تكاد تجزم أنّه سيناريو من الخيال (العلمي أو الديني). الدولة المُحتلّة ذات التاريخ الأعرق في المجازر وفي جرائم الحرب ترفع الصوت عالياً ضد محاولة (لم تكتمل) لتهديد سطوتها وجبروتها وهيمنتها في العالم العربي. تجرؤ الدولة المُحتكرة للسلاح النووي في منطقتنا على المجاهرة برفضها أي محاولة من أية دولة عربيّة أو إسلاميّة للحصول على السلاح النووي. تقوم الدولة المعتدية تلك بضرب أي موقع أو مواقع تشكّ في نواياه العلميّة أو العسكريّة في العالم العربي.
هذه دولة اغتالت خيرة العلماء في مصر والعراق وإيران، وقد يصل بها الجنون والوحشيّة إلى ضرب كلّ المختبرات العلميّة، أو حتى صفوف علم الأحياء في المدارس الثانويّة العربيّة. لا، المسألة أسوأ من ذلك بكثير. تقوم قيادة الجامعة العربيّة النفعيّة، المتمثّلة بمجلس التعاون الخليجي، مع من تختاره من أدوات من عمرو موسى إلى نبيل العربي، بمناصرة الموقف الإسرائيلي بالكامل، ومن دون حياء. لم يعد عند هؤلاء حاجة للتقيّة السعوديّة التقليديّة لستر التحالف الطويل مع إسرائيل (مباشرة، كما في حروب اليمن، أو بالواسطة عبر الراعي الأميركي). استبطنت أنظمة الخليج النظرة الصهيونيّة، ومفادها أنّ السلاح النووي في الأيادي اليهوديّة يشكّل ضماناً لأمن المنطقة، ومصدراً للراحة الإسلاميّة، فيما يشكّل هذا السلاح نفسه في الأيادي العربيّة والإسلاميّة تهديداً للأمن العالمي، وخطراً على الدين الحنيف. أنظمة الخليج لم تعد تضمر ما لا تقول، وتقول عكس ما تضمر. هي اليوم واضحة وإعلامها لا لبس فيه: إسرائيل ليست عدوّة لهم (كان محمد بن جاسم وأحمد أبو الغيط يتحوّلان إلى مراهقيْن عندما يلتقيان بتسيبي ليفني، قاتلة العرب في سنواتها في الموساد)، وإعلام أمراء آل سعود وآل ثاني يتضمّن إعلانات سياسيّة صريحة ومُداوِرة لدولة العدوّ الإسرائيلي.
لسبب ما، قرّرت دول مجلس التعاون الخليجي أنّ السلاح الإيراني النووي (غير الموجود حتى الساعة باعتراف الاستخبارات الأميركيّة في تقاريرها) هو أكثر خطراً على الشعب العربي من سلاح إسرائيل النووي الموجود بتراكم منذ عقود. لا ندري ما هي معايير دول مجلس التعاون الخليجي، وإن كانت الاستقلاليّة في القرار، وفي المعايير، ليست من شيمها إطلاقاً. تلك دول سارت مع المستعمِر البريطاني وعادت وسارت مع المُستعمِر الأميركي، وإن بدت أكثر هياماً بالمُستعمِر الثاني، وقد يعود ذلك لاستطيابها الإذلال (تتملّق الحكومات الغربيّة وتتمسّح على أعتابها، لكن تلك الدول تصف هؤلاء بـ«راكبي الجمال»، كما كشف تقرير «ستافور»). كل تقارير الإعلام العربي المخنوق تكرّر وتعكس الهوس الإسرائيلي بالسلاح النووي الإيراني، لا في غيره. ومُحلّل العلاقات الدوليّة الأبرز في لبنان، المعروف بفارس سعيد، يربط كلّ ما يجري في لبنان بالملف النووي الإيراني الذي يؤرقه (والأرق لازم سعيد منذ خروج القوّات السوريّة في لبنا،ن لأنّها كانت تواظب على تأمين وصوله (المزوّر على ما تبيّن) إلى المجلس النيابي اللبناني. لم يحن لزمن رستم غزالة أكثر من فايز شكر وفارس سعيد). وسعيد أصدر بياناً همايونيّاً قبل أيّام، ندّد فيه بزيارة (لم تحصل وفق الحكومة الإيرانيّة) لقائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني. قرّر سعيد أنّ الزيارة تدخل في باب تنسيق ردود الفعل على ضربة إسرائيليّة لإيران. (من الطريف، أنّ سعيد لم يبلغنا بمصدر معلوماته الاستخباريّة: لكن يبدو في لبنان أنّ من شبّ على التلقّي من مصادر استخباريّة، شاب على التلقّي، حتى لو غيّر المصادر).
