سيكتب التاريخ الكثير عن هذه المرحلة التي نعيشها منذ خمس سنوات ولا ندري متى أو كيف ستنتهي. مرحلة فجّرت في وجوهنا كل الأسئلة دفعة واحدة ومن دون مواربة. فجّرت سؤال الهوية والتراث والميراث والدين والطائفة والوطن والدكتاتوريات، ومعنى التغيير والانتماء والالتزام. مرحلة وضعت فيها قيم ومبادئ وأخلاقيات المجتمع والفرد على حد سواء على المحك. مرحلة غاب عنها اللون الرمادي وصارت المواقف كحد السيف إما أبيض وإما أسود. لهذا فإن مؤرخ هذه المرحلة لا بد وأن يقف مطولاً أمام المثقف العربي ويتساءل حول طبيعة دوره ومكانته وفحوى إنتاجه ومرتكزات خطابه وطبيعة التزامه وآليات عمله وتأثيره في هذه المرحلة التي يبدو أنها عبور إلى ما هو مختلف تماماً.
سيتساءل التاريخ: كيف يمكن للمثقف أن لا يكون ثورياً في زمن الانحدار والانهيارات الكبرى؟ ما هو سر هدوئه ومن أين أتى بكل هذا البرود في وقت يجلس فيه الوطن من أقصاه إلى أقصاه على صفيح ملتهب؟ من أين له القدرة على ممارسة جدل الصالونات الثقافية بينما البلاد تتسرب من بين أصابعه كالرمال؟ كيف تجرأ حين رأى التاريخ يحطم بمعاول الجهل في الموصل وتدمر، أن يطل علينا عبر الفضائيات أنيقاً هادئاً؟ لماذا لم يخرج إلى الشوارع يصرخ كالمجنون؟ هل انتهى زمن الشارع بالنسبة له؟ كيف حدث أن قفز المثقف العربي هذه القفزة من الشارع إلى المكتب الزجاجي؟ كيف صار نخبوي الخطاب والسلوك وغادر الفعل السياسي والنقابي؟ كيف تحوّل من مثقف فاعل إلى مجرد «مشتغل بالثقافة»؟ منذ متى أصبح المثقف العربي رهينة السياسي؟ من الذي انتزع فتيل التمرد من خطابه وإنتاجه وحوّله لمجرد مصلح اجتماعي في أحسن أحواله؟ أي سياق تاريخي هذا الذي أنتج مثقفاً يشارك في تشويه الوعي وتزييفه بدلاً من تصويبه؟
هل لدينا الوقت وسط كل هذا الحطام لنستعين بالسوسيولوجيا والاقتصاد والسياسة كي نفسر ونحلل ونجيب عن هذه الأسئلة؟ أم علينا أن نكتب في مثقف اليوم مرثية؟ فمهما كان التفسير، لن يمنحه حق التبرير.
هنالك إدراك بأن مجمل الحالة العربية بمكوناتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية قد عبرت قبل حوالى أربعة عقود، من زمن إلى زمن آخر مختلف تماماً، تم فيه إعادة صياغة المجتمع العربي على أسس جديدة. فبعدما ركضت هذه الأمة نحو حلم جماعي آنذاك، استيقظت فجأة لتجد نفسها كأنها قفزت في فراغ. وهو الفراغ الذي بات عنوان هذه التحولات وهذا المجتمع المصاغ من جديد. وأي محاولة لفهم حالة المثقف اليوم تبقى ناقصة من دون تتبع هذا السياق التاريخي.
المشهد الثقافي العربي، لم يكن بمنأى عن هذه التحولات. بل بدأ منذ وقت مبكر بالتشكل وفق المشهد السياسي والاقتصادي الوليد، يتأثر بهما من دون أن يؤثر، لدرجة أصبحنا اليوم أمام نوع من المثقفين قد تجاوز كل التوقعات والتحليلات بل تجاوز الخيال في انحداره وتقبله لما يحصل من تشوهات، حتى بات الآن من أدوات تعميقها وتسويقها للإنسان العربي.
