حالة من الحداد العالمي سادت. موت مانديلا لم يسبقه حدث من هذا النوع. اختلط النفاق بالأسى الحقيقي. حكام الخليج الذين لم يعتق بعضهم عبيده وجواريه تنافسوا في تصنّع الحزن وفي التنديد بالعنصريّة. وحتى العدوّ الإسرائيلي _ الحليف الأقوى لحكم الأقليّة البيضاء في جنوب أفريقيا _ تصنّع الحزن ورفض العنصريّة ضد السود، فيما يتعرّض الإثيوبيّون في السعوديّة وإسرائيل لحملات عنصريّة علنيّة. وحماة نظام الفصل العنصري من لندن إلى واشنطن حملوا النعش وتدافعوا في المأتم مع أهل الفقيد. لكن هناك ما هو أبعد في النفاق الظاهر. لكل أسبابه ولكل خلفياته في المسرحية.شكّل نيلسون مانديلا حالة فريدة من النضال العالمي. خرج من سجنه الضيّق إلى أرحب فضاء يملكه بشري. لم يعد الرجل ملكاً لشعبه. حوّله سجّانه إلى عكس ما أرادوا. كتبوا له قدراً من النسيان والتجاهل فحصل على العالميّة والخلود. حار الرجل الأبيض في أمره. كيف يُكتب لمصارع مشيئة الرجل الأبيض نصر لا يملك الرجل الأبيض إلا أن يجاريه فيه؟ كيف يمكن رمز النضال ضد الاستعمار أن يتحوّل الى رجل دولة أعلى شأناً من رجال الدولة البيض؟ جريدة بريطانية وصفته بـ«رئيس العالم» (وهو في هذه المرتبة لا يتنافس إلا مع ميشال سليمان). كم من هذا التبجيل حقيقي وكم منه زائف يعكس ندم الاستعمار على اندثار الاستعمار، على الأقل في شكله القديم؟
نيلسون مانديلا من أسرة ملكية قبليّة. تمرد مبكراً عليها عندما رفض زيجة تقليدية واعتنق عقائد تقدميّة وتدرّب مع قادة الثورة الجزائريّة (ننسى كم كانت الثورة الجزائريّة مُلهمة في أيّامها _ كم كان رجالها ونساؤها بصلابة الحديد). رحل إلى غير مكان الولادة وانضم إلى نضال ضد نظام الفصل العنصري وضد الاستعمار الغربي. لكن هل كان نظام الفصل العنصري خارجاً عن إرادة الرجل الأبيض وعن فلسفة استعماره؟ لم يكن ممكناً للرجل الابيض أن ينبذ نموذج رفاق العنصرية الفاقع والصادق في جنوب أفريقيا. احتضن الغرب ذلك النموذج ودافع عنه بقوة. كانت تلك حقبة الحرب الباردة عندما أسس الغرب لنظام إقليمي ظالم. تلك الحقبة فرضت طغاة كانوا من صنع الغرب وإعداده وسُوّقوا على أساس أنهم نتاج الوحشية الأفريقية السوداء. موبوتو سيسي سيكو: إن فرض هذا الطاغية يرتبط بعدد من الحروب الجارية والماضية في أنحاء مختلفة من القارة. قسمة السود على أساس الطول ولون البشرة والهيئة والقبيلة مسؤولة هي أيضاً عن عدد من الحروب الجارية والماضية. تنافس الهولنديين والألمان والفرنسيين والبريطانيين والبلجيك في الاستعمار العنصري وفي تلوين انساق مختلفة من العقائد العنصرية. تلاقت الأنساق على إذلال السود وعلى تكييف الاستعباد الخلاق مع عصر الليبرالية وحقوق الانسان (المزيّف). لم يكن العرب في تاريخهم بعيدين: اعتنقوا عقيدة استعباد السود وتنافسوا في تجارة العبيد. اكتفى بعض المسلمين بالتغني بأذان بلال الحبشي. بقي بلال يفي بالغرض لمصاحبة تاريخ من تجارة عبيد استمرت قروناً. موريتانيا اضطرت إلى إعتاق العبيد أكثر من مرة والسلالات الخليجية كانت تجد طرائق لإعلان العتق من دون الإخلال بالاستحواذ على العبيد والجواري.