العدوّ الإسرائيلي ناشط في الحرب النفسيّة هذه الأيّام وفي التهويل. يهدّد يوميّاً بضرب إيران، وإذا صدر رد فعل إيرانيّ بنيّة الدفاع عن النفس، قامت قيامة الصحافة الغربيّة والسعوديّة (والحريريّة الذيليّة)، وصدرت عناوين ضخمة مفادها أنّ إيران تهدّد إسرائيل، يا للهول. وكان هذا هو السائد في الثمانينات عندما كانت إسرائيل تهدّد العراق، وإذا ما ردّ صدّام حسين بإعلان النيّة عن الدفاع عن النفس، صدرت العناوين بأنّ العراق يهدّد إسرائيل بمصير مشابه ليهود ألمانيا في العهد الهتلري. وكل من لا يتوافق مع إسرائيل بين العرب والمسلمين هو قرين أو خليفة لهتلر: من عبد الناصر إلى أحمد الشقيري، ثم ياسر عرفات إلى صدّام حسين إلى الخميني وأحمدي نجاد. بالقوّة، يريد آل سعود لنا أن نجترّ وأن نتقيّأ مرّات عدّة في اليوم الدعاية الصهيونيّة بحذافيرها، وبلا كيف. لكن استطلاعاً للرأي العام العربي، صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة قبل أسبوع، ورد فيه أنّ 73% من الشعب العربي يرى في أميركا وإسرائيل الدولتيْن الأكثر تهديداً «لأمن الوطن العربي»، فيما اعتبر 5% فقط من الرأي العام العربي انّ التهديد يأتي من إيران. يستطيع الملوك والأمراء والشيوخ النفطيون والغازيون إقناع الدول الغربيّة بأنّهم ينطقون باسم الشباب العربي، والدول الغربيّة تريد أن تصدّق التمثيليّة المزعومة، كما صدّقت أنّ حسني مبارك يعبّر بصدق عن تطلّعات الشباب المصري عبر السنوات، لكن الحقيقة مُناقضة.
الإفراط في التهويل والتهديد مؤشر ليس إلى حتميّة الخيار العسكري، لكنّه قد يشير أحياناً إلى استبعاد هذا الخيار. إسرائيل تريد طبعاً ضربة قاصمة لإيران، من دون اعتبار لتقدّم أو تراجع تخصيب اليورانيوم في ذلك البلد. إسرائيل تريد ضرب أيّ جيش في العالميْن العربي والإسلامي إذا كان هذا الجيش لا يكنّ ودّاً لإسرائيل وجرائمها. لكن هناك موانع أمام إسرائيل، وإن كان الإعلام يهزج أو يضخّ كمية مشبوهة من التصريح والإعلام عن قرب الضربة الإسرائيليّة. والصحافة السعوديّة والحريريّة سرّت وهي تنقل مضامين حرب الموساد النفسيّة منذ عهد بوش: كانت تجزم دوريّاً (سنة بعد سنة) بأنّ الضربة الإسرائيليّة آتية لا محالة في الربيع المقبل. والكاتب الأميركي فرانكلين لامب (الذي يتخصّص موقع «المنار» في نقل تحليلاته، كما نقل منه قبل أيّام مرثيّة عن الصحافيّة الأميركيّة ماري كلفن جعل منها مناضلة لفلسطين، مع أنّ أهواءها السياسيّة كانت يمينيّة وفي صف عقيدة بوش)، واظب عبر سنوات بوش على الجزم بأنّ الضربة الإسرائيليّة أو الأميركيّة على بعد أيّام فقط. والضربة لم تأتِ.
