إن الانفراج الإيراني ــ الأميركي، على زلزالية وقعه، ليس حدثاً من خارج المدار، بل متسق مع فشل الثورة الخضراء من جهة ومع تكسر نظام عقوبات العامين الأخيرين على جدار التكيف الإيراني الصبور، بالرغم من وضعه الاقتصاد الإيراني في عنق زجاجة وعصر مجتمعه لأقصى حدود التكدير، وأيضاً مع فشل الولايات المتحدة في الاحتفاظ بقوة إعاقة في العراق بدلاً من انسحاب شامل نهاية عام 2011... وأخيراً مع انتعاش، عابر للإقليمي، لتنظيمات القاعدة، وهي الخطر المشترك عند الجميع.لذا كله، فالانفراج سنّة القادم من سنين، وفي طياته اضطراد يصب في قناة باقي عناصر «المحور»، لا تفريطَ بمصالح أي منها.
يلزم هنا تلمس مراد اللاعبين الرئيسيين على سطح الشطرنج الأوراسية: أمل واشنطن هو أن الانفراج مع إيران سيفتح الباب موارباً لنفاذٍ غاوٍ إلى حشايا النخب السياسية الإيرانية، يكفل مع الوقت «جلاسنوستاً» يفتح القلعة من الداخل، معوضاً عن عقم محاولة فتحها من الخارج... أملها أيضاً هو في وقعية طاقوية بين إيران تصدر للغرب وروسيا تحتاج لهيمنة كاربونية عليه.
والحال أن مناعة الجسم السياسي الإيراني على الغواية والاختراق قد تعززت بعد خضراء ــ 2009، لا سيما أن مرونة النظام على قدر من قابلية التمدد والرخاوة تحفظ الجميع في حلبة واحدة، حتى وإن تصارعوا بل وأدموا بعضهم البعض... أما الفتنة الطاقوية فلجمها مكفول بشراكة قرار، ثم إن سلمية النووي الإيراني (رغم التوفر، أو قربه، على قدرة التحول إلى عسكرة، كما حال اليابان والبرازيل مثلاً) تتيح هامش أمان يدرأ قلق جار الشمال، وهو الذي أسهم في بناء ذلك المشروع.
ماذا تريد واشنطن من موسكو؟ لقد سعت إلى تغيير النظام بالقوة الناعمة وباءت بالفشل... وتسعى إلى اختراق النخب بالأنجزة والتبشير... وتنازع موسكو على شرق أوروبا، والسلافي منه بالتحديد، وعلى الخارج القريب في آسيا الوسطى وفي القفقاس... وتتنازع معها على القطب الشمالي وكنوزه المخبوءة... وتذرّ قرن الفتنة بين الـ20 مليون مسلم تركي والـ120 مليون أرثوذكسي سلافي... وتزيح بصرها عن حرب المخدرات الأفغانية، مستهدفةً الشباب الروسي بالعطب... وتريد من استبقاء قوة تدخل في أفغانستان، بعد انسحاب نهاية 2014، أن تكون منصة مرصد مصوب على الداخلين الروسي والصيني.
يصب في قناة واشنطن التناقص الديموغرافي الروسي ــ معطوفاً على نماء ديمغرافي مسلم ــ وأساساً بفعل المخدرات.
كيف تتقي موسكو وهن تلك الدواعي؟ باستعادة الجاليات الروسية من الجمهوريات السوفياتية السابقة، وبالاتحاد مع بلاروسيا ومع أوكرانيا (بعد ترويض نخبها بالغواية والضغط)، وتثمير تقانة رفيعة للطاقة السيبيرية.
ماذا تريد واشنطن من بكين؟ أن تبقى تحت تهديد وحماية الأسطول السابع على مضيق ملقا... أن تستمر على مسافة بيّنة، لجهة قدراتها العسكرية المعلوماتية منها والفضائية والبحرية، من نظيرتها الأميركية... أن تُصَدّ عن مزيد من التخادم الوظيفي مع إفريقيا وأميركا اللاتينية، بل وأن تُجلى عما نفذت إليه إن توافرت الاستطاعة...أن تؤلّب الهند الصينية والفيليبين على حوضها البحري وكنوزه... أن يتلاعب بنسيجها الإثني تحريضاً لمسلميها الترك وتيبيتها البوذيين على الأغلبية الهانية الساحقة... وأن تمكن المسيحية الغربية مع الانتشار طابوراً خامساً جيوديني... فضلاً عن استيلاد دول، مصانع رخيصة، وفي البال هنا جنوب شرق آسيا وبنغلادش وغيرها.
