تركيا: «البوابة الشرقية» (2)

  • 0
  • ض
  • ض

في بداية العشرينيات، وبينما كان كمال أتاتورك يخوض "حرب الاستقلال"، والجمهورية التركية تواجَه بعزلٍ غربي في كل المجالات، قرّر فلاديمير لينين أن يمدّ الحركة الكمالية بـ "حبل انقاذ" عبر حزمة قروضٍ ومساعداتٍ ضخمة، كان لها أثرٌ مباشر على نجاح معركة الاستقلال وبناء الدولة بعد الحرب. تختلف التقديرات حول حجم المساعدات والقروض الروسيّة (كان لينين يقود "الجمهورية الروسية السوفياتية الاتحادية الاشتراكية " يومذاك، ولم يكن هناك "اتحاد سوفياتي" بعد) التي لم يتمّ حصرها في رقمٍ واحد سواء في الأرشيفات التركية أو الروسية؛ الا انه يبدو أن لينين قد وعد الأتراك بدعمٍ يوازي خمسين مليون روبل ذهباً، اضافة الى مساعدات عسكرية وعينية وفنية. في كتابه عن السياسة السوفياتية في تركيا، ينقل بولنت غوكاي عن تقريرٍ للاستخبارات البريطانية أن حكومة أتاتورك قد استلمت، بين آذار 1920 وتشرين الأول 1921، المبالغ التالية من موسكو: "20 رطلاً من الذهب كدفعة أولى من قرضٍ قيمته 50 مليون روبل ذهبي في تموز 1920، 2 مليون روبل ذهبي في تشرين الثاني 1920، 40 مليون روبل ذهبي اضافة الى مليون روبل أُرسلت الى عملاء أتراك في برلين في نيسان 1921، وأخيراً، 500 أقّة من الذهب في أيلول 1921". تمّ، بشكلٍ موازٍ، توقيع معاهدة "الصداقة والأخوة" بين البلدين، حيث تمّ الاعتراف بالجمهورية التركية واقرار ترسيم جديد للحدود، استعادت معه تركيا مدينة كارس، بعد أن كانت هذه الحدود، لما يقارب القرنين، ميدان حروبٍ بين الروس والعثمانيين. وقد قال لينين وقتها إنّ هذه المعاهدة هي السبيل الوحيد لإنهاء تاريخ الحروب في القوقاز والبدء بمرحلة تعاون مع الأتراك. القروض والمساعدات الروسية لم تنجد الكماليين خلال حربهم مع اليونانيين والحلفاء فحسب، بل كانت من مداميك بناء الدولة التركية الحديثة. في العشرينيات، لم تكن الجمهورية الوليدة تعاني من المقاطعة الاقتصادية وقلة الاستثمار الخارجي فحسب، بل ان الطبقات الصناعية والحرفية والوسطى، التي تؤمّن المهارات والرساميل وتنشىء المؤسسات، خرج أكثرها من البلاد مع رحيل اليونانيين والأرمن. من هنا، لعب القرض الروسي دوراً مهما في بناء طبقة صناعية ورأسمالية "تركية"، "جمهورية"، جديدة. كان الذهب الروسي من أهم مصادر تمويل "قانون تشجيع الصناعة"، الذي اقرض مئات المشاريع المحلية التي صارت، مع الزمن، عائلات صناعية وتجارية كبرى، ما زال الكثير منها فاعلاً اليوم، وقد دخلت حكومة أردوغان مؤخراً في حربٍ اقصائية مع بعضها (في توصيفه لنشوء هذا القطاع الصناعي في تركيا اثر صدور القانون، يقول هيرشلاغ إن عدد المعتاشين من الصناعة في البلد تضاعف من أقل من 76 ألفاً عام 1921 الى 276 ألف عاملٍ صناعي عام 1927). لهذه الأسباب كلّها، كان من الغريب أن نجد، بعد أقل من ثلاثة عقود، تركيا "ناتوية" دورها ــــ مع ايران ــــ هو أن تكون خنجراً في الخاصرة الجنوبية للاتحاد السوفياتي، ومقراً لصواريخ الأطلسي وراداراته (لم تكن اميركا تبيع شاه ايران طائرات "اف ــــ 14" و"اف ــــ 16" ــــ الأخيرة لم يتم تسليمها ـــــ حتى يحتوي السعودية وقطر، بل ليشكّل قلقاً وتحدياً للطيران السوفياتي).