هناك موانع أمام الضربة الإسرائيليّة. 1) هناك المانع الجغرافي العسكري: فالبعد يحول دون شن غارات بالطائرات الحربيّة حتى لو سمح آل سعود للطائرات الإسرائيليّة بالتحليق فوق الحرميْن اللذيْن يتمتعان بحماية أكيدة من العائلة المالكة. والأسطول الجوّي الإسرائيلي لا يتمتّع بما لدى سلاح الجو الأميركي من طائرات تُعبّأ بالوقود في الجوّ (قدرة إسرائيل محدودة في هذا الصدد). يقول ديفي سانغر في كتابه «الميراث» إنّ أيّ ضربة فعّالة ضدّ إيران تحتاج إلى نحو ألف غارة جويّة، وقد تستغرق أسبوعيْن أو ثلاثة، أي هي حرب حقيقيّة وليست عمليّة خاطفة. 2) تحتاج الضربة الإسرائيليّة إلى تعاون عسكري مع أميركا، لكن خلافاً لمنطق بوش في العراق، فإنّ الولايات المتحدة لا ترى خطراً على أمنها هي وعلى سلامة سكّانها من سلاح نووي إيراني. هنا، بدأت إسرائيل بالعمل على اختلاق الأكاذيب في محاولة للتأثير على الرأي العام الأميركي لترويعه. نشط إعلام الموساد (وفيه وسائل عربيّة نفطيّة مُشاركة بهمّة) في الترويج لكذبة أنّ في حوزة إيران صواريخ يصل مداها إلى القارة الأميركيّة. لم تنطل الكذبة، وسارع خبراء (ومسؤولون من دون أسماء) إلى دحضها بسرعة. (ولإسرائيل تاريخ عريق في الكذب على أميركا للتأثير عليها: في الأيّام الأولى لحرب 1967 أبلغت إسرائيل الحكومة الأميركيّة انّ مصر هي التي بدأت بإطلاق النار، لكن إسرائيل سرعان ما أوقفت الترويج للكذبة بعدما أظهرت أميركا امتعاضاً من التضارب بين الكذبة والمعلومات الأميركيّة المؤكّدة في حينها). 3) الموانع الأميركيّة، ولنا عودة إليها أدناه. 4) الخوف، إن لم يكن الذعر الإسرائيلي، من ردود فعل قويّة ومتسعة وعالميّة من قبل إيران ومن قبل حلفائها حول العالم. كما أنّ إسرائيل تخشى اشتعال جبهاتها فور بدء الحرب، وهي تعلم أنّ مغامراتها بعد حرب تمّوز هي غير ما كانت عليه في عصر المواجهات الذليلة مع جيوش عربيّة خائبة ذات قادة فاشلين (هذا كان يجب ان يكون شعار حزب البعث العربي الاشتراكي بدلاً من «الرسالة الخالدة»). 5) لا تملك إسرائيل من المعلومات الاستخباريّة ما يخوّلها القيام بضربات محدّدة وموجعة ومؤثّرة. تعلّمت إيران من تجربة صدّام حسين الذي وضع كلّ خبرات العراق النوويّة في مفاعل واحد لا غير (أو في تجربة سوريا التي لا نعلم عنها الكثير)، مما سهّل على العدوّ إنهاءه بضربة واحدة. إيران، خلافاً لذلك، نشرت مواقع مفاعلاتها النوويّة على نحو 70 مركزاً، وإن كان المؤثّر منها منتشراً في نحو عشرة مواقع. تستطيع إسرائيل ان تؤخّر المسعى الإيراني النووي، لكنّها لا تستطيع ان تقضي عليه بضربة واحدة، وهذا ما أكدته تقارير من وزارة الدفاع الأميركيّة. لا تعلم إسرائيل أبداً مدى التقدّم الذي أحرزته إيران في مجال البحث النووي، أو التسليح إذا كان هذا مسعى إيران. 