انضم نيلسون مانديلا الى حركة تحرر لم تلق من الغرب الا الحرب. المؤتمر الوطني الأفريقي كان هو الظالم وكان العبد يُلام على تشبّثه بالحرية. كان مانديلا متأثراً في البداية بأفكار القومية السوداء (يسمونها في الغرب «العنصرية السوداء» وكأن عداء العبد والضحية ضد ملّاك البشر يستوي مع ظلم الطاغية والملّاك). لكن مانديلا تعرّف إلى مناضلي الحزب الشيوعي في جنوب أفريقيا. والمؤرخ البريطاني، ستيفن إيليس، كشف في 2011 عن دليل على انضمام مانديلا الى الحزب الشيوعي، لكن انضمامه كان قصيراً، يقولون باعتذار. قصيراً؟ لم يكن الرجل حراً كي ينصرف للعمل الشيوعي. والغرب لم يقع على دليل على شيوعية مانديلا (الرخوة كما يحلو الظن للرجل الابيض) قبل ٢٠١١، لكنهم وصموه بالشيوعية على مر العقود كما سبق لهم أن وصموا أحمد الشقيري وجمال عبد الناصر وياسر عرفات بالشيوعية _ أما جورج حبش فقد وصموه بالشيوعية قبل أن يصبح شيوعياً بعد هزيمة ١٩٦٧.
عاش مانديلا سجيناً لعقود طويلة تغيّر فيها العالم من حوله وهو لم يلن ولم يتطبّع. بدا لسجانيه ولمؤيديه رجلاً من فولاذ. حاول السجان العنصري أن يفرّق كي يسود بينهم لكنه فشل في كل محاولاته. لم يكن هؤلاء من مناضلي شلة عرفات في حركة «فتح» الذين كانوا يهتفون بحياة الملك الأردني بمجرد وقوعهم في الأسر في ١٩٧٠ (روى لي إبراهيم سلامة حادثة وقوع أبو إياد في الأسر الأردني، وروى بعضاً منها في «غداً سندخل المدينة»). (طبعاً، كان هناك مناضلون من «فتح» ومن غيرها ممن صمدوا ببطولة، مثل أبو داوود، في أقبية التعذيب الملكي). كان الوضع التفاوضي لسجناء المؤتمر الوطني الأفريقي أضعف بكثير من وضع منظمة التحرير، لكن لم يكن على رأس المؤتمر «بهلوان» على طراز ياسر عرفات، الذي لم يكن يعير المبدئيّة أي احترام، ولم يكن يحترم كلمته هو، فلم يحترمه الأصدقاء والأعداء على حد سواء (محمود عبّاس، ربيب عرفات، ثبت أنه أسوأ من معلّمه). إن القدرات العسكريّة للمؤتمر الوطني كانت أضعف بكثير من قدرات منظمة التحرير في عزّها، لكن هناك من يبدع بالقليل وهناك من يفشل ويتعثّر بالكثير الكثير. لكن لعلّ هذه هي جدليّة الثورات: ماذا فعل العظيم الجنرال جياب بقدرات متواضعة ضد قوة عالميّة، فيما فرّط ياسر عرفات وشلّة «فتح» بقدرات هائلة لثورة فلسطينيّة كانت يوماً واعدة جدّاً؟
المبدئيّة والثبات في المواقف بعيدة عن شلّة عرفات (وشلّة خالد مشعل). لم يكن مانديلا يخشى ردّ فعل العالم الغربي ولم يكن يقضي الليالي يفكّر في أفضل الطرق للتلمّق للرجل الأبيض. أما ياسر عرفات فكان ينفق ملايين الثورة على شركات علاقات عامّة في الغرب كي تعلّمه أصول التملّق للصهاينة وأصول ولوج الأبواب الإسرائيليّة الموصودة. كان مانديلا ورفاقه من طينة مختلفة. ورفيق سلاح مانديلا، جو سلوفو (الأبيض)، القائد الشيوعي الفذ، كان بالغ التأثير على مانديلا، ولم يكن الأوّل يخشى من رفقته. أما عرفات، فكان يزهو بعلاقاته مع أمراء النفط الذين كان يظنّ أنه يستغلّهم فيما وقع أسيراً لهم على مرّ سنوات التمويل، حتى أدّى قطع التمويل (وقد بدأ بأمر أميركي قبل اجتياح صدّام للكويت، خلافاً للشائع) إلى زيادة عزلة عرفات وإضعاف منظمة التحرير التي تحوّلت إلى وحش بيروقراطي معاد للثورة.
