القضية التي أثارها أخيراً أحد رجال الأعمال اللبنانيين أمام القضاء اللبناني ضد رفاق درب في حملة مقاطعة داعمي إسرائيل في لبنان، ومركز «عائدون» للاجئين الفلسطينيين، وحملة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، المعروفة بالاسم المختصر «BDS»، تستدعي من كل معادٍ للعدو الصهيوني ووجوده العنصري في فلسطين التأمل في كيفية ممارستنا، نحن المعادين للصهيونية وسادتها الإمبرياليين، مسألة مقاطعة العدو من الأساس، والنظر إليها من منظور نقدي، بهدف تحسين الأداء وقطع الطرق على أيّ تراخٍ. لا شك في أنّ تضامن كلّ القوى المعادية للصهيونية مع الزملاء في حملات مقاطعة العدو، ووقوفنا إلى جانبهم ومعهم، وقوفاً غير مشروط، وضرورة تقديم كلّ دعم ممكن إليهم في حملتهم القومية المدافعة عن حقوقنا في بلادنا في وجه الهجمة الإمبريالية والصهيونية ــ العنصرية على أمتنا، وكل ما يمثله تاريخنا من منابع حضارة وقيم إنسانية، واجب لا منّة منا. في الوقت نفسه، نقول إنّ علينا النظر بعين نقدية إلى ممارسات قوى في خندق معاداة العدو، ولا أقصد هنا أشخاصاً، إزاء ممارسات لا يمكن وصفها إلا بأنّها تطبيعية.حتى يدرك القارئ ما أفهمه أنا بالمقاطعة، عادةً ما أعود إلى مثل تناقلته وكالات الأنباء في ثمانينيات القرن الماضي يخص رياضية، لا أتذكر اسمها أو من أي بلد، مُنعت من المشاركة في أي بطولات إقليمية أو عالمية لسنوات عديدة. السبب ليس مشاركتها في نشاط رياضي ما، منعته لجان المقاطعة الرياضية. سبب معاقبتها أنّها شوهدت تحضر نشاطاً رياضياً شارك فيه رياضيو جنوب أفريقيا العنصرية. هي حضرت كمتفرجة فقط، فعاقبها أعداء النظام العنصري، ولم يبحثوا عن «أسباب تخفيفية».
عندما أرى أفلاماً صهيونية، أنتجها العدو ومؤسساته المختصة ومكتوب عليها بـ«العبرية» «معروضة للتأجير أو للبيع في بيروت»، أسأل: أين الهيئات الحكومية المتخصصة من اختراق كهذا ووقاحة ومخالفة للقوانين الوطنية كهاتين! والأمر يتجاوز ذلك، إذ يجري الترويج لأفلام إسرائيلية صهيونية شارك فيها ممثلون وممثلات عرب.
من ناحية أخرى، لن نملّ من تكرار مثال قيام العديد من الصحف القومية المعادية للصهيونية، ولا شك لنا في ذلك، بتخصيص باب يومي اسمه «الصحافة الإسرائيلية» من دون أيّ تحليل أو نقد. بإمكان تلك الصحف أن تستبدل بذلك عنوان «صحافة العدو» أو ما إلى ذلك. إنّ سرد أقوال صحف العدو من دون تحليل نقدي عميق، يجعلها، من حيث لا تدري، ناقلة لأقوال العدو وتدخل صحافته إلى بيوتنا، فتضحي جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية. وهذا الأمر ينطبق أيضاً على النشرات الإخبارية لقنوات مؤيدة للمقاومة. لا أدري سبب تخلّي هذه القوى عن الإشارة إلى الكيان الصهيوني بصفته عدواً. أذكر حادثة كان آباؤنا وأمهاتنا يرددونها أمامنا، عن إطلاق أحد جنود الاحتلال البريطاني في فلسطين النار على بائع متجول في القدس، فقير معدِم كان يصرخ باسم بضاعته وهي «الرمل»، الذي كان يُستخدَم منظفاً لأدوات الطبخ المنزلية. البائع كان يصرخ بلهجته المحلية «رُمل» فظنه الجندي القاتل يصرخ باسم القائد العسكري النازي رومل، المعروف باسم «ثعلب الصحراء»، فقتله. عندما أقارن ما فعلته لجان مقاطعة النظام العنصري وجريمة جندي الاحتلال البريطاني في حق الفلاح الفلسطيني الفقير، بمواقف قوى معادية للصهيونية، سنسرد بعض ممارساتها تباعاً، أجد ضرورة التزام الأخيرة بمعايير دقيقة، ولا بأس من استخدام «ميزان الذهب» في كيفية تعاملها مع محاولات تغلغل العدو في صفوف أمتنا.
على سبيل المثال، لا بد من التعريج على مسألة قيام الأديب الفلسطيني الراحل محمود درويش بزيارة حيفا لإحياء أمسية هناك في قاعة روتشيلد، التي ارتبطت زمنياً بإجرائه مقابلة مسجلة مع صحيفة «هآرتس» الصهيونية، هاجم فيها حركة حماس، وأعلن أنّه لن يزور قطاع غزة ما دامت هي تحكمه. حاولنا وقتها نشر نقدنا لتصرف الراحل الذي يفتقر إلى أيّ حكمة، ولا مسوغ له إطلاقاً، لكن هيهات. الإرهاب الفكري الذي مارسه محبو محمود درويش، وجلهم من دعاة التخلي عن تحرير الوطن والقبول بالحل الصهيوني للمشكلة الفلسطينية، أجبر حتى «الأخبار» على التراجع، خلال 24 ساعة، عن موقفها الناقد للزيارة.