7) تعلم إسرائيل أنّ العالم العربي اليوم هو غير ما كان عليه قبل أشهر، عندما اندلعت الانتفاضات العربيّة: كان ذلك قبل تفجير أنبوب الغاز إلى العدوّ للمرّة الثالثة عشر بالتمام والكمال. قوانين اللعبة لم تعد كما كانت من قبل. لن يمسك وزير الخارجيّة المصري بيد وزيرة الخارجيّة الإسرائيليّ قبل أيّام فقط من عدوان دولتها، ولن يحظى نتنياهو بحفل إفطار رمضاني في قصر القبّة. حسني مبارك لن يتولّى قمع الشعب المصري وحتى العربي، فيما تقوم إسرائيل بمجازرها. ذكرت صحف إسرائيليّة أنّ الدوائر الاستخباريّة أعلمت الحكومة أنّ أيّ ضربة منها لغزة ستنتج في مصر ردود فعل شعبيّة لم تألفها من قبل. قواعد اللعبة تغيّرت، دون ان تعلم إسرائيل، أو نعلم نحن، ما هي قواعد اللعبة الجديدة. 8) العالم يتغيّر وحظوة إسرائيل المميّزة بعد الحرب العالميّة الثانيّة زالت، إلا في الولايات المتحدة ذات التأثير الأكبر والأقوى. تتذاكى دولة العدو وتعقد اتفاقات أمنيّة مع أذربيجان وقبرص والهند في محاولة للتعويض، لكن قبرص لن تنقذ إسرائيل عندما تبدأ بالتهاوي. 9) تعلم إسرائيل أنّ زمن الضربات التي لا تؤدّي إلى ردود فعل (على نسق ضرباتها ضد النظام السوري الذي ما أنفك لعقود ينتظر الوقت المناسب لتحديد زمان المعركة ومكانها) ولّى، بعد معركة مارون الراس. لكن الحساب ليس ملك إسرائيل وحدها. التسريبات الإعلاميّة التي تفيد بأنّ إسرائيل لن تُعلم أميركا بموعد أو قرار ضربتها، ما هي إلا جزء من الحرب النفسيّة الغبيّة التي بات الموساد خبيراً فيها (أي الغبيّة). إنّ أميركا ستصرّ على إعلامها بقرار إسرائيل، ومن المستبعد أن تقوم إسرائيل باتخاذ قرار دون تنسيق مع أميركا ودون إذنها. إنّ عواقب أي ضربة ضد إيران ستصيب المصالح الأميركيّة في الشرق الأوسط (من المغرب إلى أفغانستان) بالأذى والضرر. والقيادة العسكريّة الأميركيّة عارضت الضربة منذ عهد بوش، وهي لا تزال تعارضها لأنّ القوات الأميركيّة لا تزال منتشرة في المنطقة العربيّة. حتى بوش يعترف في كتابه بأنّه عارضها في سنوات حكمه، خشية العواقب وعدم الفاعليّة.
لكن لأميركا أيضاً موانع متعددة، منها: 1) نحن في سنة انتخابيّة، وشروط السنة الانتخابيّة هي في التجنّب المطلق لأي مغامرات عسكريّة، خصوصاً إذا لم تكن محسوبة العواقب، وذات مضاعفات عالميّة، سياسيّاً واقتصاديّاً. من المستبعد أن يقوم أوباما بأي عمل حربي، وخصوصاً أنّ الرأي العام الأميركي لا يشارك الرأي العام الإسرائيلي هلعه. والمردود الانتخابي لأي ضربة ضئيل، لأنّ الناخبين اليهود يؤيّدون الحزب الديموقراطي في أي حال، مهما كانت التحفظّات.