زبغنيو بريجنسكي على حق: لم تكن منظمة التحرير تحت قيادة عرفات جادّة في الكفاح المسلّح ولم تكن جادة في المفاوضات. كانت فلسفة عرفات (المستقاة من «فكرة» محمود عباس الذي استخدم منبر جنوب أفريقيا كي يجاهر بمعارضته لمقاطعة إسرائيل فيما صوّت ثلثا أعضاء الجمعيّة الأميركيّة للدراسات الأميركيّة لمقاطعة إسرائيل وجامعاتها وأكاديميّيها) تنتظر النصر كعطيّة ربّانية. كان عرفات بناءً على رؤية عبّاس (الذي ضمّن أطروحته للدكتوراه إنكاراً للمحرقة النازيّة لكن الصهاينة يغفرون معاداة اليهود لمن يصبح أداة لهم مثل السادات والملك الحسن الثاني ومحمود عبّاس) ينتظر أن تسقط إسرائيل بين يديه لمجرّد أن يبدأ مفاوضات معها، وكان يعتقد أن التذاكي في المفاوضات يكمن في تقديم التنازلات قبل الجلوس إلى الطاولة، أو قبل الجلوس تحت الطاولة بجوار أقدام المُحتلّ.
دخل نيلسون مانديلا في مفاوضات سريّة مع قادة نظام العنصريّة من دون علم أو إذن رفاقه في الأسر والنضال. لكنه كان شديد الثقة بمبدئيّته وبعدم قدرة أعدائه على التأثير في التزاماته. كُتب الكثير عن مرحلة التفاوض السريّة، وهناك شبه محاضر مكتوبة عن تلك الفترة. لم تزد تلك المفاوضات مانديلا إلاّ شعبيّة وقوّة، لأنه رفض كل الإغراءات والتأثيرات والمحاولات لثنيه عن نضاله. والأهم، أنه في كل ذلك، رفض رفضا باتاً أن ينبذ العنف، كما طالبه أعداؤه _ وفي هذا تلاقى الغرب مع نظام الفصل العنصري. حتى الحكومة الأميركيّة كانت تصرّ على أن ينبذ مانديلا العنف قبل إطلاق سراحه. لم يعرفوا من أي طينة جُبل هذا الرجل. رفض ذلك، وكان هذا الرفض سبب إطالة أسره. لو أن مانديلا قبل هذا الشرط، لكان نال حريّته _ المنقوصة _ قبل سنوات طويلة من إطلاقه. (عندما اعتقل «ثوّار» سوريا قبل أسابيع الكاتبة في موقع «ناو حريري»، رزان زيتونة، أصدر رفاقها بياناً قالوا فيه إنها كانت تسترشد في نضالها بعقيدة مانديلا في «اللاعنف». إلى هذه الدرجة بلغ الجهل، وإلى هذه الدرجة يحاول البعض إسقاط نماذج لا تمتّ بصلة إلى نضال مانديلا والجنرال جياب على الوضع السوري. مانديلا يمثّل في نضاله العنف الثوري لا السلم اللاثوري. يتحدّثون في «الثورة السوريّة» عن رياض الترك كـ«مانديلا سوريا»، وهناك وثائق أميركيّة نُشرت عن علاقته بنظام صدّام وعن تلقّيه لمساعدات منه. أما ميشيل كيلو فيُلخّص «نضاله» عبر السنوات ولقاءاته الحميمة مع آصف شوكت باسم بندر بن سلطان). مانديلا هو نموذج ثوري للتفاوض، كما كان نموذج التفاوض الفيتنامي مع الحكومة الأميركيّة.
قارن (وقارني ذلك) مع التفاوض الفلسطيني مع الدولة العدوّة (كأن تقارن بين جو سلوفو وصائب عريقات، مهرّج التفاوض الفلسطيني الذي لم يفاوضه أحدُ إلّا سخر منه في ما بعد). قبل ياسر عرفات أن يفاوض بعدما خسر كل أوراق تفاوضه القويّة (لم يتفاوض عرفات وشلّته المتنازلة مجاناً عن الحق الفلسطيني إلا بعد نفاد كل عناصر القوّة في منظمة التحرير في أعقاب إبعادها القسري عن لبنان وبعد تجفيف مصادر التمويل الخليجيّة بأمر أميركي)، الواحدة تلو الأخرى. قبل عرفات كل شروط التنازل لمجرّد الحديث مع الحكومة الأميركيّة. قبل إذلالاً لم تقبله حركة تحرير وطني من قبل. قبِل ان يُعلن تنازلاته لمجرّد الحديث (الذي كان محظوراً من قبل وفق اتفاق سرّي عقده هنري كيسينجر في منتصف السبعينيات مع إسرائيل) مع ممثّلين غير رفيعي المستوى في الحكومة الأميركيّة. لا، لم يقبل عرفات بعض الإذلال الذي أصرّ صهاينة اللوبي الصهيوني عليه، بل رضخ لشروط الإذلال بالكامل. قبِل أن يقرأ على ورقة فاكس وصلته من واشنطن كل شروط الإذعان وباللغة الإنكليزيّة، لأن ذلك كان من شروط الحديث مع أميركا. قدّم هذا أسوأ نموذج للتفاوض، فيما قدّم مانديلا أفضل نموذج تفاوض.
