حين قرأت كلام الصديق سلامة كيلة عن الحراك الأردني («الأخبار» في 24 تشرين الثاني 2011)، أسفتُ مرتين. مرة لأنّ جميع المعطيات التي ذكرها كيلة عن الحراك الأردني غير صحيحة، ومرة لأنّه، على رغم جهله الكامل بالوقائع الأردنية، يجد لديه من الجرأة ما يجعله يعطينا النصيحة. ونصيحته، في جوهرها، هي انحناء الحركة الشعبية للبرنامج الأميركي ـــــ الإخواني في الأردن، وخصوصاً باتجاه جرّ البلد إلى التدخل العدواني في سوريا. ولا أقول إنّ كيلة موالٍ لذلك البرنامج، لكنّني أزعم أنّه، في إطار نظرية الصيرورة الثورية التي يتبناها، يرى، كما يرى في سوريا، أنّ تحقيق أهداف الحلف الأميركي الإسلاموي في بلادنا يمهّد الطريق للقوى الثورية لكي تتصلب وتناضل وتنتصر. وهي نظرية تتسم بالعدمية السياسية وبانعدام روح المسؤولية نحو الأوطان والمجتمعات، وتقود إلى انخراط اليساريين في معسكر أعدائهم، بحجة التمرد على هذا المعسكر لاحقاً! في المعطيات، ليس لدى كيلة معرفة البتة بالحراك الأردني، ما يجعل تصحيح «معلوماته» أمراً عبثياً. ولذلك، لن أقف عندها إلا لماماً، وأقدم، بالمقابل، عرضاً موجزاً للحراك الأردني ومضامينه وتطوّراته. أولاً، بدأ الحراك الأردني في أيلول 2009، في انتفاضة عمال ميناء العقبة المخصخص. وقد منحت تلك الانتفاضة للحركة العمالية الجديدة التي أطلقتها اعتصامات لجنة عمال المياومة وعمال القطاع العام، زخماً، وأصبحت، منذ احتفالها بالأول من أيار 2011، عاملاً سياسياً لا يمكن تجاوزه. في ذلك اليوم نفسه، جرى إطلاق بيان المتقاعدين العسكريين، الذي طاول، لأول مرة في البلاد، صلاحيات الملك وطالب بالعودة إلى دستور 1952 الذي يقيّد تلك الصلاحيات، وباجتثاث الفساد واستعادة أموال الخزينة وأراضيها، والتراجع عن الخصخصة والنهج النيوليبرالي وإعادة بناء القطاع العام الاقتصادي وإصدار قانون ضريبي تصاعدي على الدخل والأرباح، إضافة إلى قوننة فك الارتباط مع الضفة الغربية والشروع في بناء سياسة دفاعية ضد العدو الإسرائيلي. وقد أصبحت مضامين هذا البيان تمثّل الخط العريض لمجمل الحراك الشعبي اللاحق.
حين تحرّك المتقاعدون العسكريون (قاعدتهم تزيد على 140 ألف متقاعد يشكلون مع أسرهم سدس المواطنين) تحرّكت شبكة شعبية ـــــ من خارج صفوف المعارضة التقليدية ـــــ من معلمي القطاع العام (قاعدتهم 90 ألفاً) لانتزاع نقابة للمعلمين (لم يصل للصديق كيلة خبر إنجاز هذا الهدف، رغم مرور أربعة أشهر على حصوله!). وكان حراك المعلمين شاملاً في المحافظات، وتبدّى في سلسلة من الإضرابات والاعتصامات. ومن الضروري الإشارة هنا، إلى أنّ ناشطي المعلمين (بالإضافة إلى ناشطي العمال والمتقاعدين العسكريين) أصبحوا هم بالذات العمود الفقري لتنظيم الحراك الشعبي العام المنطلق في كلّ المحافظات اعتباراً من 7 كانون الثاني 2011.
ثانياً، في ذلك اليوم، وقبل سقوط بن علي في تونس، انطلقت تظاهرات في ذيبان، المعقل العشائري المفقَر، جنوبي العاصمة عمان، وكانت هذه الشرارة التي أطلقت الحراك الشعبي العام في جميع المحافظات في الجمعة التالية، في 14 كانون الأول 2011 (أي قبل ثورة 25 كانون الثاني/ يناير في مصر. فلا أعرف من أين اخترع كيلة معلومته القائلة بأنّ الجماهير الأردنية تحركت في البداية تضامناً مع الشعب المصري؟). في تظاهرات 14 كانون الأول الكبرى، احتشد حوالى 15 ألفاً في عمان، من دون مشاركة الإخوان المسلمين. وكان معظم المشاركين قد أتى من المحافظات القريبة ومن عشائر عمان. وكان شعار التظاهرات المركزي هو إسقاط حكومة سمير الرفاعي الاستبدادية النيوليبرالية التي سقطت فعلاً في 7 شباط التالي.