2) إنّ الوضع الاقتصادي الهشّ لا يسمح بأي عمل عسكري لا يحتمل المحدوديّة والعمليّات «الجراحيّة» التي كانت إسرائيل تزهو بها في الماضي. أكثر من ذلك، إن أوباما حذّر في خطابه الطويل أمام منظمة «إيباك» من تأثير الحديث، مجرّد الحديث، عن الحرب ارتفاعاً لأسعار النفط. والناخب الأميركي مهووس بأسعار الوقود، وأي ارتفاع في الأسعار ينقص حظوظ أي رئيس في إعادة انتخابه (هناك نظريّة تقول إنّ الحكم السعودي يقوم بإنتاج المزيد من النفط في سنة إعادة الانتخاب الرئاسيّة في أميركا من أجل خدمة الرئيس). واندلاع الحرب في منطقة الخليج سيلحق الضرر الكبير بالاقتصاد العالمي، حين تعمل كل حكومات العالم على الإدارة الدقيقة لإصلاح الاقتصاد. والحرب، إذا اندلعت، تقضي على أي أمل أميركي بانتعاش الاقتصاد. 3) تخشى القيادة العسكريّة الأميركيّة من ردود فعل إيرانيّة ضد المصالح الأميركيّة، خصوصاً في منطقة الخليج وأفغانستان. كما أنّ القيادة العسكريّة الأميركيّة تعلم أنّ تأزم الصراع العربي ــ الإسرائيلي يؤذي القوات الأميركيّة المنتشرة. 4) إنّ التقييمات الاستخباريّة الدوريّة في أميركا بشأن السلاح النووي الإيراني في 2007 و2011 توصّلت إلى خلاصة مفادها ليس فقط أنّ إيران لا تملك سلاحاً نوويّاً (وهذا ما أكّدته تقارير وكالة الطاقة الدوليّة التي لحظت أسراراً في المحطات النوويّة وتجارب على الكومبيوتر)، بل أنّها تخلّت عن هذا الخيار. لا تريد إسرائيل أبداً تعزيز هذا التقييم، وهذا يفسّر كيف تغاضت الصحف الأميركيّة الصهيونيّة عن إعطائه الأهميّة التي يستحق. 5) لا ترى أميركا في السلاح النووي الإيراني تهديداً لمصالحها الحيويّة. ماذا تفعل إيران بخمسة رؤوس نوويّة فيما يبلغ تعداد الترسانة النوويّة الأميركيّة بضعة آلاف من الرؤوس النوويّة، مع أنظمة توصيل متعدّدة؟ تحاول إسرائيل التعامل مع هذا العامل عبر اختلاق الأكاذيب عن قدرة (ورغبة) إيران في ضرب أميركا، وكأنّ الانتحار سمة من سمات السياسة الخارجيّة الإيرانيّة. 6) إنّ الكلام التهويلي والتصعيدي الصادر عن المرشحين الجمهوريّين يدخل في حيّز المزايدات الصهيونيّة التي اعتادها الجمهور الأميركي. ومن المستبعد أن يقوم الرئيس الجديد، لو كان جمهوريّاً، بضرب إيران للأسباب المذكورة إعلاه (وأدناه). 7) لم تدخل الولايات المتحدة في حرب مع إيران منذ انتصار الثورة الإيرانيّة، بالرغم من الخلافات والصراعات. وتعلم أميركا أنّ الصراع أو الحرب مع إيران له ذاكرة طويلة جداً: لم ينس الشعب الإيراني ما فعلته أميركا في عملية «أجاكس» عندما فبركت الـ«سي.آي.إي» الانقلاب على حكومة محمد مصدّق. 8) تدرك أميركا أنّ حكومات الخليج مصابة بالذعر من سيناريوهات الحرب، وليس ذلك بسبب عدم التعاطف مع الصهيونيّة، وهذا التعاطف من شيم ملوك النفط والغاز وأمرائهما، بل لأنّ الحكومات تخشى ضربات على مدنها في جملة الردود الإيرانيّة على الضربة الإسرائيليّة أو الأميركيّة. وقد هدّدت إيران بضرب القواعد الأميركيّة في منطقة الخليج، إن هي تعرّضت هي لضربة. 