جاء الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون ومعه رئيسا البنك الدولي والبنك الإسلامي للتنمية، إلى لبنان، تحت عنوان مانشيت هو غوث النازحين السوريين في لبنان. أمّا في العنوان الصغير فزيارته جزء من جولة في المنطقة لتنفيذ أوامر أميركية - أوروبية لتخفيف الوقع السلبي للأزمة السورية على دول الاتحاد الأوروبي أولاً ولتلبية بعض مطالب تركيا ثانياً. أمّا الكارثة الانسانية التي يعاني منها السوريون في بلدهم ولبنان والأردن والعراق فهي في أدنى أولويات الزيارة.
من هو بان كي مون؟

أولاً بان كي مون أتى إلى موقع الأمانة العامة للأمم المتحدة ضمن سلسة من الشخصيات التي مرّت على المنصب المرضي عنها وعن دولها أميركياً. فهو من كوريا الجنوبية شبه المستعمرة الأميركية منذ عام 1950. ويحار المرء كيف لشخصية بيروقراطية باهتة مثله لا تتمتع بأي كاريزما أو بموقف وجداني أو بصفة قيادية أن تصل إلى هذا المنصب. ولكن العجب يزول عندما ينظر المرء إلى عدد كبير من الدول العربية والأجنبية حيث يصل أشخاص من دون وجوه إلى أعلى المناصب والرابط أنّ واشنطن قد وضعت يدها على تلك الدول أو الكيانات.
في معظم حياته العملية كان بان تحت الرعاية الأميركية سواءً في دروسه الانكليزية في لوس أنجلوس وهو في الثامنة عشرة وتمكينه من لقاء الرئيس جون كينيدي آنذاك، أو تخرّجه بشهادة ماسترز من جامعة هارفرد عام 1985 على يد استاذه جوزف ناي صاحب نظرية «القوّة الناعمة» الأميركية لاستعمال الإعلام والتجارة والاستخبارات والمرتزقة للسيطرة على العالم. لقد احتل بان مناصب أمنية ودبلوماسية في كوريا الجنوبية فعمل في السلك الدبلوماسي منذ عام 1970، وتدرّج في الخارجية ثم في سفارة بلاده في واشنطن ثم مسؤولاً للأمن في كوريا عام 1996 ثم وزيراً للخارجية عام 2004، ثم أميناً عاماً للأمم المتحدة عام 2007. وأي مراقب خارجي سيلاحظ ترقياته المفاجأة والعديدة إنّما الخارجة عن إرادة حكومة بلاده.
في الحرب على سوريا التي بدأت في صيف 2011، جنّد إمكانياته لخدمة هدف إسقاط دمشق وأخذ يهاجم الحكومة السورية ويدعو الى ضرورة «تلبية مطالب الشعب» ثم رعى اجتماعاً للهيئة العامة للأمم المتحدة في تشرين الثاني 2011 بطلب من أعداء سوريا تحت اسم «أصدقاء سوريا» واستصدر قراراً بإدانة سوريا بأغلبية 122 دولة. كما سعى في مطلع 2012 في كواليس مجلس الأمن لاستصدار قرار دولي يدين سوريا ويمهّد لضربة عسكرية شبيه بذلك الذي سبق ضرب ليبيا، وإذ فشل بسبب فيتو روسيا والصين، خرج يهاجم مجلس الأمن علناً ويقول إنّنا نشهد انهيار هذه المؤسسة الدولية. قصّته هنا تماماً كقصة الثعلب والعنب.
فماذا يفعل في لبنان في 25 آذار؟

أضغاث أحلام

قبل بدء الحرب على سوريا ببضعة شهور، نشرت تركيا آلاف الخيم في مناطق حدودية حيث توقّعت حكومتها الإسلامية أنّ سوريا ستسقط بسرعة فستستغل أنقرة وبمساعدة فرنسا واستخبارات دول الاتحاد الأوروبي الوضع لإقامة بؤر تمكّن الجماعات المسلّحة من إقامة مناطق نفوذ وقوى أمر واقع، في حين تقوم تركيا بوضع اليد على مدينة حلب وجوارها كجيب حدودي تعلن منه «حكومة سورية» بديلة. فشلت محاولات اسقاط سوريا في 2011 و2012 و2013 ثم دخلت «داعش» الساحة كما تضاعف عدد النازحين السوريين في تركيا حتى ناهز في منتصف 2015 ثلاثة ملايين.
ووقعت تركيا في شر أعمالها، فاقتصادها تراجع وخاصة في المحافظات التي تغص بالسكان على حدود سوريا، والعملاق الكردي في شرق البلاد استيقظ وأشعل أزمة لن تنتهي قبل سنوات طويلة، وفقدت تركيا نفوذها في المنطقة العربية وتراجعت فرص انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي. فكان على حكومتها عمل شيء لتلافي الانهيار الكامل، في وقت كانت حكومة سوريا تسير من نصر لآخر وتنتقل من الدفاع إلى الهجوم.
وسرعان ما اكتشفت تركيا نفسها أنّها مجرّد بيدق صغير في لعبة الأمم وعضو فاشل في حلف شمال الأطلسي. فهي ليست الامبراطورية العثمانية العائدة ولم تعد النموذج العلماني الذي بشّر به كثيرون للدول الاسلامية، وليست ندّاً عسكرياً حتى لسوريا التي قاومتها خمس سنوات. فتركيا كانت كقطر والسعودية، تنفّذ السياسة الأميركية من مالها وعرقها وعلى حساب اقتصادها ورقي شعبها دون مقابل ودون أفق حول مستقبلها وحول وعد الانضمام إلى أوروبا.