وحول عديد المشاركين في تظاهرات الحراك الشعبي، لم يلتفت كيلة (الذي لا يميّز الخصوصيات المحلية) إلى أنّ الشعب الأردني يتكون من ستة ملايين نسمة لا غير، منهم كتل من أصل فلسطيني تقدر بمليونين ونصف مليون، مجمدة في أغلبيتها الساحقة عن المشاركة السياسية، ومنهم النساء اللواتي، وفقاً للتقاليد العشائرية، لا يشاركن في التظاهرات، ومنهم منتسبو الجيش والأجهزة الذين يزيدون على مئة ألف، عدا عن العناصر السكانية من الفئات العمرية التي لا تستطيع المشاركة. وبالحساب، يكون الحراك الأردني قد دفع، عملياً، بأغلبية العناصر السكانية القادرة للمشاركة في فعالياته. وعلى خلاف التغطيات الإعلامية التي تتعامل مع الداخل الأردني من خلال كليشيهات مسبقة وتمنحه القليل من الأهمية، رأى النظام أنّه مهدد فعلياً، ولا سيما أنّ الرأي العام ـــــ بما في ذلك القسم الرئيسي من العسكر والموظفين العموميين ـــــ يؤيد مطالب الحراك. ووفقاً لموازين القوى على الأرض، تنبّهت نخبة النظام مبكراً إلى أنّ مواجهة الحراك الشعبي بالقمع ليست ممكنة، فهي تقود إلى مجابهة مسلحة في المحافظات، وربما إلى تمرد عسكري، فاختارت الانسحاب من المواجهة والتعامل مع الفعاليات بصورة مرنة وغالباً سلمية وتنظيمية.
ثالثاً، تصاعد مد الحراك الأردني بمشاركة الإخوان المسلمين اللاحقة. وفي 24 آذار 2011، تفاهمت قوى الحراك مع الإخوان على تنظيم اعتصام مفتوح على دوّار جمال عبد الناصر في عمان، وهو موقع حيوي ويشكل مركز عقدة المواصلات بين أطراف المدينة. وكان يمكن لذلك الاعتصام أن يشكّل مفصلاً في التطوّرات السياسية الأردنية، لولا أنّ جماعة الإخوان استغلت التجمع الشعبي الحاشد (الآتي من العاصمة ولكن، رئيسياً من المحافظات) وبفضل قدراتها اللوجستية، تمكنت من زرع حوالى 500 من أعضائها كلجان نظام سيطروا في عملية انقلابية على الاعتصام، مانعين، بالقوة، ممثلي التيارات الأخرى من التعبير أو المشاركة في اتخاذ القرار. ووسط ذلك الانقلاب، أصدر الإخوان المسلمون، باسم الاعتصام، بيان مطالب ركز على فتح باب التجنيس وإصدار قانون انتخابات يمنح الكتل ذات الأصل الفلسطيني، أغلبية برلمانية. وهو ما أدى إلى شقّ صفوف الاعتصام، وتخلّي حراك المحافظات عنه، ما خلق الظروف لتمكين البلطجية والأمن من فضّه بالقوة في اليوم التالي.
رابعاً، طرحت مأساة 24 ـــ 25 آذار على الفور، مسألة ترتيب العلاقات بين المكونات الوطنية للشعب الأردني كمقدمة لا غنى عنها لتحقيق أهداف التغيير الديموقراطي. وهنا برزت ـــــ ولا تزال ـــــ قضية قوننة تعليمات فك الارتباط مع الضفة الغربية التي كانت حتى 1988 جزءاً من المملكة، ثم جرى الاعتراف الرسمي الأردني بأنّها جزء من الدولة الفلسطينية العتيدة. وهو اعتراف تأخر 14 عاماً بعد اعتراف جامعة الدول العربية بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني في 1974، ولم يرضخ النظام الأردني لهذا القرار إلا تحت وطأة الانتفاضة البطولية في الضفة وغزة في 1987 ـــ 1988. لكن النظام الأردني الذي رضخ سياسياً لمطالب الانتفاضة الفلسطينية في قرار اعتبره المناضل الراحل جورج حبش، يومها، انتصاراً تاريخياً للشعب الفلسطيني، ظل يناور في حسم العلاقة مع الضفة الغربية، فلم يتحول فك الارتباط إلى نص دستوري، ولم تتحول تعليمات فك الارتباط، الخاصة بالمواطنين، إلى قانون. وقد رمى النظام الأردني، من وراء تلك المناورة، إلى (1) إبقاء الاحتمالات السياسية مفتوحة لإعادة العلاقة مع الضفة في شكل إلحاقي أو كونفدرالي، (2) وإبقاء الأردنيين من أصل فلسطيني مهددين من حيث الوضع القانوني لجنسياتهم، ما يسهّل شلّهم عن المشاركة السياسية الداخلية.
