بعد مضي سنوات ثلاث على اندلاع الاحتجاجات أصبح ممكناً الكلام عن أطوار تمرّ بها هذه الأخيرة، وتغدو بموجبها متدرّجة من حيث الفعالية والقدرة على مناهضة السلطة. وفي كلّ طور من الأطوار تلك تنهض فئة اجتماعية بعينها بمهمّة التشبيك مع القوى الاحتجاجية، على قاعدة التحالف أو «الائتلاف» في مواجهة النظام. وهذا ما جعل من الانتفاض هنا فعلاً متغيّراً على الدوام، فلا هو ثابت على مستوى التحالفات الاجتماعية الفعلية (أثبتت تجربة 30 يونيو في مصر أنّ «المسألة الثقافية» لا تقدر وحدها على تشكيل لحمة سياسية في مواجهة الخصم الأيديولوجي)، ولا هو متّفق على القواعد التي يتعيّن من خلالها «تفكيك السلطة» القائمة، وبالتالي بناء السلطة البديلة. يضاف إلى ذلك افتقاده ــ أي الانتفاض ــ بفعل هذا التغيّر المستمرّ على مستوى القواعد إلى حوامل اجتماعية متماسكة ومنسجمة إن لم يكن طبقياً، فعلى الأقلّ سياسياً، بحيث لا يتحوّل اسقاط السلطة في مرحلة ما إلى عامل للتنابذ والصراع على المواقع. وهو ما تشهده تونس بدرجة كبيرة. لذلك مثلاً تعيش الحركة الاحتجاجية هناك في حالة إحباط مستمرّ، وتشعر بأنّها فقدت إلى حدّ كبير قوّة الدفع التي كانت تحرّكها، وهذا طبيعي في ظلّ تأهّب القوى اليمينية والمحافظة في المعسكر العلماني إلى وراثة دور النهضة بعدما أصبح وجودها في السلطة وحدها عبئاً على المجتمع التونسي بأسره، وليس على قوى الثورة وحواملها الاجتماعية فحسب. اليسار موجود أيضاً (الجبهة الشعبية تحديداً) في المشهد، ولكنه لا يملك أن يفعل شيئاً سوى الاحتجاج. وحين يصاب في مقتل (اغتيال شكري بلعيد ومحمّد البراهمي) يستعيد قوّة الدفع مؤقّتاً، قبل أن يفقدها مجدّداً، ويعود إلى البحث عن القواعد الاجتماعية (امتدادات الاتحاد العام التونسي للشغل) التي توفّر له منصّة مناسبة للضغط على السلطة، سواء عبر الإضرابات القطاعية، أو من خلال الشروط التي تضعها ــ أي القواعد ــ على الحكومة أثناء التفاوض. ربّما يكون اتحاد الشغل في هذه الحالة هو المعادل الموضوعي لغياب الاحتجاج أو انحساره، فوجوده في المشهد حالياً هو الثابت الوحيد في ظلّ تغيّر التحالفات وتعاقب الحكومات المتمسّحة بالثورة والمتاجرة بها. لقد تغيّر بالفعل شكل الاحتجاج في تونس، ودخل كما أوضحنا أعلاه في طور جديد لا يعرف بعد إن كان أكثر جذريّة من السابق أو أقلّ، إلا أنّه يبقى قائماً ومؤثّراً، وذلك بالقياس إلى أنماط احتجاجية أخرى لا تتوافر لها الشروط الموضوعية ذاتها. فمن جهة تسنده قاعدة اجتماعية ثابتة تقريباً ومتمدّدة أفقياً على طول الجمهورية التونسية وعرضها، ومن جهة أخرى تتمتّع هذه القواعد بصلابة سياسية تعفيها من التأثّر بالتحالفات الانتخابية كما يحصل في أماكن أخرى. بمعنى أنّه ــ أي الاحتجاج ــ مهما تراجع تحت ضغط التسويات السياسية يبقى قادراً على العودة، إن لم يكن سياسياً ومن خلال الأحزاب (التي فقدت جزئياً قدرتها على التأثير في الشارع)، فعلى الأقلّ اجتماعياً، أي من خلال النقابات والعمل الطلّابي داخل الجامعات، ومن هنا التعويل «دائماً» على دور الاتحاد العام التونسي للشغل، فهو متواجد في كلّ هذه البيئات، وقادر رغم تقليديته و«مزاجه المحافظ» على التواصل مع الكتلة الاحتجاجية الشابة وإبقائها حيّة قدر الإمكان. قد يبدو دوره الآن كوسيط بين الأطراف السياسية محبطاً لبعض الشباب، وهذا صحيح بمقدار معيّن، إذ إنّ الفاعلية في هذه المرحلة لا تقاس فقط بمدى جذريّة طرف من الأطراف، وإنما أيضا بقدرته على التأثير في العملية السياسية التي توشك على الاندثار.