منذ تلك الحقبة، مثّلت السياسة التركية في محيطها دور "البوابة الشرقية" للناتو، ولو أعطت سياساتها غطاءً قومياً أو ايديولوجياً ـــــ كمحاربة الشيوعية في الخمسينيات ـــــ أو طائفياً (الّا اذا صدّقنا أن التعاون بين تركيا والسعودية وقطر هو، بالفعل، تلاقٍ لإرادات شعبية، كالسردية التي يروّجها في بلادنا من يعتاش من هذه الأطراف، ويصدّقها من لا يصله الا اعلامهم). كان من أسباب الثقة التركية العالية في سياستها الخارجية، خلال السنوات الأخيرة، النجاح الاقتصادي التركي والنمو المستمر. غير أن تركيا، التي اعتمدت في السنوات الماضية على دفق التمويل الخارجي والقروض الرخيصة (وهو ما يعود، جزئياً، لأسباب اقتصادية والأزمة المالية في الغرب، وايضاً لأسباب سياسية تتعلق بموقع تركيا في النظام العالمي)، قد تكون أوّل من يعاني من انسحاب الرساميل العالمية الى المركز، وارتفاع الفائدة وقيمة الدولار. التقارير الاقتصادية هذه الأيام تجمع كلها على أزمة مالية تتكوّن في الأسواق الناشئة، وتضع تركيا والبرازيل على رأس قائمة المتضررين. بهذا المعنى، على الحكومة التركية أن تقلق من تقلبات السوق العالمية أكثر من أضرار العقوبات الروسية، ولكن، على مستوى أعمق، فإن المسألتين مترابطتان: الدين الأجنبي، الذي موّل فورة البناء والعقارات وزيادة الاستهلاك لن يدوم الى الأبد، وهذه الموجة قد تنحسر عن مجتمعٍ خسر الكثير من مزاياه التنافسية ــــ مع ارتفاع الدخل ــــ وأدمن الاستيراد (تسجّل تركيا "الصناعية"، اليوم، أكبر عجزٍ في الميزان التجاري نسبة الى الناتج القومي بين كل دول مجموعة العشرين). الأسواق التي "تدوم" لتركيا، والتي تستهلك منتجاتها، والتي أمّنت لها فوائض تجارية في العقود الماضية، هي في محيطها ــــ سوريا والعراق وايران وروسيا ـــــ وليست اميركا أو اوروبا الغربية. حين تقرّر تركيا، وهي دولة كبرى ورئيسية في المنطقة، أن تشهر نفسها ــــ بعد نهاية قصيدة الـ "صفر مشاكل" ــــ كمركزٍ متقدّمٍ للغرب في محيطها، وعلاقاتها خلافية مع كلّ دولها (باستثناء جورجيا واذربيجان واسرائيل، التي تلعب دوراً وظيفياً مشابهاً)، فإن الأذى يكون متبادلاً. تركيا، التي كانت شركاتها تحتكر قطاعات كاملة في العراق، ومنتجاتها تغزو أسواقه ــــ من المأكولات الى القطارات ــــ صارت تتعرض للتهديد في البلد وتأمر مواطنيها بأن يلزموا كردستان. تركيا، التي استفادت طويلاً من الحرب الباردة وصراعات الأحلاف وأزمات المنطقة من غير دفع أثمانٍ حقيقية، تضع نفسها في موقعٍ خطر. شاء القدر للعراق أن يلعب ايضاً، على مدى أربعة قرون، دور "البوابة الشرقية" لإمبراطورية، وكانت تلك الفترة، بالمحصلة، هي لعنة العراق التاريخية، والمرحلة التي لم يعرف البلد فيها استقراراً ولا نمواً ولا حضارة.

0 تعليق

التعليقات