هل ما يجري في دول «الربيع العربي» تحوّل ديموقراطي أم استغلال لشعار الديموقراطية، كما حدث في الحقبة الماضية مع فكرة الاشتراكية والقومية؟ وهل الأزمة أزمة نخب، أم شعوب، أم كلا الأمرين؟ هناك حقيقة ثابتة حتى اليوم، هي أنّ الشعوب العربية هي الأفقر في القراءة وتحصيل المعرفة، رغم ثورة الاتصالات والمعلومات. فهل مرد ذلك إلى النخب المتحكمة بها، أم لموروثها الشفاهي، القائم بمعظمه على فكرة «رُفعت الأقلام وجفت الصحف»، فغلَبت ثقافة النقل وتوسيع الهوامش على ثقافة الإبداع والخلق؟
يرى البعض أنّ مسؤولية تأخرنا الحضاري تقع على كاهل الأنظمة السياسية الحاكمة، لكن هل يكفي تحميل تأخر حضاري تجاوز الألف عام، لأنظمة أتت حديثاً؟ صحيح انّ هذه النظم فشلت في تحقيق مشروعها الوطني، في التنمية الاقتصادية والحرية السياسية، إضافة إلى فشلها في حلّ القضية الفلسطينية، التي استحضرت مقولة «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، مكرسةً الاستبداد السياسي والثقافي. ادى ذلك إلى انسحابها من الشارع إثر هزائمها المتتالية، فانكفأت على ذاتها لتعيد إنتاج تسلطها بدلاً من مشاركة الآخرين في عملية الدفاع والبناء، فهيمنت على الدولة والمجتمع. لكن هذا ليس إلا جزءاً من الحقيقة، لأنّ أزمة عالمنا العربي مرتبطة بإشكاليات عدّة، تتداخل في ما بينها. من بين تلك الإشكاليات سياسات الغرب الكولونيالي التي قسمت البلاد العربية، وذلك بفصل الكتلة البشرية عن الثروة، منعاً لقيام دولة أو دول قوية. فالملك فيصل كان قد وافق على إنشاء كيان يهودي في فلسطين، مقابل أن تعترف به بريطانيا وفرنسا ملكاً على العرب! لكن ما حدث جاء بعكس رغبة الملك، ففي اجتماع «علي بابا والأربعين حرامي» الذي حضره لورنس العرب تم خلق دولة الأردن، لتكون بديلاً للفلسطينيين، بينما تذهب فلسطين إلى اليهود. أما الملك، فقد اكتفى بعرش العراق بعد هزيمة ميسلون.
هذا التقسيم الذي تم تفصيله على مقاس الدول الأوروبية المستعمرة، لم يعد يلبّي حاجات الأميركيين الساعين إلى شرق أوسط جديد، يعاد تشكيله بنظرية الفوضى الخلّاقة، والتي بدأت ملامحها مع سيناريو الربيع العربي. سيناريو يهدف إلى تمكين «الإسلام الديموقراطي» من السلطة مقابل الإقرار بيهودية إسرائيل، من جهة، ومن جهة أخرى إلى تجميع هذا الإسلام «اللا ــ قاعدي» (نسبة إلى تنظيم القاعدة) لمواجهة المشروع الإيراني على خلفية مذهبية مستترة. ولا يمكن لهذا المشروع النجاح إلا بسقوط النظام في سوريا. غير أنّ هذا الأخير، استطاع امتصاص الهجمة الإعلامية والاقتصادية والدبلوماسية عليه، كاشفاً ارتباك السياسات الخليجية والغربية معطوفاً عليها الجامعة العربية، فكانت قراراتها المنفعلة والمتسرعة تزيد من تماسكه. فلو كان الأشقاء والغرب، جادين بتحقيق الإصلاحات التي أعلنها الرئيس بشار الأسد، لضغطوا على الروسي والصيني لتحقيق هذه الإصلاحات. لكن السعي الفرنسي والأميركي المحموم إلى إصدار قرار يجيز التدخل العسكري، جعل قطاعات كبيرة من الشعب السوري تقف ضد هذه السياسات. أما الحديث عن حماية الثورة والمدنيين، فيدخل في إطار الهبل الفكري، لأنّ الجميع يدرك أنّ المناخ السياسي في سوريا تتنازعه ثلاثة اتجاهات. الأول مؤيد للنظام حتى النهاية، والثاني مع إجراء إصلاح يترافق مع تغيير سلس للنظام، دون الدخول في مغامرات دولية، قد تفضي إلى حرب أهلية. أما الثالث فيريد الخلاص من هذا النظام بأي طريقة كانت، حتى لو أتت الشياطين. بعد كل هذا يصبح الحديث عن استمرار سلمية الثورة مزحة لا يمكن تقبلها.