بهذا المعنى يصبح وجود الاتحاد بحدّ ذاته، وغالباً قبل فاعليّته السياسية مكسباً للحالة التونسية التي تعاني أيّما معاناة من طغيان البراغماتية، وكذا من «انحسار الثورة» وتحوّلها إلى فعل خطابي يأتي ويذهب بحسب المناسبة والظرف. وفضلاً عن كونه مكسباً يعتبر الأمر ــ أي مساندة الاتحاد للعملية الثورية ــ بمثابة دليل على جذرية ما حدث في يناير 2011، وكونه لم ينعكس بما يكفي على الواقع السياسي للبلاد فهذا لا ينفي عنه جذريته تلك، ولا قدرته على تمكين الثورة ونقلها من ضفّة إلى أخرى. ولكي نعرف بالضبط أهمية أن يكون للثورة حامل اجتماعي يحافظ كما يفعل الاتحاد التونسي للشغل على فاعليتها دوماً يجب أن ننظر إلى التجارب الأخرى التي توافرت لها كلّ «الشروط الموضوعية للاستمرار» ما عدا شرط الحامل الاجتماعي إيّاه. وهو ما يحصل أمامنا في مصر على وجه الخصوص، فهناك تتقدّم الثورة بثبات واضطراد، وتخلق على الدوام ممكناتها السياسية والاجتماعية على الرغم من كلّ الظروف الصعبة المحيطة بها، الأمر الذي يضعها في موقع معياري يمكن على أساسه فهم العوامل المساعدة على تطوّرها، كما على إعاقتها ومنعها من التطوّر. وما يهمّنا أكثر الآن هو مناقشة عوامل الإعاقة، أي تلك التي أثّرت سلباً في الاحتجاج وأفضت في بعض الأحيان إلى نكوصه، هذا بالإضافة إلى ما طرأ عليه من تحوّلات في طوره الأخير. لنبدأ من التحوّل الأخير وهو عودة الإخوان إلى مزاولة الفعل الاحتجاجي عنفياً، وهذا بالتعريف فعل نكوصي، تماماً كما هي الحال مع أيّ عودة لفصيل سبق وجرّبته الثورة، وخصوصاً أنّ العودة هذه المرّة مترافقة مع عنف دموي يمارس ضدّ المجتمع، لا ضدّ السلطة ورموزها فحسب. وهو ما لم يحدث بالقدر نفسه منذ ثلاث سنوات على الأقلّ، على اعتبار أنّ الإخوان كانوا حينها جزءاً من «الإجماع الوطني» الذي أطاح بمبارك وسلطته. إذ بدا لنا جميعاً وليس للمصريين فقط أنّ الحامل الاجتماعي لموجة يناير «متماسك» بالفعل، ومناسب للمرحلة، وهذا منطقي في ظلّ سيادة أولويات مختلفة عن الأولويات الحالية. لنتذكّر أنّ الأولوية عندها كانت لإسقاط مبارك فحسب، وتبيّن لاحقاً بعد دخول الثورة أطواراً جديدة أنّها كانت أولوية ساذجة وغير متّسقة مع الواقع الاجتماعي المصري. فهذا الأخير كما كلّ الظواهر في السنوات الثلاث الأخيرة بدا دينامكياً إلى حدود مذهلة، ومستعدّاً في ضوء هذه الديناميّة لتقبّل أيّ جديد يطرأ عليه، ومن هنا نفهم استقباله للإخوان ثم لفظه لهم في ظرف أقلّ من سنتين. والعجز عن فهم هذا التغيّر هو بالضبط ما يقود الإخوان إلى ارتكاب مزيد من الأخطاء في الحقبة الحالية التي يقودون فيها قاطرة المعارضة. ولهم في ذلك سوابق عديدة، وإن تكن أقلّ وطأة من الآن، فقد تعجّلوا بعد الاستفتاء على التعديلات الدستورية مطلع العام 2011 في الوصول إلى السلطة متوهّمين بقدرتهم على الحشد والتعبئة في الشارع استناداً إلى تجربة يناير، وأتت لاحقاً خبرة صناديق الاقتراع (الانتخابات النيابية في 2011 ثمّ الرئاسية في 2012) لتؤكّد لهم أنّهم بالفعل الحامل الاجتماعي للاحتجاج، ومن دونهم لا ثورة ولا من يحزنون! هذه عيّنة فحسب عن انفصالهم عن الواقع، وهي لا تشير إلى وهم بالمناسبة بقدر ما تدلّل على وعي معيّن بالسياسة وبكيفية مزاولتها في مفاصل مصيرية. بالنسبة إلى كثيرين ليس من بينهم أيّ من أفراد اليمين الديني (بشقّيه