مانديلا أصرّ على تفكيك كل بنى نظام الفصل العنصري، أما عرفات فلم يطلب حتى تفكيك بنى نظام الفصل العنصري الصهيوني في الضفة الغربيّة وغزة. عرفات لم يفاوض على شروط إزالة نظام الفصل العنصري. على العكس، فاوض على تفكيك بنى حركة التحرير الوطني الفلسطيني وجعلها أداة بيد الاحتلال الإسرائيلي. قبل أن يزور بيل كلينتون غزة _ كأن الرجل كان نصيراً للحق الفلسطيني عبر العقود، وكأن زيارته تشريف ما بعده تشريف للشعب الفلسطيني، لكن هذه عقدة المُحتل وأمثاله التي شابت مفاوضات منظمة التحرير التي ارتكبت الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين خطأً جسيماً بالعودة إليها في عام 1977 _ مقابل أن يقوم كلينتون بتعديل ميثاق منظمة التحرير. قدّمت إدارة كلينتون قائمة بمواد تحتاج إلى تعديل بأمر أميركا، وإلا تُلغى الزيارة. أكثر من ذلك، قدّمت أميركا قائمة بنصوص التعديلات التي كانت تبتغيها، واحدة واحدة، قبل ياسر عرفات (أسوأ نموذج للنضال وأسوأ نموذج للتفاوض في تاريخ حركات التحرر الوطني العالميّة).
لم تحدث زيارة أحد لأميركا، على امتداد سنوات إقامتي هنا، مثلما أحدثت زيارة مانديلا الأولى لأميركا من وقع. ظنّ الصهاينة في الكونغرس والإعلام أن الرجل مثله مثل ياسر عرفات وباقي مهرّجي الشلّة في منظمة التحرير الذين يسهل إحراجهم في الإعلام، ويُسألون (كانوا) عن علاقتهم بأنظمة شيوعيّة أو عن «الإرهاب» فيتصبّب العرق من جبابهم ويبدأون بالكذب والتحايل واللعب على حبال الكلمات. لكن مانديلا أخرسهم. يسألونه عن علاقته بالنظام الليبي والكوبي، فيقدّم التحيّة للنظاميْن، ويقول بصوت قاطع إنه ليس هناك ما يودّ أن يعتذر عنه، وإن النظاميْن كانا يمدّان قضيّته بالسلاح والمال فيما كانت الأنظمة الغربيّة ترعى نظام الفصل العنصري، عندما كان فنانو الغرب يتقاطرون لإحياء الحفلات للبيض في جنوب أفريقيا. يسألونه عن عرفات، فيدلي بتأييد قاطع للقضية الفلسطينيّة ونضال الشعب الفلسطيني. ذهلوا وأصيبوا بالصمت. حدث أن ظهر على برنامج «نايت لاين» الذائع الصيت، وسأله المقدم الشهير، تيد كوبل، الأسئلة ذاتها التي ظنّ أنها ستؤدّي إلى طأطأة رأسه أمام الصهاينة، فأجابه بما أخرسه. صمت كوبل ولم يجد ما يقوله. ابتسم مانديلا وقال له بسخرية: هل أخرستك؟ كانت لحظة لا تنسى. أذكر أن صديقاً فلسطينياً قال لي في اليوم التالي: يا لحظّنا العاثر. لقضيّة جنوب أفريقيا مانديلا، ونحن لدينا ياسر عرفات؟ يا للحظ العاثر.
