تقدم سوريا والعراق ("سوراقيا" على حد تعبير الزعيم أنطون سعادة) نموذجاً يختصر اليوم أزمات المنطقة عموماً، والعالم العربي، خصوصاً. وهي أزمات تفاقمت واستعصت حتى تحولت إلى كوارث ومآس وكوابيس بكل ما في الكلمة من معنى. فسوريا التي تخطّت مشاريع تقسيمها وتفتيتها رغم اتفاقية سايكس-بيكو وفي نطاقها (بعد هزيمة السلطنة العثمانية، ومن ثمّ انهيار تلك السلطنة "المريضة")، تواجه، اليوم، خطر خسارة وحدتها السياسية، وحتى الجغرافية، واحتمال تفككها إلى أجزاء متعددة ومتنافرة. لقد كانت أولاً، الحرب في سوريا، ومن ثُمّ الحرب عليها. هاتان الحربان أضعفتا سلطة الدولة المركزية وأزاحتاها، تباعاً، عن أكثر من ثلثي مساحة البلاد. إذ ذاك اقتصرت سلطة حكومة الرئيس بشار الأسد على "سوريا المفيدة": في المدن الساحلية والعاصمة دمشق التي عانت، جدياً، من اختراقات خطيرة في بعض ضواحيها ومعظم ريفها. ثمّ كان إنشاء "الدولة الإسلامية" (داعش) في أوائل صيف عام ٢٠١٤. وهو منعطف خطير في الصراع تضاعف باقتطاع أرض عراقية واسعة، أيضاً، سرعان ما تمّ تأمين ربطها، استراتيجياً، بالأراضي السورية، وخصوصاً، بعد السقوط المدوِّي والمشبوه والمأساوي، لثاني أكبر مدن العراق وهي الموصل! اما ثالثة الأثافي فكانت، قبل حوالى أسبوعين، وعشية بدء الجولة الراهنة لمفاوضات "جنيف٣"، وبعيد إعلان وقف إطلاق النار الجزئي (بتفاهم روسي أميركي)، بإقدام ممثلي الأطراف الكردية على مفاجأة الجميع (ليس "الكبار" فعلاً!) بإعلان كيان كُردي في سوريا فيدرالية "ينبغي" فرض قيامها ولو بشكل منفرد، أي من طرف واحد وخارج التفاوض الطبيعي (هذا أسلوب متسرع لا تبرره، لا عدالة المطالب الكردية، ولا رعونة وعدائية استبعاد ممثلي الأكراد، بضغط تركي، من المشاركة في مفاوضات جنيف٣ الحالية).
طبعاً، ليست أسباب حصول أشكال التفكك المذكورة واحدة. وهي، إلى حد بعيد، متنافرة أو غير منسقة. بعض الكيانات، المتشكل في مشاريع دويلات، خاض حروباً بينية ضارية على غرار المعارك الدموية الهائلة التي دارت بين الكرد و"داعش". بدورها المعارضة المسلحة السورية المدعومة من الخارج لم يرحم بعضها بعضاً، رغم تقارب الأهداف وتطابق مصادر الدعم والرعاية. هذا إلى سعي تنظيم "داعش"، وبأكثر الوسائل دمويّة، ولابتلاع الآخرين بنفس الأساليب الوحشية التي استخدمها ضد خصومه التقليديين، في العراق وسوريا وعلى امتداد العالم. تتداخل وتتعاكس في المشهد السوري، كما عرضنا لبعض جوانبه، مصالح، قديمة ومستجدة، محلية وإقليمية ودولية. يضفي ذلك، مما ذكرنا وَمِمَّا لم نذكر، طابعاً فريداً وشديد التعقيد على أطول وأشرس الصراعات ذات الصِّلة بـ"الربيع" العربي (الذي شكل الوسيلة التي امتطتها قوى متنوعة ومتباينة من أجل تحقيق أهداف، معظمها غير مشروع ومختزل في تعطيل دور سوريا الإقليمي، عبر كل الوسائل وأكثرها تدميراً ودموية). يشير كل ما تقدم إلى أن سوريا تواجه، جدياً، احتمالات تفتيت واقعي أو مشرعن بحكم موازين القوى أو بسبب تقاطع مصالح ومخاوف وطموحات وفئويات محلية وإقليمية ودولية.
