بات واضحاً أن الاتفاق النووي الإيراني قد خلق واقعاً جديداً في المنطقة مما سيؤدي إلى صراعاتٍ وتحالفاتٍ جديدة. وهو ما سينعكس على المنطقة بأسرها، وفي مقدمها دول المشرق العربي. فهل نبدأ بالتحضير للتعامل سياسياً واقتصادياً مع هذه التطورات الإقليمية والدولية المتسارعة، أم نكتفي بدور المتفرج؟لعل أكثر ما يخيف هو استعجال إيران حصد نتائج هذا النصر المؤزر واندفاعها في تقديم المبادرات والتعهدات المتسارعة لأطراف متعددة ومتعارضة، إحساساً منها بدورها الإقليمي المتعاظم. وهو ما قد يؤدي إلى عدم قدرتها على السيطرة على مجريات الأحداث وتقديم تعهدات متعارضة قد لايمكنها الالتزام بها.
إن تبسيط الصراع الإقليمي بتصويره صراعاً بين السُّنّة والشيعة، يهدف، على رغم مظاهره الاجرامية البشعة، الى طمس أساس الصراع الحقيقي والقائم على البحث عن حق هذه الشعوب في الاستقلال الوطني، وإبراز دورها السياسي وحل مشاكلها الاقتصادية المتفاقمة نتيجة للسيطرة الاستعمارية وتحالف البترودولار الخليجي مع الإمبريالية العالمية. وأي خوض لهذا الصراع خارج هذا الاطار، سيغذي الكثير من المشاكل الأخرى المتفرعة.
إن الإسلام السياسي السنّي رجعي في أساسه، وإذ يؤجج الصراع الطائفي فإنه يدفع عن نفسه تهمة الارتباط بأعداء شعوب المنطقة والتي لم يعد يخجل من إظهار التحامه العميق بهم، وبالتالي يعرف أنه يخوض صراعه الأخير. ومن هنا يمكن معرفة سبب وحشيته وانعدام عقلانيته.
على هذا، تتجدد مخاوف القوى التقدمية من أن تكون الاستدارة السياسية لتركيا الأردوغانية، محاولة لتقاسم النفوذ الإقليمي مع إيران على أساس «تفاهم طائفي» قد ترضى به إيران ويقنعها أن هذا كفيل بتخفيف مخاوف السنّة من تزايد النفوذ الشيعي ممثلا بإيران. وهذه لعبة خطيرة، ستدفع الجميع إلى أتون صراعٍ لا ينتهي، ولن يستفيد منه أحد على أي صعيد.
على كل حال، ربما جاء الوقت الذي يلزمنا بالكف عن التوقعات إلى المبادرات، وفي مقدمها المبادرة التاريخية للتحالف المشرقي، بوصفه بديلاً عن الضياع بين تلاطم المصالح والصراعات بين الأعداء والخصوم والأصدقاء. لقد جاء الوقت لكي تدرك كل القوى الوطنية والتقدمية في المشرق العربي الضرورة الجيوسياسية لبناء التحالف المشرقي، أولاً، لنبذ السياق المنحط للمذهبية والطائفية، وإعادة الصراع الداخلي إلى سكته الحقيقية، سكة الصراع من أجل تحرير الإرادة السياسية والتنمية المستقلة والديموقراطية الاجتماعية. وثانياً، للمشاركة في تحقيق الاستقرار الإقليمي وإقامة قوة عربية تعيد التوازن والعقلانية السياسية للمنطقة، وتتصدى لأي طموحات توسعية وتفرض بحثاً جدياً عن علاقات ندية متوازنة بين قوى الإقليم المختلفة، واقامة شراكات اقتصادية تنعكس على الإقليم كله بدلاً من الانزلاق إلى واقع الخضوع الهيمنة الدولية والإقليمية على دول مفككة ضعيفة.
ودفعاً للالتباس، فإننا نؤكد أن إيران هي ــ إلى جانب روسيا ودول البريكس ــ أهمُّ حليف للمشرق العربي، إنما نحن نتطلع إلى حلف أنداد، هو، وحده، القادر على الحياة.
نقطة البداية، تنطلق من سوريا. سوريا ستنتصر... ولكن إذا لم نستطع تثمير هذا النصر السوري تنموياً وسياسياً وثقافياً وإقليمياً في مشروع وحدة المشرق، فإننا نكون قد خسرنا الحرب.
ليس المقصود، هنا، الحديث عن وحدة اندماجية بين أقطار المشرق الخمسة، إنما يجري الحديث هنا عن تكتل سياسي اقتصادي دفاعي، له مهمات محددة في حل مشاكل المشرق المختلفة، في سياق ديموقراطي علماني يحترم حقوق الأفراد والجماعات وعقائدها الدينية وخصوصياتها الثقافية، ولا تسمح بتشكيل كتل سياسية قائمة على استغلال المشاعر الدينية الطائفية التي تقوض الأسس الاجتماعية لهذا التنوع الديني والعرقي لسكان المشرق. أما النظام الديموقراطي الذي نريده، فهو بقوم على حق الطبقات والأحزاب في تشكيل أطرها السياسية للدفاع عن مصالحها في اطار وحدة المجتمع والدولة وتحقيق العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة.
إن الأساس الجوهري الثاني للتحالف المشرقي هو تعزيز شكل ومضمون المقاومة. ومن هنا تأتي أهمية التحالف مع إيران ودول البريكس في حلف مقاوم للنزعة الاستعمارية والإمبريالية والهيمنة الرأسمالية، وخوض الصراع النهائي مع دولة الكيان الصهيوني الغاصب. وقد ترسخ هذا التحالف في معركة سوريا الكبرى في مواجهة المؤامرة الدولية واثبت فاعليته على المستوى العسكري والسياسي والدبلوماسي، وسيخوض معركته التالية في وقف سيل الدماء في العراق الشقيق، ومنع التدخل الخارجي في شؤون هذا البلد المنكوب بمأساة ليست بأقل من المأساة السورية.
الإمكانات الاقتصادية الضخمة متوافرة في المشرق العربي، حين يتم تسخيرها في خدمة شعوبه، في تحقيق التنمية وفرص العمل، وتخليق الظروف المواتية للاندماج في السوق العالمية، من موقع تنافسي، وبما يتفق مع المصالح الوطنية العليا لدول المشرق، أي خارج الرضوخ لهيمنة الدول الامبريالية.
من الواضح أن تدخل الدولة الواسع في المجال الاقتصادي هو ضرورة حيوية لتحقيق النمو والتنمية والتحكم في التوزيع العادل للثروة، وخلق التراكم الضروري لإنشاء قاعدة انتاجية قوية، والاستفادة من الميزات الاقتصادية الخاصة بالمشرق. ولا بد أن نشير، هنا، إلى أن الدور الاقتصادي الاجتماعي للدولة يتضمن حماية و مساعدة الرأسمال الوطني في المجالات الانتاجية، ولا سيما الصناعة والزراعة، في إطار الخطة الوطنية والإقليمية. ولا يتحقق ذلك، إلا في إطار يكفل، قانونياً وواقعياً، محاربة كل اشكال الفساد وتراكم الثروات المافيوزية.
* عضو الأمانة العامة
لحركة اليسار الاجتماعي الأردني