أبرز ملامح المرحلة التي دخلها العرب قبل عقود أربعة، تمثلت في ضعف وتراجع الرابط السياسي والمعنوي المشترك بينهم، وانهيار الحلم الجماعي الذي طالما شكل منطلقاً للفكر والسلوك. وتحول العلاقة مع الغرب من خندق المواجهة إلى ساحات المصالح والمصالحة والتعاون. وتراجع كثيراً حتى اختفى ذلك الخطاب السياسي الذي يربط بين التنمية العربية والهيمنة الغربية. وساد عصر الانفتاح والخصخصة على حساب القطاع العام، وتوسع دور البنك الدولي وانتشرت وتوسعت ثقافة السوق، حتى باتت هذه العناصر هي مرتكزات التنمية الجديدة. وتم التزاوج بين السياسية ورأس المال في أسوأ صوره، فأفرز لنا تشوهات طبقية واجتماعية لا تخفى على أحد.
في خضم كل هذه التحولات كان قد حدث الأهم والأخطر وهو سقوط حجر الزاوية الرئيسي في الخطاب السياسي والثقافي العربي المتمثل في «العداء لإسرائيل». لم تعد إسرائيل العدو الأول والمشترك للعرب، خاصة بعدما هدأت عاصفة المقاطعة العربية لمصر السادات بعد توقيعه اتفاقية «كامب ديفيد». ومع هذه الخطوة الساداتية بدأ الثقل يذهب إلى «الدولة القطرية» بالدرجة الأولى. وقد جاءت حرب الخليج الأولى لتجعل من الدولة القطرية ومصالحها المحدد والمبرر لأي سياسة. وهذه الدولة بعدما انهارت «الشرعية الثورية» التي كانت تستند إليها، وبعد فشل التنمية الجديدة مبكراً، أصبحت مجرد «نظام سياسي» كل همة البقاء بذاته من دون أي مشروع سياسي، وهو ما أنتج «الدولة البوليسية» بكل معنى الكلمة.
المثقف العربي الذي نحن أمامه اليوم هو وليد هذا السياق، وخطابه الثقافي الحالي خال من تلك العناوين التي كانت من أهم مرتكزاته.

كيف حدث السقوط؟
تبيّن أن مصر السادات لم تكن الوحيدة الراغبة في الاندماج في النظام الأميركي والمصالحة مع إسرائيل، وإنما فقط كانت الأكثر جرأة، وهو ما وفر الفرصة للبقية الراغبة الجبانة. وهذا التحول نحو العصر الأميركي ــ الإسرائيلي وثقافة السوق والحياة يوماً بيوم دون مشروع أو هدف، لم يكن من الممكن أن يتعمق من دون هدم الوعي القديم وإعادة تشكيل الذهنية والنفسية العربية على أسس تقبل هذا العصر. وهنا رويداً رويداً تم تغييب المثقف «باني الوعي» واستولاد المثقف «كاسح الوعي».
هذا المثقف استولدته ورعته الدول التي قادت التحول نحو العصر الجديد بالأساس، وجاء نتاجاً للتحولات السوسيولوجية والاقتصادية المذكورة سابقاً التي أدت إلى تفكيك البنية المؤسساتية التقليدية والحاضنة «للمثقف الفاعل»، وعلى أنقاضها اجتاحتنا المؤسسات الأهلية والمنظمات الدولية، فأنتجوا لنا بقصد وسابق تخطيط، مثقفاً نخبوياً على صعيد الخطاب، استعلائياً تجاه الشارع، من البرجوازية العليا على صعيد الطبقة، جباناً تجاه الالتزام، يشتغل بالثقافة أكثر مما ينتج معرفة، كما يشتغل بقضايا مجتمعه بدل الالتصاق بها والدفاع عنها.
يستحضرني هنا موضوع الفقر في البلاد العربية، أو الإفقار بكلمة أكثر دقة. «مثقف العصر الأميركي» حوّل هذه القضية إلى مجال نظري بحت، وذلك بانخراطه في شبكة من المؤتمرات والندوات والبحوث والدراسات الممولة والموجهة، ومن دون أدنى جهد لمحاولة الانخراط العملي «الفعال» لمواجهته. هذا المثقف بات كالببغاء يردد على مسامعنا كل يوم مصطلحات ومفاهيم براقة كحقوق الإنسان والديموقراطية، من دون تفكيك ونقد ومن دون وضعها في سياقها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. هذا المثقف بات جسراً للتطبيع واستدخال الهزيمة باسم تلك المفاهيم. إنه مثقف علماني في النهار طائفي في المساء، حسب المكان والظروف. مثقف أسس بجدارة «ثقافة الوهم».