تركيا في دور شمشمون: «عليّ وعلى أعدائي»

بعد الفشل تلو الآخر، توقّع الأتراك كما القطريون والسعوديون والاسرائيليون أنّ أميركا ومعها حلفاءها الأوروبيين ستدخل الساحة وتوجّه ضربة قاتلة لسوريا تسمح بتأسيس منطقة عازلة في شمال البلاد. فدُبّرت حكاية الكيماوي في الغوطة وتوتّرت الأجواء الاقليمية والدولية وبدا الأمر أنّ أميركا متجّهة لضرب سوريا في صيف 2013. ولكن أي من هذا لم يحصل، حتى شعرت أنقرة والدوحة وتل أبيب والرياض أنّ واشنطن تخلّت عنها.
ولذلك كان لا بد من جولة اعتداء جديد على سوريا صيف عام 2014 تحت اسم «داعش» مع تمهيد إعلامي ودبلوماسي حاشد. وكان هؤلاء يفترضون أنّ فرائص سوريا وحلفائها سترتجف وستكسب تركيا المنطقة العازلة. ولكن أي من هذا لم يحصل أيضاً، لا بل بدأ الإرهاب «القاعدي» ينتقل من منطقة الهلال الخصيب إلى العمق الأوروبي، فيما تركيا صابرة وتريد حلاً لورطتها في الحرب السورية التي باتت تتحمّل نتائجها منفردة باسم حلف الأطلسي ويقيم على أراضيها ثلاثة ملايين سوري وتتخّذ الجماعات المسلحة من مناطقها الحدودية مراكز تدريب واستخبارات ومخازن سلاح ومعدات ويتآكل داخلها الديمغرافي.
أمّا ما قصم ظهر البعير التركي فهو دخول روسيا الحرب مباشرة إلى جانب الجيش السوري وحلفائه في أيلول 2015. فقرّرت أنقرة أنّ المسألة لم تعد تحتمل المزيد من الانتظار والخسائر والتضحيات باسم أوروبا والغرب، ولا بد أن يتشارك حلفاؤها في الناتو في كلفة الحرب على سوريا.

اطلاق التسونامي البشري


مارست تركيا ضغوطاً كبيرة على واشنطن وعلى دول الاتحاد الأوروبي لكي تتضامن معها. ولكن التجاوب كان ضئيلاً. فتركيا قدّمت لحلف الناتو في الحرب على سوريا ما كان العراق في عهد صدام حسين قد قدّمه لدول الخليج وأميركا في حربه ضد إيران عام 1980. وكما خرج العراق من تلك الحرب عام 1988 ضعيفاً فقيراً مهشّماً من دون تحقيق أي فوز، تخرج تركيا من حرب سوريا ضعيفة فاشلة وفي ورطة. لقد طمأنها حلفاؤها أنّها لن تتعرّض لأي اعتداء بفضل عضويتها في الناتو لا أن تتحرّش هي بأحد من جانب واحد. فلا ضمانات لتركيا في حال ضربت أكرادها ولا تخفيف أعباء الغزو البشري السوري واستباحة سيادتها من قبل جحافل المرتزقة.
ففي حين ناهز عدد النازحين في تركيا الثلاثة ملايين في منتصف 2015 وفي لبنان الميلون ونصف المليون وفي الأردن 650 الفاً وفي العراق 250 ألفاً، لم تستوعب بريطانيا سوى 10 آلاف لاجئ وفرنسا العدد نفسه وأميركا 4 آلاف، وهي الدول الغربية الأكثر ضلوعاً في الحرب السورية. فكان حرص الغرب على الديمقراطية وحقوق الشعب السوري دموع تماسيح.
وإذ حلّ العبء الأكبر على تركيا ولم ينجدها الحلفاء أطلقت في خريف 2015 التسونامي البشري الكبير فامتلأت البحار وحدود أوروبا الشرقية بمئات الآلاف من اللاجئين السوريين.

بان يلعب دوره

هنا اجتمع الحلفاء لدرس سبل نجدة تركيا ووقف تداعيات التسونامي البشري فلعبت ألمانيا الدور الأكبر بإعلانها استيعاب مليون لاجئ تسجّل منهم حوالى نصف مليون بحلول شباط الماضي. ثم شرع الحلفاء في سلسلة ترضيات ومكافآت لتركيا في وقت حقّق الجيش السوري نجاحات فائقة ضد جيوش المرتزقة التي بدأ عناصرها يفرّون عبر تركيا إلى بلدانهم الأصلية في أوروبا الغربية ويشنّون عمليات إرهابية في بروكسل وباريس. وإذ جاء عشرات ألوف السوريين من لبنان والأردن إلى أوروبا عن طريق تركيا أيضاً، كلّف الحلفاء بان كي مون بمهمة تحسين ظروف النازحين في لبنان والأردن والعراق، فحضر مع وفد وقام بجولة في البلدان الثلاثة. ولكن زيارته ودوره يبقيان على هامش أحداث الحرب السوريا. وما فعله هو لتخفيف الضغط البشري على تركيا التي بدورها تخفّف هذا الضغط عن أوروبا الغربية.

* أستاذ جامعي