"اليوم، ينتج الفردانيون "المحايدون سياسياً" قيماً في أعمالهم الفنية، يقوم السياسيون في ما بعد باستيعابها واستخدامها واخضاعها لغاياتهم. والنتيجة هي أن الثورية الفنية قد تحوّلت الى ايديولوجيا ليبرالية شرسة" ــــ سيرج غيبو
إثر رحيل المعمارية العراقية زها حديد، دخلت مع الزميل أسعد ابوخليل في نقاش ــــ بين هواة ــــ حول إرثها وأعمالها. اكتشفت سريعاً أننا نتكلّم بمنطقين مختلفين، اذ كان أسعد يقارب ويقيّم كلّ تصميم لحديد أو منافسيها كأنه عملٌ فنّي ــــ أو لوحة ــــ "هذا يعجبني، هذا لا يعجبني". وللحقّ فإنّ هذه النظرة الى الهندسة المعمارية قد روّج لها الإعلام، على مدى السنوات الماضية، مع تزايد الإهتمام الشعبي بالهندسة والتصميم، خاصّة مع دخولنا، في المعمار، عصر "ما بعد الحداثة": عصر المعماريين "النجوم" والتصاميم المبهرة. الممثّل الأميركي الشهير براد بيت، مثلاً، وهو معروفٌ بشغفه بالمعمار، يصف التصميم الهندسي بأنه كأي عملٌ فنّي آخر، مع فارق انّه ثلاثي الأبعاد، ويمكنك تأمّله "من داخله". وحين بدأت باكتشاف الهندسة المعمارية ونظرياتها، كان من الطبيعي أن تجذبني التصاميم الجريئة للجيل الجديد من "النجوم"، وأن أقرأ ريم كولهاس، وأعتبر زها حديد المثال الأعلى للهندسة التفكيكية؛ وأنّ أؤمن (كأكثر من تشكّلت ذائقته في العهد النيوليبرالي، ويلاحق مفهوم الـ "كوول" من خلاله) أنّ الهندسة "ما بعد حداثية"، التي تعد بكسر مسلّمات العمارة، وابتداع مفاهيم جديدة للمساحة والمعاش، وتحرير الناس من فوقية ورتابة التصميم الحداثي، هي الطريقة الوحيدة للتصميم. المشكلة هنا هي ليست في النّظر الى الهندسة المعمارية على أنّها فنّ، وهي كذلك بالفعل، بل في مقاربتها من منظورٍ رجعيٍّ للفنّ، يعزله عن السياسة ويسلّم بتسليعه؛ منظورٌ يستمدّ الفنّ فيه قيمته، حصراً، من التّجربة الآنية ("المتعة الفائقة" بتعبير رولان بارت) والجماليات المجرّدة، والشكل الخارجي، وهذه أهمّ صفات الهندسة الجديدة. هذا ما يعبّر عنه دايفيد هارفي حين يقول إنّ "ما بعد الحداثة لا تقدر على تقييم عملٍ الّا بمقدار ما هو مدهش" (ولمن ينبهر بعملٍ لأنّه جديدٌ أو مختلف أو "مدهش"، هل يعرف كم تتغير الجماليات والذائقة مع الزمن؟ وكم تبدو الأعمال المبكرة في مدرسة ما بعد الحداثة ــــ كبرج "اي تي اند تي" في نيويورك ــــ اليوم قديمة ومتعبة وبليدة؟).
تجدر الإشارة هنا الى أنّ النّقد ما هو الّا علامة احترامٍ للمعمارية الرّاحلة، واعترافٍ بموهبتها وتأثيرها، وهو أساساً نقدٌ لسياقها وزمنها. لو جاءت زها حديد قبل قرن مثلاً، وكان زملاؤها من أمثال لوكوربوزييه وفان دير رو ومجموعة الباوهاوس، لكانت صمّمت أموراً مختلفة تماماً عمّا انتجته وهي تعمل وتتنافس في سوق فرانك غيري وليبسكيند وكولهاس. هذا التوضيح ضروري لأنّ بعض الهجوم الذي جرى على حديد إثر وفاتها، ممن لا يميّز بين النقد والإسفاف (وهذا راج في ثقافة "الحوار" لدينا، التي باتت لا تتسامح فحسب مع العدائية والوقاحة، بل تعلي من شأنها وتعتبرها دليل قوّةٍ وثقة ورجولة)، والمزايدات غير المنطقية على المعمارية في النسوية والسياسة، تجبرنا ــــ كما علّق الزميل حسن الخلف ــــ أن نتذكّر أن هؤلاء جلّهم أناسٌ لا يملكون واحداً على ألفًٍ من موهبة حديد وتفانيها، والتسفيه لديهم ليس "تحطيماً لأصنام"، بل محض إشباع لنرجسيتهم وأوهام الفوقية.