وفقاً لتعليمات فك الارتباط مع الضفة الغربية، جرى اعتبار المقيمين الفلسطينيين في الأردن مواطنين أردنيين يحظون بالرقم الوطني والجنسية، والمقيمين في الضفة، فلسطينيين. ولأنّ تلك التعليمات لم تقونن، فقد ظل تطبيقها في أيدي وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية، التي بإمكانها سحب الجنسيات أو منحها. وقد تواطأت النخب الحاكمة من الجانبين، على رفض قوننة فك الارتباط. فالمتطرفون الشرق أردنيون يريدون تعليق قوننة جنسيات ذوي الأصول الفلسطينية بما يسمح لهم بالمطالبة في ظروف معينة بسحب هذه الجنسيات، بعضها أو كلها، بينما جماعات الوطن البديل الفلسطينية تريد استغلال عدم التحديد القانوني للتجنيس لمنح المزيد من الفلسطينيين الذين وفدوا إلى الأردن بعد 1988، ويقدّر عديدهم بأكثر من مليون، الجنسية الأردنية. وتؤيّدهم، في ذلك، جماعة الإخوان المسلمين التي ترى في هؤلاء، قاعدة سياسية لها، وخزّان أصوات للانتخابات النيابية. بالمقابل، ترى قوى أساسية في الحراك الأردني أنّ نقل جنسيات الأردنيين من أصل فلسطيني من المظلة الإدارية الأمنية إلى المظلة القانونية، سوف يؤدي إلى بيئة سياسية جديدة وطنية وديموقراطية في البلاد، تسمح بتوحيد الشعب الأردني، بكل مكوناته، وتحقيق برنامج التغيير. إنّ منح الصفة القانونية النهائية لجنسيات الأردنيين من أصل فلسطيني سوف يحررهم سياسياً، ويعطي للفئات الشعبية منهم فرصة المشاركة السياسية والنضالية. وبالمقابل، فإنّ الوقف القانوني لعملية التجنيس المستمرة سوف يسمح للقوى الديموقراطية الشرق أردنية بكبح جماح المتطرفين وتهدئة القلق الشرق أردني من حدوث انقلاب ديموغرافي يغيّر هوية البلد والدولة. وهذا القلق، بالذات، هو الذي يعرقل التغيير.
خامساً، منذ منتصف نيسان الماضي، عاود الحراك الشعبي نشاطه المنظم في المحافظات مركّزاً على المطالب الاجتماعية بالدرجة الأولى: اجتثاث الفساد واستعادة المال العام، ضرب الفئات الكمبرادورية، إعادة بناء القطاع العام الاقتصادي، تنمية المحافظات. وعلى وقع تلك المطالب، جرى تنظيم مئات الفعاليات النضالية المطلبية للفئات، كما ظهرت اتجاهات عنفية لانتزاع الأراضي المسلوبة من قبل «المستثمرين»، كما حدث في منتصف تشرين الثاني الماضي في معان، حيث أجبرت مجموعات تعاونية محلية، وبأعمال عنفية، الحكومة، على إعادة أراض زراعية كانت قد فوّضتها لشركة استثمارية. ذلك، بينما ركزت الفعاليات التي تقودها جماعة الإخوان المسلمين على الإصلاح السياسي، بالاتجاه نفسه الذي ظهر في 24 آذار، أي إجراء تحوّلات سياسية تكفل إعادة بناء النظام على أساس المحاصصة الديموغرافية السياسية. وحين تشكلت حكومة عون الخصاونة التي بدأت بالتقارب مع حماس ووعدت بالاستجابة لمطالب الإخوان، هتف جمهورهم للرئيس «المصلح»، وانفضّوا عن التصعيد، وتراجعوا عن مساعي الانخراط في الحراك الشعبي. ولتعويض ذلك الغياب، بدأوا بتنظيم فعاليات لا تتصل بالمطالب الداخلية.
سادساً، بسبب مأزق الانقسام الأهلي، اتجه تطوّر الشعارات في المحافظات نحو مطاولة صريحة وشديدة اللهجة للملك وأشخاص الحكم بالاسم، من دون طرح شعار إسقاط النظام. وهو ما يعبر عن تناقض ناجم عن تجاهل مطالب الحراك من قبل النظام، ما يقود إلى انفجار الغضب ضده، وبالمقابل، عن شعور بالمسؤولية الوطنية من الذهاب الى مواجهة كسر العظم مع النظام خوفاً من بديل إخواني أميركي يقود البلاد إلى صيغة من الوطن البديل أو إلى الحرب الأهلية والفوضى. ويجمد هذا التناقض التطوّر السياسي في البلاد.
