تستحق هجمة كتيبة اليسار الليبرالي على زياد الرحباني أن تتحول مفصلاً، بالنسبة لليسار الحقيقي التحرري الوطني والتقدمي، من أجل إقامة الحد وتثبيت القطيعة، كموقف رسمي وجماهيري. ليس لأن زياد الرحباني رمز أو أيقونة فوق النقد، بل لأنه من بين قلة من الرموز الكبيرة، لم يضيّع البوصلة يوماً. ولأن هذه الهجمة بما ميّزها من تجرُؤ، تستند موضوعياً إلى الجهوزية التكفيرية لقتل الخصوم وأكل أكبادهم على الملأ. فلا ينفصل «تكفيرهم» عن الإستقواء بـ «داعش» و«النصرة»، حلفائهم في معسكر «الثورة الليبرالية».
ولعل في ثبات زياد ، يكمن سبب الغضبة عليه ممن استثمروا إنكفاء المثقفين اليساريين وضمور القوى اليسارية لكي يتسيدوا، على مدار عقد، مشهد المثقفية ويشوهوه بكم هائل من الترهات الليبرالية. يضير هؤلاء صمود زياد على قناعاته الأصلية ومواقفه الثابتة وقد أغاظهم، حد الهستيريا، كشفه لموقف الرمز الكبير، السيدة فيروز، وفيه الموقف العروبي الداعم للمقاومة والمحبّ لسيدها. كان معظمهم مستفيداً من صمت السيدة ومن «مزاجية» العبقري التي، برأيهم، تحدُ من تأثيره. ولعلهم، في مجالسهم، كانوا ينسبون إليها آراء مفبركة بغية الإيحاء بأنها من المدرسة نفسها. ويمكن تبيان ذلك من خلال الحجج المساقة لقتل الأيقونة، فحين تتفتق الألمعية عن كشف «معلومة» أن السيد حسن لا يمكن له سماع صوت السيدة فيروز، يسهل الإستنتاج أن هذه «المعلومة» كانت زاد هؤلاء، قبلا، في تأكيد استحالة أن تود السيدة من لا يسمعها مع ما يعنيه ذلك، في العمق، من ترويج لثقافة العداء لتقاطع قوى علمانية مع المقاومة، بسبب إسلاميتها. والحال أن زياد، المنقطع عن «صوت الشعب»، المنقطعة عن تاريخها وثقافتها، كان قد خلُد لنفسه، متأملا ومكدّا وراء لقمة عيشه وفنه، فأراحهم وترك «المسرح» لهم ولغيرهم من رفاق النضال الذين فشلوا في القيام بدورهم، لأزمة تعصف بحزبهم. تسيد سقطُ المرحلة السابقة المشهد مستفيدين من دفق مالي وتسويق إعلامي واكبا «ثورة الأرز» وفورة منظمات المجتمع المدني المموّلة من الأذرع المدنية للمخابرات الأميركية. لكن قيام زياد، لاحقا، بالكتابة على صفحات «الأخبار»، بما يعنيه ذلك من الإفصاح العلني، مع ما يرافق ذلك، عادة، من نقد لاذع وتصويب دقيق، آذن ببدء مرحلة الأفول لدعاة الديمقراطية فوق ظهر الدبابات الأميركية.