الاخواني والسلفي)، شكّل الإخوان بالفعل جزءاً من الاحتجاج إبّان سقوط مبارك، وقد حصل ذلك في لحظة استثنائية تلاقت فيها أطياف وطبقات مختلفة من المجتمع على هدف واحد. الكلّ حينها أسقطوا مبارك، وأسهموا في تغيير الواقع المصري ونقله من ضفّة إلى أخرى، إلا أنّ جزءاً بعينه بقي يزعم أنّ له الفضل الأكبر في ذلك، رافضاً مشاركة الآخرين له في المكتسبات التي انتزعها مع شركائه من السلطة. ليس مهمّاً أن يفهم هذا السلوك في ضوء الكلام عن النزعة السلطوية والاقصائية التي تحكم سلوك الإخوان تجاه خصومهم، بل المهمّ أن يظهر على أساس عجزه عن فهم الواقع وتعقيداته، فالواقع متغيّر وهو ثابت، والثورة صيرورة بينما هو يريدها كما وقعت في 2011 بالضبط، أي ثورة «له فيها حصّة الأسد». ومن هنا أيضاً يفهم المرء كلام «الجماعة» المستمرّ عن امتلاك الشارع والقدرة على الحشد والشرعية و... إلخ. فهذه مفردات لا تعبّر عن شيء قدر تعبيرها عن الواقع الذي تجمّد بالنسبة إليهم في لحظة تاريخية بعينهاـ، وبالتالي أصبح تجاوزه بمثابه تجاوز لهم ولقدرتهم على مزاولة السياسة. وما يفعلونه في الشارع الآن مستند في جزء كبير منه على امتلائهم بهذه الأوهام، فهم حتى الآن لم يستوعبوا خروجهم من السلطة على وقع الاحتجاجات الشعبية العارمة في 30 يونيو الماضي، ولا زالوا يعتقدون بأنّ عودتهم ممكنة بعد انتهاء مفاعيل الانقلاب العسكري! لذلك عادوا إلى الاحتجاج اليوم معتقدين أنّه الوسيلة الأنسب لإعادة تشكيل روافع الثورة، على أمل أن ينضمّ إليهم لاحقاً كلّ المتضرّرين من السلطة الحالية المدعومة من الجيش. صحيح أنّ تغيّراً جدّياً قد طرأ على تحالف 30 يونيو، وأفضى إلى تصدّعه جزئياً قبل أيّام من الدعوة إلى الاستفتاء على مشروع الدستور، إلا أنّ استفادة الإخوان من الأمر ستبقى جزئية رغم التنكيل الأمني الفظيع الذي حلّ بقواعدهم (شخصيّاً لا أجدني معنياً بكلّ ما يحدث لقياداتهم، فهي ليست أفضل من رموز الحزب الوطني المنحلّ، وقد تعزل لاحقاً، كما قد يخلى سبيلها مثلما يحصل الآن مع قيادات الوطني سابقاً!). والسبب في ذلك أنّهم لم يفهموا بعد كلّ ما حصل طبيعة القوى التي أفرزها الواقع، ولا يزال يفعل بحكم طبيعته المتغيّرة والديناميكية، وما لم يضعوا أيديهم على هذا العطب البنيوي في تكوينهم الأيديولوجي فسيستمرّون في المراوحة بالمكان، ولن يكسبوا ذرّة تعاطف من هذا المجتمع الذي بات يعاديهم بالكامل، ولا يخاصمهم فحسب. لنتصوّر أنّ تنظيماً آخر غير الإخوان وقعت بحقّ قاعدته الاجتماعية مجزرتان على الأقلّ، وتطوّر احتجاجه بالشكل الذي نراه الآن في جامعة الأزهر وباقي الجامعات المصرية (القاهرة، الزقازيق، عين شمس... إلخ) ماذا كان سيحلّ بالسلطة التي تقف في وجهه، وتناصبه الخصومة؟ في تونس اضطرّت «الحكومة الاخوانية» إلى الإذعان للاتحاد العام التونسي للشغل بعدما عجزت عن احتوائه واقصائه من المشهد، وهي تخوض وإيّاه الآن مفاوضات شاقّة للعبور بتونس إلى «المربّع التالي من الثورة». بالنسبة إلى كثيرين، هكذا تكون قوّة الدفع التي تسند الاحتجاج وتمضي به قدماً. تنهض ثمّ «تسقط»، ثمّ تنهض مجدّداً لتدخل في أطوار جديدة معبّرة عن وعي مطابق للواقع، وعن فهم تاريخي لفكرة الحامل الاجتماعي. مرّة أخرى أقول: الثورة صيرورة، ومن يتخلّف عن اللحاق بها سيصبح كما الإخوان خارج التاريخ، لا خارج الواقع فحسب.
* كاتب سوري