9) تستطيع أميركا أن تتعايش مع سلاح نووي إيراني، كما تعايشت مع السلاح النووي الباكستاني. 10) سيحاول أوباما تأجيل أيّ قرار إسرائيلي بانتظار إعادة انتخابه (المأمولة من قبله)، وذلك كي يتمتّع بمزيد من الحريّة في اتخاذ القرار، ومن دون الوقوع تحت تأثير جماعات الضغط الصهيونيّة. 11) لم تنته مفاعيل حرب العراق بعد، ولا انتهت مفاعيل الحرب في أفغانستان. من المستبعد جداً أن تقوم أميركا بالدخول في حرب مع أعتى أعدائها في منطقة الشرق الأوسط. وقد قال وزير الدفاع الأميركي السابق، روبرت غيتس، في خطبة له في كليّة «وست بوينت» العسكريّة، قبل عامين، إنّ أيّ رئيس أميركي مقبل، سيفكّر في شن حرب على دولة في الشرق الأوسط، سيحتاج إلى فحص في قواه العقليّة. لا بوادر على مرض عقلي يعانيه أوباما.
إنّ التهويل الإسرائيلي والأميركي سيستمرّ وسيزداد في سنة المزايدات الانتخابيّة. الإعلام الصهيوني والسعودي (والحريري الذيلي) سيسر بنقل التهديدات والتهويل، لكن إطالة أمد التهديد ستقلل من جديّة التهديدات. والحكومة الإيرانيّة تتمهّل في التعاطي مع الموضوع، وإن كان فارس سعيد يربط بين سرقات في شوارع بيروت، ونيّة إيران في إغلاق مضيق هرمز. لكن كل هذه الموانع لا تمنع في المطلق احتمال اندلاع الحرب. لم يكن النظام الناصري في وارد البدء بالحرب في 1967، لكن العدوّ كان مصمّماً. قد تتصاعد التهديدات ووتيرة الحرب النفسيّة إلى درجة تؤدّي إلى التهوّر. إنّ تشديد العقوبات على إيران إلى درجة تمنع الحكومة الإيرانيّة من القيام بمعاملات تجاريّة مع بنوك مركزيّة وعاديّة في بلدان مختلفة، دليل على انعدام الخيار العسكري، وهو عنوان للمحاولات الأميركيّة لإرضاء دولة العدوّ.
لكن التهديدات الإسرائيليّة ستستمرّ. ودول الخليج ما حادت عن مسارها التاريخي. كانت ضد الحكومتيْن المصريّة والسوريّة في حرب 1967، وأنهكت الجيش المصري في حرب اليمن خدمة لإسرائيل (وقد وصلت أسلحة إسرائيليّة إلى السعوديّة، كي تلقي بها في أحضان الطرف الرجعي الملكي، خلال الحرب في الستينات). ودول الخليج تساهم في الحملة الإسرائيليّة الدعائيّة، بالنيابة عن إسرائيل نفسها. باتت الترسانة النوويّة والبيولوجية والكيميائيّة للعدوّ سرّاً من الأسرار في عرف الصحافة العربيّة التي لا تتناوله أبداً. يشعر ملوك النفظ والغاز، وأمراؤهما، براحة في وجود الأسلحة الإسرائيليّة. يظنّون أنّها قد تحميهم من شعوبهم، لكنّها لم تحم حليف الصهيونيّة الأوثق، حسني مبارك.
لن يطول المقام للكيان الغاصب بيننا، مهما كدّست إسرائيل من أسلحة ضدّنا. زوالها حتمي بوجود قنبلة نووية إيرانيّة أو من دونها. وإذا كان الرفيق عامر محسن قد حدّثكم قبل أشهر عن حب العرب للقنبلة، فلنتحدّث غداً عن حبّ العرب للعداء لإسرائيل. لكن هذا حديث يطول.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)