في الحقيقة يمكن التأريخ للحظة إنفراط العقد القديم بين شلة من الرفاق، من لحظة إنطلاقة «الأخبار» بقيادة الثنائي سماحة ــــ الأمين، والموقع المحوري لزياد في مشروعها، ومن ثم كتابته على صفحاتها. إذاك،كان الراحل الكبير جوزيف سماحة أقرب، في موقفه من احتلال العراق، إلى موقف الحزب الشيوعي الرافض، وقتذاك، لنظرية «إسقاط الطاغية عبر العدوان والإحتلال»، وهي نظرية تروتسكيي المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأميركية. ومن قلب هذا السجال بين «الوطني» و«الديمقراطي»، تأسس الفراق الأيديولوجي الذي سيتعمق بعد الإنتصار المدوي ــــ نعم، المدوي ــــ لحزب الله على العدوان الإسرائيلي عام 2006، حيث استلّ الرفاق السابقون شعارات النيوليبراليين للتركيز على «كلفة» الإنتصار على لبنان!! ومن زاوية أخلاقية بحت، ثمة قدر من الإسفاف حين كنت تسمع بعض هؤلاء ينفون إنتصارا يعترف العدو به، ويلتحقون بجوقة المهولين من حجم دمار لا يريد كثيرون، أصلا، إعادة بنائه. لكن شيئا ما، في ثقافة جيل من الشيوعيين واليساريين، عموما، يمنعهم، في أحيان كثيرة، من البوح والمجاهرة. لعله كامن في رفقة السلاح في ظل الظروف الصعبة، أو هو في مظلومية المغبونين من مآلات الحرب الأهلية التي انخرطوا فيها ليخرجوا منها بخفي حنين. لكن الأكيد أن خسارتهم لدورهم الطليعي في المقاومة التي اجترحوها من صلابة الإرادة أولاً، ومن ثم باللحم الحي ونضالات وتضحيات الفقراء، هي التي تمنع الكثيرين منهم من الإنفكاك عن روابط الأمس. وفي ذلك عصبية خلدونية، ذات طابع عقائدي، تجعل الأخ ينصر أخاه حتى حين يظلم. وفي سياق ذلك بالتحديد، يمكن فهم التردد الذي تمكّن من زياد، في مقابلته مع «الميادين»، فمنعه من المزيد من البوح. كأنه شعر أنه إذا ما قسا، فهو يقسو على نفسه وماضيه وذاكرته وعلى كل رفاق الدرب السابقين. كالمطعون في ظهره بدا زياد، يحار وهو يستغرب كيف أمكن السكوت عنهم ولو كان ذلك تقديرا لجوزيف الغائب. مقهوراً، مع كل المعاني الإنسانية التي تقف خلف الشعور بالقهر، أجّل ردّه قائلا: «إنتظر الرد يا فواز». وكان قد لعن الساعة التي مات فيها سماحة في شقة حازم صاغية.
إنسانية زياد، المرهف الحس والمشاعر، تفوقت أخلاقيا على مجمل «الكتيبة» لأنه استطاع أن يشعر بالقهر. أما صاغية الذي استسهل وصف فيروز بـ «الراحلة»، فلقد سقط في قعر العالم اللاأخلاقي لا ينتابه أي شعور سوى التلذُذ السادي الناجم عن متعة أكل الضحية حية، تماما كما يفعل رفاق «ثورته السورية» من جماعة «داعش» و«النصرة» والجبهة الإسلامية. لو أن ناشطا فايسبوكيا مغمورا وصف صاغية بالراحل أو، ربما، الشهيد، لكانت انطلقت جوقة جاهزة، عادة، تتهم محور الشر بنيته تصفية حازم إما لمذهبه أو لرأيه، حسب الحاجة.
مع فواز طرابلسي يبدو الأمر مختلفا بعض الشيء. فهو، للأمانة، أقل سادية من حازم. لعبته المفضّلة هي القنص وإغتنام السانحة للضرب. ويعود ذلك، ربما، إلى غياب الرؤية او المشروع. يلعب فواز على هامش ساحة حازم، الناشط اليومي على صفحات «الحياة» لتبرير بربرية «الثوار»، بقمع النظام. ينتظر فواز كلام «السيد»، ينتقي منه مفردة ويخلق لها سياقا يبرر مقالة تكرر سابقاتها في رتابة التأكيد على أفكار مطلقة. مجلته «بدايات»، المسماة يسارية ،هي مجال تعبيره الرئيس عن مجمل أطروحته الفعلية، الليبرالية حتى النخاع. ولولا ذلك، ربما، لما حصلت على دعم المؤسسة الألمانية «هنريش بل» التي يصدف أن لها مكتبا في «إسرائيل» من بين ثلاثة فقط في المنطقة. فواز الذي يظنُ ان نصفه الآخر هو جوزيف سماحة، عجز عن منع نفسه من كشف مكنوناتها، ولم ير حاجة لتقدير نصفه الآخر، على عكس زياد. تعليقه على صفحته على موقع الفايسبوك، يضج بالإفتعال كمن شعر حاجة للإنقضاض و لا يريد تفويت فريسة سنحت. تعليق سمج جعل زياد نفسه، على ما بدا لي، يحار في قدرة فواز عليه! كصبية المدارس حين يريدون قهر أحدهم، يصرخ الأكاديمي «اليساري» في وجه فيروز، أبرز رموز لبنان المعاصر، أن «طقي موتي، السيد ما بيسمعلك أغانيكي»!