خرج مانديلا من الأسر وباشر تأسيس نظام جمهوري ديموقراطي حرّ. هنا بدأ الرجل الأبيض يقع في غرام مانديلا. قرّر مانديلا أن يفرض غفراناً مطلقاً عن البيض وعن قادة نظام العنصريّة السوداء وجلاّديه. والرجل الذي كان مؤمناً بالنظام الاشتراكي تخلّى عن اشتراكيّته وبات داعياً إلى النظام الرأسمالي طمعاً باستثمارات غربيّة وسعوديّة. هذا هو سرّ العلاقة بين مانديلا (بعد تحريره) وبعض أمراء آل سعود. كما كان معلوماً، فإن النظام السعودي كان حليفاً سريّاً لنظام الأقليّة البيضاء في جنوب أفريقيا، وعندما فرضت بعض ديموقراطيّات الغرب مقاطعة اقتصاديّة عالميّة على نظام الأقليّة البيضاء، كان النظام السعودي يمدّ ذلك النظام بالنفط في السرّ. لعلّ آل سعود لم يريدوا أن ينكشف أمر تاريخهم الطويل في التحالف مع نظام الأقليّة البيضاء (تحتاج كتب ودراسات جين هنتر إلى الترجمة إلى اللغة العربيّة، لأنها درست تاريخ التحالف الوطيد بين جنوب أفريقيا والكيان الصهيوني الغاصب).
وقرّر مانديلا، بالرغم من معارضة رفاق السلاح، أن يغفر للغرب جرائمه العنصريّة، وأن يعيد النظر في السياسات الخارجيّة للمؤتمر الوطني الأفريقي. وحتى التحالف الوطيد بين نظام الفصل العنصري والكيان الإسرائيلي، قرّر مانديلا أن ينسى ذلك ويغفر له. تحوّل مانديلا عندها _ وعندها فقط _ إلى بطل في نظر الرجل الأبيض. لم يصبح مانديلا بطلاً إلا عندما قرّر أن يعكس عقيدة المؤتمر الوطني الأفريقي.
مانديلا في الحكم كان غيره في الأسر. الرجل الذي لم يلن في مقارعة الغرب العنصري، ماشى الغرب في تحولات عصر ما بعد الحرب الباردة. أقام مانديلا علاقة وطيدة مع أثرياء جنوب أفريقيا على حساب الأكثريّة الفقيرة. صحيح أن مانديلا أقام نظاماً فيه الكثير من الحريّات، وفيه إصرار على المساواة بين المرأة والرجل، لكن هذا النظام الجديد لم يكسر بنى الفصل العنصري الاقتصادي. لم يغيّر في طبيعة الملكيّة التي كانت جزءاً من نظام الفصل العنصري. بقي الفقراء على فقرهم، وبعضهم ازداد فقراً. تحوّل مانديلا إلى صديق لكل أثرياء الغرب، يزورونه ويمدّون مؤسّسة مانديلا الخيريّة بالتبرّعات مقابل صور حميمة وغير حميمة معه. كذلك فإن مانديلا أبدى ضعفاً _ لسبب ما _ نحو مشاهير هوليوود. كان يترك كل شيء من أجل أن يظهر في صور مع نجوم الشاشة الكبيرة.
نموذج النضال الثوري لم يكن نموذجاً صالحاً في الحكم، على الأقل من منظار الأكثريّة السوداء ومصالحها الاقتصاديّة. ومن يقرّر ديموقراطيّاً أن جرائم نظام الفصل العنصري لا تحتاج إلى محاكمة؟ تفتّق ذهن مانديلا عن فكرة «لجنة الحقيقة والمصالحة». لم يعد مانديلا وهو في الحكم أو في التقاعد نموذجاً للنضال الثوري. بات لصيقاً برأسماليّي الغرب يتقطارون نحوه من أجل إسباغ مشروعيّة أخلاقيّة على جرائمهم الرأسماليّة. الأسقف ديزمند توتو لم يتغيّر، لا في سنوات الفصل العنصري ولا في سنوات الحريّة المزعومة. هو الذي أصرّ على المقارنة بين نظامي الفصل العنصري الأفريقي والإسرائيلي، ومن أجل ذلك تحوّل إلى رجل مكروه في أميركا.
الرجل الأبيض يهتف بحياة مانديلا، ولكن ليس حباً به، بل حباً بنفسه. يشعر الرجل الأبيض أن مانديلا بعقيدة تسامحه خلّص الرجل الأبيض السجّان في جنوب أفريقيا من موت محقق أو من خسارة مواقع الحظوة التي بقيت له بأمر من مانديلا. الرجل الأبيض يشكر لمانديلا احترامه لثروة الرجل البيض. يريد الرجل الأبيض أن يختار للسود والملوّنين أبطاله. والذي كان بطلاً حرّاً في الأسر، حوّله السجّان أسيراً في الحريّة. لعلّ هذا ما كان محمود درويش يقصده من دعوة الجمهور إلى تحريره من حبه له. لم يكن يريد أن يقع في الأسر... في الحريّة.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)