الحداثة وما بعد الحداثة
يقدّم دايفيد هارفي تشبيهاً مفيداً كي نختصر ونبسّط الفرق بين عهد "الحداثة" في المعمار، الذي ازدهر في القرن التاسع عشر وقامت على أساسه المدن الغربية الحديثة وإعادة الإعمار بعد الحرب العالمية الثانية، وبين مذهب "ما بعد الحداثة"، الذي هيمن على الهندسة ابتداءً من أوائل السبعينيات (يقول هارفي إن المؤرخ شارلز جينكز يؤقّت نهاية عهد "الحداثة" والدخول الرسمي الى ما بعدها بالساعة الثالثة والنصف من بعد ظهر الخامس عشر من تموز، 1972، حين تمّ نسف مجمّع برويت ــــ ايغو السكني في سان لويس، وهو تصميمٍ شهيرٍ للو كوربوزييه، باعتباره "غير صالح للسكن البشري"). يقارب هارفي الموضوع عبر قولٍ شهير للشاعر الفرنسي بودلير من عام 1863، يصف فيه حالة الحداثة على أنّها "المتغيّر، العابر، التصادفي"، "نصفها فنٌّ، والنصف الآخر مكوّنٌ من سرمدي وثوابت". هذه المعادلة بين "العابر والمتغيّر" وبين "الثابت والأزلي" تختصر حالة الحداثة: هي حال تغيّرٍ مستمرّة، تقدّمٌ تكنولوجي و"تدمير خلّاق" يجبّ، باستمرار، ما قبله، ويغرّب الانسان عن نفسه وعن تاريخه؛ فالحداثة المتقدّمة بلا هوادة ــــ يقول هارفي ــــ لا يمكن أن تقيم وزناً لتاريخ أو لتقاليد، ولا حتى لتاريخها هي، طالما أنه سائلٌ ومتبدّلٌ باستمرار. ولكن، من جهةٍ أخرى، عملية التغيير المجنونة هذه تكتنفها نظرة تفاؤلية، واثقة، تعتبر أنّ التغيير هو "تقدّم" وأنّه، عبر العقلانية والتكنولوجيا والتخطيط، فإنّ الحداثة ـــــ فيما تدمّر المحيط التقليدي للمرء الذي اعتاده وألفه ــــ هي ايضاً تحرّره من الخرافة والتقليد، وتبني له عالماً عقلانياً فيه العدالة والرفاه، وفيه الإمكانية لـ "تحرّر" انساني حقيقي.
بهذا المعنى، حين كان لوكوربوزييه ومجايلوه (من الاتحاد السوفياتي الى بريطانيا) يجترحون تصاميم لمدنٍ ومجمّعات سكنية، فالأولوية لديهم لم تكن لتصميم المبنى، أو جماليته، بل لفكرةٍ ثورية وتغييرية عن المدينة وامكانات الهندسة. همّهم لم يكن الخروج بتصميم "مختلف"، بل في إسكان الملايين من أهل مدن الصفيح وإعطائهم مكاناً في مدينةٍ تقوم على العقلانية والمساواة (هذا من أسباب ما يعتبره البعض "فقراً" و"جموداً" في التصميم الحداثي، حيث الخطوط مستوية والزخرفة مفقودة. المهندس الحداثي يفكّر، حصراً، في وظيفة المبنى ومكانه ضمن نظرة شاملة ــــ اجتماعية ــــ عن المدينة ونظامها: ما لا وظيفة له لا مكان له).
موجة ما بعد الحداثة، في ردّ فعلٍ على ما سبقها، قامت فعلياً بإزالة الشطر الثاني من معادلة بودلير: احتفت بـ "المتغيّر" و"الزائل"، وأشهرت رفضها لكلّ ما هو "ثابت" و"كوني". لفظت المدرسة الجديدة كلّ "السرديات الكبرى" التي ساقتها الحداثة، حول العقلانية والتقدّم ومستقبل الجنس البشري، معلنة أنّ حالة التشظّي والفوضى والإغتراب هي كلّ ما نملك، والإطار الوحيد الذي نعمل من خلاله. وأنّ وعود الحداثة عن التقدّم و"منطق التاريخ"، كما أثبتت الحربان العالميتان، ما هي الّا وهمٌ ميتافيزيائي خطير، في أفضل الأحوال، وغطاء للقوة والقمع والاستعمار في أسوأها. (يتبع)