وكالشاطر، اللبناني حتى العظم، يقرر، فجأة، «تذكر» ما لم يذكره في كتابه عن فيروز والرحابنة (الصادر عام 2004) أن لفيروز والرحابنة علاقة بالنظام السوري. من الواضح أنه يستبطن بذلك إستجرار إدانة لمن له علاقة «بنظام يقتل شعبه»، وخلق انطباع بإمكانية فرض حظر أخلاقي على مؤيدي المقاومة لمحاصرتها، في سياق أجندة أميركية معلنة، ومعلن أيضا، حجم موازنتها. وفي المحصلة فإن زياد اليساري الحقيقي، كسب معركة التفوق الأخلاقي على صاغية وطرابلسي وبقية الرهط ممن يضمُ مجلسهما، لأنه، ببساطة، كان وبقي الأصدق. مع ذلك، يواظب معظم الإعلام الوطني والعروبي على توصيف الهجمة ضد فيروز وزياد والمقاومة باعتبارها «يسارية»، في تجاهل لحقيقة أن الأمر يتعلق بقيادات كانت يسارية قبل «الصحوة» الأميركية على «الديمقراطية». المجاميع اليسارية، ومن رموزها زياد وفيروز، هي أكبر من هؤلاء، مع ودنا لبعضهم، وأكثر حضورا وقوة بين الناس.
لكن الذي حصل يؤشر على أمور تتعدّى مجرد تكفير فيروز وزياد؛ ذلك أن ناشطي «الكتيبة» الليبرالية أفصحوا، بما لا يدع مجالا للشك، عن كونهم طابورا خامسا في قلب اليسار. صحيح ان هذا الأمر ليس مفاجئا للمهتمين، غير أن جديده هو هذا المستوى من التجرؤ والتطاول، في لحظة الإستعداد المعلن، هو أيضا، لتفعيل «جهاد» جبهة «النصرة» وأخواتها على الساحة اللبنانية.
هنا، تحديدا، يصحُ مشهد الخروف والحصان في مزرعة جورج اورويل، حيث سيكون الليبراليون أول الخراف «الراحلة» (بالإذن من حازم صاغية). والأهم من كل هذا وذاك، أننا شهدنا عملية إستقواء، ليس من حزب الله، ولا من قوى البورجوازية أو الطوائف أوالإقطاع، بل من رفاق الدرب السابقين الذين يقدمون خدماتهم، غير المبررة إطلاقا، لمحاربة القيم التي يختزلها زياد ممثلا للحزب الشيوعي «التاريخي». فالحزب الحالي، والذي ترزح قيادته تحت الهيمنة الفكرية للأطروحة الليبرالية والسطوة الإعلامية والمعنوية لمحور 14 آذار الإقليمي، يشجع، من خلال إنسحابه من المعركة الأيديولوجية والسياسية، على تشويه تراثه وتضحيات مناضليه. كما أنه، عندما استباح بعض رموزه ومن ثم «ذوات» العديد من مناضليه في معركة إقصاء وسيطرة داخلية، شجع الآخرين على استباحتهم واقعياً وصولا إلى حد التجرؤ على قامة بوزن زياد الرحباني.