كيف تحوّل من مثقف فاعل إلى مجرد «مشتغل بالثقافة»؟

هذا الوهم الذي أسسه المثقف تحول إلى كارثة ثقافية بكل معنى الكلمة بعد حرب الخليج وخاصة الثانية. بعد هذه الحرب انتقل الثقل السياسي في النظام العربي إلى دول الخليج، وترافق ذلك مع «طفرة تكنولوجية إعلامية» إلى جانب المال المتوافر أصلاً. بهذه العناصر الثلاثة: المال والإعلام والتحكم بالقرار السياسي، بات الخليج اليوم يتحكم بمعظم المشهد الثقافي والأدبي العربي. وبعدما كان كل من مصر ولبنان مركز وثقل الإنتاج الأدبي والفكري والإعلامي، باتت دول الخليج الآن هي المركز. فهل لنا أن نتخيل معنى أن يكون القرار السياسي والمشهد الثقافي العربي بيد دول لم تمتلك يوماً مشروعاً سياسياً ولم تؤسس لفكر أو تنتج ثقافة على طول تاريخها؟
ربما «المفكر الكبير» عزمي بشارة يصلح هنا كرمز وملخص مكثف لهذا التحوّل. فقد صار النموذج لكل من يريد الهرولة والسقوط أمام المال. بشارة ليس فرداً أو حالة وإنما الآن هو عنوان لظاهرة الانحدار الثقافي العربي. هذا المفكر الذي مثل نموذجاً لجيلي وكان بشخصه وفكره إجابة عن كثير من أسئلتنا كسؤال الهوية ومعنى المثقف والتغيير، فهو المسيحي العروبي، وغزير الإنتاج الفكري والمنخرط بالعمل السياسي. اليساري المناصر لقضايا التحرر والحالم بوطن عربي عصري علماني. حتى من اختلفوا معه تاريخياً وخاصة في قضية وجوده في «الكنيست» لا ينكرون أنه صاحب فكر وكان الأكثر مهارة وعمقاً في مواجهة ومقارعة الرواية الإسرائيلية. لا أدري هذا المفكر كيف له اليوم أن يحقق أحلامه هذه من وسط بيئة لم تنتصر يوماً لأكثر قضايا التحرر عدالة وقربا منها، فكيف بالقضايا العالمية؟ وبأي منطق ما زال يتحدث عن الثورة والديموقراطية وهو يعيش على «خيرات» أنظمة تنتمي للقرون الوسطى؟ كيف يمكنه أن يدافع عن العروبة ويحارب الطائفية من بلاد هي أول من رأت في القومية تهديد لوجودها، فصدرت لنا هذا الفكر المتطرف؟
كان من الممكن بالأمس أن ننظر إلى حالة المثقف العربي الذي نحن أمامه والمسيطر على المشهد الثقافي والإعلامي بعيون الخيبة، ولكن اليوم لا نملك إلا الغضب والازدراء له. فالمواجهة باتت ثقافية بالدرجة الأولى وتمس ماهية الإنسان العربي ووعيه قبل أمنه وحياته ورغيف خبزه. مواجهة ثقافية أداتها الأساسية الإعلام، وعراب هذا الإعلام هو المثقف الذي رضي في هذه المرحلة التاريخية أن يخون دوره ومسؤولياته وأن يصير «كاسحاً للوعي» بجدارة. هذا المثقف وضع الفكر عموماً في أزمة، حيث من المعروف في تعريفات «المثقف» أنه لا يختار دوره في التغيير والانخراط في القضايا العامة اختياراً، وإنما حالة الوعي والمعرفة لديه يدفعانه بالطبيعة لهذا الدور. فكيف معرفة المثقف العربي الذي نحن أمامه لا تدفعه إلى ذلك؟... هل المال أقوى من الوعي؟

* صحافي وكاتب فلسطيني