لكل سرد شراكة متواطئة بين راوٍ ومستمع، وكذا لكل حكاية. ثمة قاص ومنصت يتبادلان طرفي المقول كل حين. للسرد أقانيم ثلاثة، وأزمنة ثلاثة، تتبادل شرطة الإخبار والمُراد من خلال زمن القاص، زمن المتلقي، والزمان الخاص بالحكاية. وحتى لا تكون مقدمتنا مدخلاً في استطلاع مباني النقد الأدبي، سنكتفي بمثال من تراثنا التاريخي.
شكلت النبوة الخاتمة انعطافة في مسار التاريخ السياسي والحضاري للمنطقة العربية. منتصف القرن السادس الميلادي، كانت المنطقة العربية على شفا تحول حضاري وسياسي منزعه الوحي. شهدت تلك المرحلة تحولات بنيوية مختلفة، بدا ثمة إرهاصات لمشروع حضاري يملأ الفراغ بين دفتي بيزنطيا ــ فارس.
اللحظة القرآنية كانت تشير إلى انعطافة جذرية مع الانتقال من الثقافة الشفوية إلى الأخرى الكتابية. الثقافة المجتمعية بدورها كانت تشير إلى انتقال ما من نظام البداوة. تحولات الثقافة والسياسية والمجتمع رافقت سؤالاً ما انفك يراودها: من المعني بسرد رواية كل هذا التحوّل؟ ومن المعني بالاستماع؟
عرف القرن الأول الهجري نزاعاً هو الآخر على شراكة هذا السرد. بدا الحديث النبوي مؤسسة هذا النزاع وحقله. وقفت السلطة يومها ومعها المجتمع عند طرفي صراع يتجاذب سلطة الحكاية وحكاية السلطة. كان لكل منهما أن يجتاز فضاءات يتداول من خلالها القول. السيف، والكتاب، والمدينة، كانت محل نزاع هذا الصراع.
المدينة نفسها لم تكن فضاءً حيادياً. الكوفة كمثل كانت شاهداً على انحياز فضاء المدينة. خروج بني أسد منها أيام حكم ابن عقبة كان من دلائل انحياز هذا الفضاء إلى غلبة منطق السلطة على سلطة المجتمع. عرف السيف والكتاب والمدينة في ما تلى من قرون، منابر مختلفة للقول، تنازعتها كل من مؤسسة البلاط، والمجالس، والمدينة ــ باعتبارها مؤسسة إبعاد ــ.
تلك روائز ثلاث تقاطعت عند حدّها علاقة كل من السلطة، والمجتمع، والدولة ــ بما هي مشروع عام ــ، روائز ستعود مطلع القرن التاسع عشر ــ مع ولادة المفهوم الجديد للسلطة القومية ــ، من خلال فضاءات جديدة للسرد، عبّرت ولا تزال عن عميق الجدل المتقد بين المجتمع والدولة، وصراع جل مؤسساتهما احتياز شرعية القول ومشروعية الغلبة.
بإمكاننا اختصاراً استقراء كل من السجن والمسجد كنظامين مرجعيين نستكشف من خلالهما الفضاء الدلالي لمثل هذا النزاع. لسردية المسجد والسجن في عالمنا العربي طويات دلالية. ولد السجن في تجربتنا المعاصرة ككائن سياسي. السجن أداة السلطة في عقلنة الحقيقة والصواب، ودواتها في كتابة ما ينبغي له القول، لكنه أيضاً فضاء إدراكي وسياسي، سؤال ينازع السلطة شرطة الخطاب وتأويل الصواب. هو لا ينفك يطاردها بما ينبغي أن تتلفظ به في طواياها الخبيئة، ذلك ما يتشارك فيه والمسجد كمؤسستي خطاب ربما.
يمارس السجن والمسجد سلطة التطهير، ويشتركان وإن ظلا متمايزين في تأويل الحرية والسلطة. وقد نجافي حقيقتهما فيما لو لم نأخذ في الاعتبار نمط وجودهما الثلاثي كفضاء تم عزله، ثم إنتاجه، ثم إدراكه. للمسجد نظام رمزي خاص يسمح له بالعبور من فضاء إلى آخر.
هو ابن المدينة، ووجه من وجوه حقيقتها. إنه فضاء ينافس النظام في احتيازه الأبوة وفي نفيه كل سلطة. لذا ما كان غريباً أن يستحيل مشروعاً سياسياً كلما سنح له تحوّل في شرط المقول، أو خلل في فضاء السياسة. وقد لا يكون فضاء المسجد مشروعاً دينياً بالضرورة، لكنه غالباً ما يعبر عن رغبة الجماعة في الحضور زمنياً وسياسياً.