لقد مهّد هذا النشاط الدفرسواري للهجمة الحالية، وهو نشاط سمته الإمتناع عن الفعل بالنسبة للحزب وميزته الدينامية والفعالية بالنسبة للطابور الخامس الليبرالي. ولذلك تتضح عناصر مواجهته الضرورية بصفتها تتمثل في تفعيل الحزب من جهة وخوض المعركة، معلنة وواضحة وقاسية، مع الليبرالية المتنكرة بلبوس اليسار، من جهة أخرى. فان لليسار حيزاً كبيراً في التاريخ السياسي والإجتماعي اللبناني، وله موقع معنوي متقدم في المخيال الشعبي، بناه بالدم والعرق وعظيم التضحيات مناضلوه وكبار رموزه. ولهذا الحيز قيمة إعتبارية ووجدانية وسياسية كبيرة، لا يجوز التساهل بالتفريط بها مهما كانت الصعوبات الراهنة، فهذه في نهاية المطاف، عابرة. والتطاول على أبرز رموز هذا اليسار، «زياد الشيوعي»، يندرج في سياق محاولة الإستيلاء على هذا الحيز، في ظل توهم أن الضعف الحالي لأصحابه الأصيلين، أمام تحالف الرطانة اليسراوية المشبعة ليبرالية وأكلة الأكباد من النازيين الجدد، سيمكنهم من ذلك.
لكن الأمر المثير للقلق فعلا، هو إهمال عدد من الشيوعيين لجوهر هذا التطور غير المسبوق، والتعامل معه بنوع من الإستخفاف المغطّى بنبرة تعال. ولأن الأمر كذلك، صارت المعركة واجبة أكثر من ذي قبل. ولأن البادىء أظلم، وهو أثبت أنه لا يرعوي، سواء كان قيادياً حزبياً او مثقفاً ليبرالياً، لم يعد ممكناً ولا مبرراً التباطؤ في خوض المعركة الشاملة، من موقع اليسار الشيوعي، التحرري الوطني والعروبي، مهما بلغت التضحيات. فلزياد جمهور لبناني وعربي يؤمن به وله أيضاً حزب يحميه، ولهذا الحزب شيوعيون مخلصون مصرّون على إستنقاذه وإحداث التغيير الضروري فيه.
ثمة من هو عاجز عن الإنتباه، بسبب الفيروس الليبرالي، إلى حقيقة ساطعة وقوية لم تتمكن «الأحداث» السياسية من القضاء عليها، فرفضت الضرورة إلا تظهيرها في اللحظة التاريخية المناسبة: قائد المقاومة العربية، حسن نصرالله، وسفيرة العرب إلى النجوم، فيروز، الرمزان اللبنانيان الأبرز، يصلهما زياد، الشيوعي العروبي والمقاوم قبلا، في تأشيرة واضحة أنه، في هذه الدائرة، ملح الأرض وخبزها. ومن بين هؤلاء خصوصا، حزب الله الذي لا يزال ممتنعاً عن التعديل الضروري في سلوكه، إستجابة لتطورات العامين المنصرمين ونتائجها على معسكر المقاومة. إنتقل الحلفاء الإسلاميون إلى الخندق المعادي للمقاومة، شاهرين السلاح ضد من دعمهم، وبقي في الميدان عروبيون أصيلون يتقدمهم يسار مقاوم، لم يعد مقبولا، على الإطلاق، حرمانهم، على قناة «المنار»، من سماع صوت فيروز أو إطلالتها، بوصفها أيقونة المعنى المدني والحضاري لحياة تحميها المقاومة. وأخيرا يبهجني أن زياد، الذي أعلن قناعته المتأخرة بفكرة لم يكن يؤمن بها، هي المشرقية، اشار إلى حقيقة مستجدة هي إندغام الفكر اليساري والفكر المشرقي في بلادنا، وهو ما يحتاج إلى وقفة أخرى.

*ناشط يساري ـ لبنان