كيف تجابه بكين تلك التحديات؟ بالتركيز على اليابسة بديلاً عن المحيطات، لجهة الوصل والاتصال والتواصل: طريق الحرير الجديد بشعبتيه: واحدة إلى البلطيق وأخرى إلى المتوسط ــ ناقلاً للبضائع والبشر... بأنابيب الطاقة الإيرانية والروسية والوسط ــ آسيوية، العابرة لباكستان ومينامار... بانضوائها في خيمة إستراتيجية واسعة مع موسكو أولاً، ومع غيرها من الأوزان ثانياً... بدأبها على بناء قوة بحرية فارقة تستبدل بالحاملات بمدمراتها... بسعيها لإخراج جنوب شرق آسيا من لجة التلاعب الأميركي بدوله في وجهها، عبر تأمين حصص مرضية لهم من درر بحري الصين الجنوبي والشرقي... وبتلطيها خلف كوريا الشمالية فزاعة تحذير لواشنطن أن هناك متهوراً ينغص حياتها، مفتاحه عندها.
لكن اللغم الأكبر في وجه الصين هو القطب الحائر، الهند: والشاهد أن اليمين الهندي بالذات وصفة وبال على الهند أولاً وعلى محيطها ثانياً، لكنه، وحتى وسط المؤتمر، لم يزل تحت رهاب ما فعلته الصين بهم خريف 62.
ما فتئت النخب الهندية تتأرجح بين مشروع تحالف مع واشنطن، يعتمدها وكيلاً إقليمياً في جنوب آسيا وصولاً إلى شرقها، متأثرة بهواها الأنجلوفيلي المتماهي، وبين تفضيلها نديةً أكبر مع الصين وقبلها روسيا، صديقة الماضي.
بعد الحديث عن جدلية العلاقة بين واشنطن وكل من موسكو وبكين وطهران، بل ودلهي، وبين الواحدة منهن والأخرى يصبح باب تأثير ذلك كله على العرب غير قابل إلا للولوج.
أرصد هنا مجموعة من ظواهر ومؤشرات:
1 – إن الرهان على خروج توابع واشنطن من الهامش «على» المتن لا أساس له، فبمقدار أفول المركز فالتوابع آفلون، ومن ثم فلا هم بقادرين على التمرد على السيد لحاجتهم في نهاية المطاف إليه، ولا أحوالهم من صنف ما يقيهم من غائلات الزمان.
أسطع مثال على ذلك أحوال آل سعود: يخوضون معركة صفرية في «الشام» لا قبل لهم بكسبها... يصطرعون، بخفوت، على العرش وحواشيه، فيما على رأسهم بريجنيف وشيرننكو من نسلهم... يفور مجتمعهم بعوامل السخط والتمزق والإملاق ... تكلسهم لقرن وعقد بلغ حدود الهشاشة... ونهبهم للثروة كسر كل الكوابح.
إن كان للمرء من قدرة استقراء فهي أن الحول عليهم قد حال.. ليس معنى ذلك السقوط، بالضرورة، بل انقضاء الحقبة والأفول لحد الكسوف.
2 – إن إسرائيل في حساب مالكها الأميركي تحتاج إلى تخفيض رتبة من وكيلٍ حارس إلى امتدادٍ محروس... يقتضي ذلك إقفالاً، وإن غير نهائي أو تام، لصراعها مع العرب، وفي الصدارة منهم الفلسطينيون، يتخذ شكل أوسلو ــ 2 مكبراً في الجغرافيا وممتداً في الزمان لعمر جيلين ونيف، لتكون للدولة المؤقتة جغرافيا تقترب من ثلثي جغرافيا الضفة الكلية، ويتم ترحيل القضايا الأساسية من عودة واكتمال تحرير وقدسٍ بجد وجثوم استيطان كبير إلى حين لا مرئي، وتكون الدولة مرعيةً هاشمياً، وأوتوستراد تعامل فسيح مع الخليج. عند واشنطن أن قوى الإعاقة معاقة.. وإلى حين، ثم إن النجاح في فلسطين معوض عن قليله في سوريا، وسانح في وقت يحسن انتهازه، وإلا فقد تفلت الفرصة دون ضمان سنوح لاحق... والحال أن حسابات واشنطن منطقية على السطح لكنها رجراجة في العمق، إذ إن «المحور» لا يستطيع غض الطرف عن المبتغى الأميركي دون نظيرٍ مرادٍ في الجولان.