ليس المشهد العراقي أقل خطورة وتعقيداً. الطرف الأميركي بكّر في الترويج لانقسام أو تقسيم العراق. ترعى واشنطن، منذ سنوات، الوضع الاستقلالي الذي يندفع باتجاهه رئيس الإقليم مسعود البرازاني. ليست أولوية واشنطن في العراق والمنطقة دعم حقوق الأقليات. هي استهدفت العراق وثروته ووحدته في نطاق مشروع هيمنة شرق أوسطي شامل. استخدم "المحافظون الجدد" الغزو والاحتلال لإطلاق هذا المشروع، بدءاً من العراق، وحين أخفقوا لجأ الرئيس أوباما لإستخدام "القوة الناعمة"، ودائماً للهدف نفسه. وليست الولايات المتحدة وحدها من يسعى إلى احتواء العراق من خلال تفتيته. هناك الدور الإسرائيلي الذي لم يتوقف يوماً عن استهداف بلاد الرافدين وعناصر قوتها وتأثيرها الإقليمي. لكن ثمة أيضاً اللاعب الخليجي الذي يحاول أن يقتطع لنفسه حصة هي اليوم، عموماً، الحصة التي يسيطر عليها تنظيم "داعش" الإرهابي. خريطة الانقسام السياسية، ذات الأبعاد الإتنية والمذهبية المعقودة، أيضاً، على التنافس الإقليمي المعبر عنه بـ"حشود" ناشطة وأخرى قيد الإعداد، ليست خافية على أحد. ثمة مناطق متنازع عليها، هنا وهناك، ستتكفل موازين القوى أو التفاهمات السرية أو العلنية بمعالجة أمرها سلماً أو حرباً (وغالباً بدماء ابناء العراق وعلى حساب مصالح وطنهم).
في ما بين العراق وسوريا، اللتين حكمهما حزب واحد، يتخذ من الوحدة أولوية شعاراتية هادرة، لم يقم إلا التناقض والتنافس والشقاق. النفوذ الإيراني الناشط والمتنامي في البلدين، وخصوصاً في مرحلة ما بعد الغزو الأميركي عام
٢٠٠٣، لم يستطع أن يشكل عامل توحيد لأنه استند إلى الانقسام المجتمعي وليس إلى عملية تخطيه أو التقليل من شأنه. الحضور الأميركي "العائد" هنا وهناك يتوسل التفتيت، راهناً، كما لاحظنا من قبل. اما الدور الروسي، فرغم صعوده المتواصل، إلا أنه لا يملك من النفوذ الكافي، حتى الآن، ما يمكنه من لعب دور حاسم لمصلحة وحدة البلدين فيما لو تطلبت مصلحته ذلك.
لو عدنا إلى كلٍ من سوريا والعراق على حدة، لوجدنا أن دينامية المحافظة على ما تبقى من التوحد والقدرة على استعادة الوحدة، تصبح أضعف باستمرار. لا يمكن أن نتحدث هنا عن واقع الوحدة وما يتهددها وإمكانية المحافظة على ما تبقى منها (ناهيك عن استعادة ما كان قائماً من قبل)، من دون أن نأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الهائلة التي حصلت وتحصل في المنطقة: منذ احتلال بغداد وتنصيب "بريمر" حاكماً عليها قبل ١٣ سنة، إلى احتلال "الرقة" والموصل وتنصيب "البغدادي" "خليفة" عليهما قبل حوالى سنتين، وصولاً إلى إعلان "الفيدرالية" الكردية قبل أسبوعين...
لا يعني كل ما تقدّم أن التفتيت وتقسيم المقسّم أصبح واقعاً مفروضاً لا رادّ له أو لا يمكن فعل شيء في مواجهته. لكن ينبغي الاعتراف بأن مسار الأمور الراهن لا يسير بما يلائم المصالح العربية مجتمعة أو وفق مصلحة كل بلد عربي منفرداً. ينبغي الاعتراف، أيضاً، قبل ذلك وبعده، بأن مصادر الخطر، على وحدة بلداننا وشعوبنا وعلى مصالحنا، متعددة، لكن من بين أكبرها وأخطرها انقساماتنا وفئوياتنا الداخلية. وهي انقسامات بلغت مستوى من الحدة والتنابذ غير مسبوق، كما أنها تُستخدم على أوسع نطاق من قبل القوى الاستعمارية والصهيونية لتحقيق أهدافها في الهيمنة والنيل من المصالح والحقوق العربية.
لا يمكن لنا أن نواصل المسار التدميري الراهن ممعنين في العلاقات والتوجهات والرهانات القاتلة والأخطاء نفسها (ومنها في مسائل حقوق الإنسان وحقوق الأقليات وتسييس الدين والمذاهب والتبعية..) التي قادت إلى ما نحن فيه من انحدار ودمار. لن تقدم لنا مفاوضات جنيف الراهنة وسواها سوى ما يقرره اللاعبون الكبار من تسويات مفصلة على قياس مصالحهم لا على قياس حاجاتنا القريبة والبعيدة.
من يتخذ الخطوة الأولى؟ من يغير "ما بنفسه" أولاً؟ من يرغمنا على التخلُص من أخطائنا وفئوياتنا القاتلة؟!

*كاتب وسياسي لبناني