الإشكالية الثانية هي ارتهان «الأنظمة الوطنية» لهذا الغرب الكولونيالي، لأسباب تتعلق باستقرارها وبقائها في الحكم، لكونها أنظمة غير منتخبة. ففي الوقت الذي يدعم فيه الغرب الرأسمالي هذه النظم، يقوم باحتضان قيادات معارضة يغلب عليها الطابع الإسلامي. قيادات يتم تجهيزها كبديل إذا اقتضت الضرورة، منتهجاً مبدأ سياسة «فرق تسد»، ليبقى الجميع بحاجة إليه وتحت سيطرته، وذلك منعاً من تشَكل دول قوية ومؤثرة، في منطقة جيو ــ استراتيجية تؤمّن مصالحه. وكمثال تاريخي، يكفي أن نعرف أنّ شركة قناة السويس الإنكليزية قد قدمت هبة مالية لحسن البنا، دعماً له في نشاطه الخيري ومشروعه الإسلامي! إذ إنّ بريطانيا كانت تدرك أنّ من شأن إظهار أحزاب دينية سياسية توفر لها الدعم اللوجستي، أن تكون طرفاً صدامياً مع القوى الوطنية، وعامل خلاف وفرقة، نظراً لتركيبتها الدينية المغلقة.
الإشكالية الثالثة تتعلق بالحامل الإيديولوجي للأحزاب السياسية، والذي يغلب عليه طابع الشمولية، إذ يصبح قبول كلّ حزب بالآخر أمراً في غاية الصعوبة، وإذا تحالفت في ما بينها تبقى إمكانية المشاركة الحقيقية متعذرة، إذ لا يكفي الإجماع على محاربة السلطة في ظل غياب ثقافة سياسية تفعّل المشترك وتهمّش الخلافي، فالأجنبي الوصي والنظم الحاكمة، كثيراً ما برعا في اللعب على تناقضات المعارضة الساعية إلى الحكم، وهو ما يحدث حتى الآن.
تتضمن الإشكالية الرابعة فشل النخب الثقافية والدينية تحديداً، في بلورة مشروع إسلامي متحضر، يحقق القطيعة المعرفية مع كلّ القراءات الكلاسيكية للنص، ويقوم على قبول الآخر ورفض الإكراه، كي يكون بديلاً عن الخطاب العنيف والمهيمن على المجتمعات العربية والإسلامية. وما لم ينجز هذا القطع، يبقى الحامل الثقافي للطبقة الوسطى رخواً، يحول دون إتمام انقسامها الأفقي. من هنا يصبح الحديث عن الثورات العربية في غير مكانه، ولعل استخدام كلمة احتجاج أو حراك أقرب للحقيقة من كلمة ثورة.
في ضوء ما تقدم وبدافع الحرص على أن يصل الحراك الشعبي إلى نتائجه، على شباب التغيير ألّا ينساق مع الخطاب التبشيري، الذي يدعو إليه الإسلام السياسي وبعض اليسار المتأمرك. يسار يتحرك تحت مظلة الناتو، فيكون أفراده حصان طروادة من حيث لا يحتسبون، كما حدث في ليبيا!
* كاتب سوري