3 – إن الملف الفلسطيني هو بالضرورة صنو لذلك السوري، فإسرائيل تلك منزرعة في «الشام» والصراع هو على «الشام» وهو الآن يدور في «الشام» كما عليها، ومن ثم فمن يود فهم ما يجري شمال «الشام» يحتاج إلى أن يتفحص ما يدور في جنوبه... والكيماوي هنا ذو دلالة، بوليصة تأمين أمن إسرائيل البحت، فيما هي تنزل من مرتبة الوكيل إلى عتبة المحروس.
الملف السوري هذا لن يغلق إلا وانضواء سوريا في «المحور» قد تكرس... وانزراعها في الصرة الروسية قد تثبت... وبتسليم أميركي: هذا لجهة الاصطفاف الإقليمي والكوني... التسليم ذاك لا يتعارض مع سماح واشنطن للرياض بجولة قتال مستعرة جديدة في الشام علها تتيح لكليهما شطيرة من معادلة الحكم الجديدة، فإن لاقت النجاح نالا ذلك الوطر، وإن بائت بالفشل فلهما عزاء المحاولة.
4 – إن الفراق الإخواني ــ السعودي عابر للإقليم ومترجم في التعارض السعودي ــ التركي حول المشرق العربي ومصر بالذات... وذلك كله عامل إضعاف للطرفين، وعنصر جذب لتركيا والإخوان صوب إيران.
بالمقابل فغرام الخليج مع مصر السيسي لا يقف على ساق ثابتة، لا لشيء إلا لأن مصر لا تستطيع الانقياد إلى الأطراف فيما هي واحدة من المراكز .. فضلاً عن أن «الشام» عندها جناح لا تستطيع التحليق دونه، ولا ترضى أن يصادره طرفي مهما ثخنت محفظته، حتى وإن أجبرتها الظروف على ملاطفته لمشتركٍ ظرفيٍ جامع، ولمنفعة مستدرة من هذا المشترك ... يضاف إلى ذلك أن الأفول الأميركي يفسح المجال لمصر أن تمطط هامش مناورتها لحد الانفتاح الواسع على موسكو.. فإن تجذر الأفول انزاح بندولها صوب موسكو أكثر، وإن لم فهي منزلة بين المنزلتين.
والحاصل أن اقتراب مصر من «الشام» سيتكامل أكثر مع تطبيع لعلاقتها مع إيران، معطوفاً على تناءٍ عن تركيا ــ الإخوان، فيما بصرها يمتد غرباً بنظرة صقر نحو ليبيا، بما هي مصدر تهديد من جهة ومنبع فرجٍ من جهة أخرى، لا سيما أن عوائق الافول أقل قدرة على الإعاقة مما كانت عليه قبل ثلث قرن.
5 – إن السلفية الجهادية تحارب معركة عمرها في «الشام» بالتخادم مع مخابرات إقليمية عدة، ولكن بأجندة مستقلة عن أي منها: تكرار مكبر لسالف تخادماتها مع الأميركيين والباكستانيين والسعوديين والسوريين... وكلها انتهت بارتدادات قاتلة عليهم وفي داخل حدودهم.. والمثال السوري أسطع من ساطع: ظنت واشنطن أن فتح الحدود مع سوريا أمامهم، واصطراعهم مع الجيش السوري تلواً، كفيل بتكسيح الطرفين وانتشال سوريا من ضفة «المحور» إلى شاطئ الناتو، وبذا يكون كسبها مضاعفاً.
ما جرى هو أن كلاً من الجيش، وحلفائه، والقاعدة قد تقوّى بمعمودية النار والخبرة، فيما الكونترا التابعة لتوابع الولايات المتحدة الإقليمية تتهشم مع دخولها عامها الثالث، بل وتتكسر نصالها بإيقاع دالّ.
ولما كان خطر القاعدة في المديين الوسيط والأبعد كوني الطابع وعابر ــ إقليمي فتحمّل تجذره في بلد فالقيٍّ كسوريا غير وارد، ومن ثم فبالمفاضلة يكون الجيش أهون الشرين.
هزيمة القاعدة في سوريا لن تكون فارقة فحسب بل فاصلة.. بل وإن أثقال تلك الهزيمة شبه كفيلة بإيصال الإسلام السياسي ذاته إلى حدود التواضع والرضا بأن يكون شريكاً قنوعاً في اللعبة السياسية، على مثال الأحزاب الدينية الإسرائيلية، لا متسيداً عينه على الاستفراد.