سابعاً، في الأردن الآن قوتان شعبيتان: أولاً، الإخوان المسلمون وحلفاؤهم الذين دخلوا في تحالف محلي وإقليمي مع حكومة عون الخصاونة. وتحظى هذه القوة بالتغطية السياسية والإعلامية بفضل قوة الحضور الأميركي التركي القطري في المنطقة. وهو حضور مستعد لتقديم الدعم المالي والسياسي للنظام الأردني، بما في ذلك الصمت عن الإصلاحات المطلوبة وتسهيل عضوية الأردن في مجلس التعاون الخليجي، مقابل جر عمان للضلوع في سياسات موالية للإخوان المسلمين وإجراءات ضد النظام السوري. القوة الثانية هي الحراك الشعبي في المحافظات والقوى اليسارية والقومية، ولم يتّحد ذانك الطرفان ذاتياً بعد، لكنّهما ينخرطان معاً في معركة منع انزلاق النظام الأردني إلى المشاركة في الأعمال العدائية ضد سوريا. وهو ما يزعج الإخوان المسلمين، وكذلك اليساري كيلة، بشدة.
ثامناً، تميّز الحراك الشعبي الأردني منذ بداياته بانضباطه في سياق وطني اجتماعي وقومي يساري. وبسبب تحرره من تدخل الليبراليين والقَطريين واستقلاله عن الإخوان المسلمين، لم ينجرّ إلى المصالحة مع السياسات الأميركية. ومن اللافت أنّ العاصمة العربية الوحيدة التي عرفت، في ظل فعاليات الربيع العربي، اعتصامات ضد السفارة الأميركية، كانت عمان التي شهدت عدّة اعتصامات ضد سفارة العم سام، أطلق أولها المتقاعدون العسكريون وشبيبة القوى اليسارية، بينما أحرق متظاهرو الكرك، غير مرة، علم حلف الناتو. ولم يكن ذلك على سبيل تأييد نظام القذافي، بل رفضاً للتدخل اللصوصي الإجرامي للاستعمار في الشؤون العربية. كذلك، فإنّ اتجاه الحراك الشعبي الأردني إلى التعبير بكل الوسائل عن رفض التدخل الخارجي في سوريا، ورفض انجرار الأردن الى المشاركة في تدخل كهذا، لا يمكن وضعه في سياق تأييد النظام السوري. وكمثال، فإنّ تيار المتقاعدين العسكريين الذي أصدر موقفاً لافتاً لتحذير النظام الأردني من مغبة التدخل في سوريا، ليس بعثياً ولا من أصدقاء دمشق، وإنما هو ينبثق من قلب المؤسسة العسكرية الأردنية.
نعم. أصاب كيلة في معطى واحد حول الحراك الأردني، وهو أنّ هذا الحراك وضع على جدول أعماله، مهمة التضامن مع الشعب السوري في مواجهة كل القوى التي تعمل ضد حقوقه الديموقراطية والاجتماعية، كما ضدّ وحدته وسلامته وأمنه، ووحدة وسلامة وقوة الجمهورية العربية السورية.
يرتبط الأردن مع جارته التوأم، سوريا، بعلاقات حدودية وديموغرافية واجتماعية وسياسية واقتصادية متشابكة للغاية، ما يجعل الحدث السوري أردنياً بامتياز. ويخشى الأردنيون من أنّ انفراط الدولة والقوة السورية سوف يؤدي، بالإضافة إلى كوارث متوقعة في جميع المجالات، إلى حدوث فراغ سوف تستفيد منه إسرائيل للتوسع وفرض مشروع الوطن البديل بالقوة، ولا يبعد عن هذا التوقع احتمال تسلّم ثوار الناتو والإخوان السلطة في سوريا، ما سيؤدي إلى وضع مشابه في الأردن سوف ينفّذ مشروع الوطن البديل من خلال شعار يعتبر الأردن «أرض الحشد والرباط»، أي واقعياً أرض التوطين. ترفض القوى الشعبية الوطنية الأردنية الخيار الأميركي الإخواني لأنّه سوف يجذّر النهج النيوليبرالي، نهج الخصخصة وحرية التجارة والإفقار، ويضرب التيارات الوطنية والتقدمية، بينما سيطلق أيدي هيئة محلية للمطاوعة لتسييد الوهابية وإلغاء التحضّر والتسامح وروح التقدم في البلاد، ويقود حتماً إلى الحرب الأهلية.
وحين يتهم كيلة، أو سواه، الحراك الأردني في نهجه العروبي الاستقلالي التقدمي، فإنّ نشطاء الحراك يعتبرون تمسكهم بهذا النهج وساماً.

* كاتب أردني