وللسجن كلامه في الثقافة والسياسة. هو يريد الإفصاح أبداً عن خبيئه كيما يشعر بالوجود، ذاك مُدعى دأبه ربما في اصطناع عالمه اللغوي. لكن مقول السجن ليس ضداً على السلطة دائماً. لقد تمكنت السلطة مراراً من إعادة إنتاج خطابه حتى في أقصى حالات تطرفه وغلوائه. كتابات سيد قطب فترة السجن لم تكن ربيبة فكر سجين صرف. إنها وليدة فكر السجين والسجان معاً. إن قراءة للعلاقة المتبادلة بين السجن والسلطة، كما بين المسجد والسلطة، ستشرع على السواء قراءة خطاب الدولة من خلال المسكوت عنه أو المُبعد من الكلام.
للسجن في تاريخنا السياسي الحديث أزمنة دلالية ثلاثة، ولد أوّلها فترة مرحلة التحرر ومواجهة الاستعمار. شكّل السجن في هذه المرحلة تجسيداً مكانياً لخطاب المجتمع المنفي من السياسة والسلطة، وتقاسمت مؤسسة السجن والسلطة يومها جدلية الخارج ومصالح البرجوازية الهامشية الناشئة. مرحلة أخرى يمكن وسمها بـ«أيديولوجيا السجن» شهدتها منتصف الخمسينيات. لقد تعملق السجن كرهان ووريث لمشروعية التحرر والنضال، مكثفاً علاقات الهيمنة وسلطة القهر في خطاب الأنظمة والمعارضة في آن واحد.
نهاية السبعينيات، دخل المسجد ومعه السجن منعطفاً آخر مع محاولة السلطة إعادة موضعة فضائهما. كان ثمة تحوّل في معادلة توزيع السلطة بين ثورتي الخبز ــ عام 1977 في القاهرة، وتونس العاصمة عام 1984ــ. الثمانينيات أيضاً كانت شاهداً على تحولات مطّردة شهدتها أقبية المساجد والسجون، مع بدء السلطة العربية بالتحوّل نحو أشكال مختلفة من السلطوية السياسية. مراجعات السجن لسيد إمام، وأحداث مسجد الزيتونة الكبير، كانتا صريحتي الدلالة لتحوّل آخذ في الامتداد في رحى هذين الفضاءين. لقد استحال السجن مؤسسة سلطوية قادت أنواعاً من الشراكات المتواطئة بين أجنحة النظم الحاكمة. مع سعيد قشي في الجزائر، وحاتم العناي في العراق، وليث شبيلات في الأردن، وزين العابدين بن سرور في سوريا، بدا كأن السلطة قد نجحت في احتياز جلّ الفضاء السياسي، في الوقت الذي كان فيه المجتمع متردداً في انزياحه نحو فضاءات جديدة للقول.
الربيع العربي كزمن اصطدام مؤجل. كان للخلل الذي أضمرته العقود الأخيرة أن دفع بفاضاءات مستجدة للسرد. الشارع كان آخر هذه الفضاءات.
عشية اندلاع ثورات الربيع العربي، بدا ثمة خلل في توازن المقول. لقد خرج المسجد عن حدّه المكاني، في الوقت الذي تداعت فيه سلطة خطاب القهر. بدا الشارع لوهلة قمين خطابين، وأميناً في اكتناز خبيئين؛ عقل سجين، لا يرى في السلطة غير منطق الغلبة.
وسجن خبيء، يتوارى في ثنايا الأيديولوجيا الجديدة ــ الديمقراطية ــ. يعبّر الأول عن عميق فعل السجن في مجتمعاتنا، ويلاحَظ من خلال حضور المغالبة في خطاب السلطة الجديد. يعبّر الثاني عن رهانات الهيمنة الخارجية، والتباس الخضوع لاقتصاديات السوق في الثقافة، والسياسة. وهما يتشاركان، وإن تباينا، في عجزهما عن الحضور كمشروع سياسي فاعل.
كيف نتلمس معالم السجن الخبيء؟ ربما علينا إعادة استقراء منابر القول، من خلال أدبيات المقول، ومن خلال المُبعد من القول نفسه. كيف نتلمس المبعد من القول؟ دعوة هي إلى التأمل والشروع في مباحثة اجتماعيات السلطة العربية كلغة ونظام، وفضاء وانتظام، لخطاب يكتنز السلطة غالباً، في ما يغيب وفي ما لا يُقال.
* باحث لبناني