صحف أخرى معادية للصهيونية، ومنها «السفير» التي لا نشك في كون صاحبها الأستاذ طلال سلمان رمزاً طليعياً في الخط القومي العروبي في الصحافة العربية، نشرت الخبر ودافعت عن خطوة محمود درويش التطبيعية، وفتحت صفحتها الثقافية لمهاجمة كل من انتقد تلك الخطوة، بل إنّ تلك الصفحة مارست إرهاباً فكرياً عبر المقالات التي نشرتها، رغم ادعاء مشاركين في الحملة أنّهم ديموقراطيون، وما إلى ذلك من اللغو المعروف والهراء المستهلك.
المشكلة كمنت أيضاً في أنّ أحداً من المشاركين في حملات مناهضة التطبيع مع العدو ومقاطعته لم يتحرك ولم ينطق بكلمة، أو حتى حرك أيّاً من شفتيه ضد خطوة الراحل ومغزاها التطبيعي. يبدو أنّ أسوار بعض المطبعين أعلى من ثمن مقدرة بعض معادي التطبيع على القفز!
هنا أتذكر أنّنا عندما نشرنا كتاب «التوراتيات في شعر محمود درويش: من الثورة إلى التسوية»، قبل وفاته بسنين، انهالت الهجمات على الكتاب ونقده، وأعلم أنّ بعض مسؤولي ما يسمى الصفحات الثقافية استكتبوا، بحضوري، بعضاً من أصحاب «أقلام للإيجار» لمهاجمة الكتاب. وعندما سُئلت يوماً عن سبب موافقتي على نشر دار قَدمُس الكتاب، لم أعرف مكمن الغلط في هذا، لكنّني أجبت: إنّ سوق الكتب تغص بملايين الكتب المداحة، وفي أحيان كثيرة على نحو رخيص ومبتذل، للأديب، ولا بأس من وجود كتاب نقدي يتيم.
أمر آخر مرتبط أيضاً بصحيفة «الأخبار» ويتعلق بفتح صفحاتها لمقالات عديدة للسيّد جلبير الأشقر، يدافع فيها، ضمن أمور أخرى، عن لقاء صحافي أجراه مع صحيفة «يديعوت أحرونوت» الصهيونية، بشأن كتاب نشره عن العرب والنازية. كان أمراً محزناً حقاً ومثيراً للغضب في الوقت نفسه، أن أرى مقالات كهذه في صحيفة عنوان انطلاقها وديمومتها «مقاومة العدو»، ولا أشك في ذلك.
كنت أتوقع من الصحيفة المقاوِمَة، بدلاً من نشر ترجمة المقابلة، المطالَبة بمحاسبة الكاتب، الذي أجرى لقاءً تطبيعياً مع صحيفة صهيونية، مهما كان محتوى كلامه لها. وقد حاولت إقناع بعض الأصدقاء بالكتابة ضد خطوة الكاتب التطبيعية الحمقاء، لكن من دون جدوى. هم أعربوا عن معارضتهم للقائه التطبيعي ودفاعه عنه، لكنّهم رفضوا التحرك ولو بمقالة ضده، حفاظاً على علاقات شخصية مع الكاتب وبعض مسؤولي الصحيفة، على ما يبدو.
وهنا وجب إضافة قيام مجلة «الآداب» أخيراً باستكتاب كاتب من فلسطين المحتلة عام 1948، خدم في جيش العدو، ولما رفض طلبه العمل في إذاعته، أصبح بقدرة قادر «وطنـياً»، وكانت قبل ذلك قد استكتبت كاتباً آخر من الطينة ذاتها. ويضاف إلى ذلك استكتاب المجلة ذاتها كاتباً آخر للحديث عن الانتفاضات العربية في الوقت الذي نشر فيه مقالة في إحدى صحف التكفيريين، تحدث فيها عن ديموقراطية كيان العدو المزعومة، وعن أنّ تلك الانتفاضات ستجعلنا شبيهين به (في ديموقراطيته). أليس في نشر هذا الهراء تطبيع ما بعده تطبيع!
في الحقيقة ثمة أمثلة أخرى، لكنّنا نتوقف الآن عند ما سجلناه لأنّ هدفنا لا يتجاوز دعوة علنية، بعدما لم تُجد ملاحظاتنا الخاصة لرفاق الدرب، للانتباه إلى أنّ سلبيات ممارسات كهذه تطعن في صدقية مقاطعة العدو، وتفتح أمامه بيوتنا. الممارسة يجب أن تكون لصيقة بالنظرية، وإلّا فسنضيع البوصلة. إنّ تلك المواقف الرخوة التي لا يمكن وصفها إلا بـ«المياعة»، ضارة للغاية وتفتح أوسع الأبواب أمام المطبعين للتمادي في غيّهم على حساب دماء شعوب أمتنا وحقوقنا في وطننا السليب، لكن الأخطر من ذلك كلّه أنّها تفتح أبواباً أوسع للتشكيك في صدقية بعض المشاركين في حملات المقاطعة.

* كاتب فلسطيني، ناشر «دار قدمس»