقشة القضايا الإشكالية التي أنتجتها السلطة والثورة، ولا سيما بما يخص التخوفات عند الأقليات من نظام أصولي قادم، وتوضيح طبيعة الدولة المستقبلية لجهة لكونها مدنية تفصل بين السياسة والدين، ولا تعادي الدين بحال وتمنع تسخير الدين لصالح حزب أو جماعة. كما يجب العمل على برنامج اقتصادي محدّد للدولة وللقطاع الخاص، يتناسب مع وضع ملايين الفقراء وأوضاع الفلاحين والعمال المفقرين، وتأمين فرص عمل جديدة، وأنّها لن تكون على حساب الموظفين الفقراء، سواء شاركوا بالثورة أو لا.
يُعدّ إظهار وتسييس كلّ مظهر جديد لتأزم الواقع الاقتصادي والسياسي، عاملاً ثورياً لرفد الثورة بمشاركات شعبية جديدة. غير ذلك، والبقاء في تكرار حكاية الإعلام عن الثورة والتركيز على الدور الدولي وعدم الوصول إلى برنامج وطني ديموقراطي لدعم الثورة، يقوّي السلطة، ويؤخر نجاحها، ويعمل على تشويهها؛ ولكنّها ستنجح لا محالة، فلا شيء يمنع شعباً مفقراً ومستبداً به، ويقتل كل يوم، وقامَ بثورةٍ في كل المدن، عن الانتصار!
* كاتب سوري