6 – إن الخيمتين الكونيتين ليستا كتلتين صمائتين بل تجمعين مرنين في الشكل والمضمون: ليسا في صراع تناحري دائم، بل في تناقض تتخلله مساحات توافق، بعضها شامل للخيمتين، وبعضها عابر لهما ممتد بين عمودين، كل من واحدة (روسيا وألمانيا، روسيا وكوريا الجنوبية). والحال أن مكان العرب الأكيد هو في الخيمة الأوراسية بامتياز... هناك الشرق غير الاستعماري، وتراث التعاون القديم، واستهداف الغرب اللاتيني ــ الأنجلوساكسوني منذ منتصف السادس عشر، فضلاً عن تعاظم المصالح المشتركة في الطاقة والسلاح والتجارة والتقانة والأمن والثقافات.
ليس معنى ذلك بالقطع قطيعة ناجزة مع الغرب بل تواصل مع الأقل أذى فيه أملاً بسريان عداوه لمعشر خيمته... وحتى حينذاك فبكل الحذر التاريخي اليقظ.
7 – يثور السؤال عند العرب: لماذا هذا الانفراج الإيراني الأميركي وما هي تأثيراته ؟... والحاصل أن تذكرَ كونه حاجةً هو الفرض، وأن رغائب واشنطن بعد الحاجة نوافل... توطد «المحور» مكانةً وقدراً أضحى أمر اليوم... انعكاس ذلك سلباً على «التبعية العربية» هو أمر اليوم التالي... وفي المحصلة فالخائبون كتركيا، أم الحائرون كمصر، سيجدون في «المحور» حليفاً، إن لم يكن مكاناً.. وكله تحت الخيمة الأوراسية. يأخذنا ذلك إلى فكرة جيوستراتيجية ثابتة عندي وهي أن ثلاثة قوائم مطلوبة كي تقوم للشرق قائمة هم العرب والترك والفرس (عتف).. لكن شرائط ذلك هي: مرجعية عربية مركزية، أقلها في سوراقيا عربية... تركيا لأناتوية... وإيران متخففة من رهاب القومية العربية. «عتف» هذه لا صلة لها بدعوة المشرقية المفتعلة، إذ إحدى ركائزها هي العروبة، وليست هي ما تفر منه المشرقية وتزوَرّ عنه.
والشاهد أن مشتركات الثلاثة (بتوافر الشرائط) هي من الوفرة ما يفيض عن أي مفرّق... فسلامة إيران الإقليمية يؤمنها عراق موحد، وعراق موحد لا عاصم لوحدته إلا عروبته (85 % من مواطنيه عرب)، كما أن أمن إيران يكفله، في حيزٍ فارق منه، عراق مسالم بل صديق، وعراق صديق يعني إحساس كل مكوناته بالطمأنينة من الجار الكبير، كما في حاجته للارتكان إلى نأيهم عن الخصومة... تركيا لاناتوية تعني زوال التهديد الكامن لكل من سوريا والعراق، ولعل بروفة 57 وكارثة 11 ــ 14، أفدح دليل على تلك المقولة.
واللافت أن إخوان تركيا، أو القريبين من أجوائهم، هم كانوا، ومافتئوا، اللاهثين وراء الناتوية والملتزمين مسارها: مندريس كان من ضم بلده للناتو وحارب معركة حلف بغداد لحسابه... أوزال كان من شارك في حرب الناتو على العراق 91، عبر اشتراكه في خنق الاقتصاد العراقي... أردوغان كان من رغب بالاشتراك في غزو العراق 2003 لولا ثورة قواعد حزبه وتمنع ضباطه العظام... وهو ذاته الذي ارتكب حماقة عمره في «الشام» بخلطةٍ ناتوية ــ نيو عثمانية بائسة... الاستثناء الوحيد كان أربكان، والذي لم يطل به المقام في الحكم إلا عاماً.
8 – ولنلحظ أن الأفول الأميركي ليس بالضرورة من أحوال الدوام، لا سيما أن عودة اعتلائه ناصية الطاقة كما كان الحال قبل عام 70 تعني تنامي قدرته على المناورة، وبعلم أن واشنطن خير من لعب على أوتار تباينات خصومها، أو من تفترضهم كذلك، ومن اقتات على ضرب هذا بذاك والخروج بكسب... ولعل إيقاد جذوة الفتنة المذهبية أبلغ مثال... فضلاً عن تحريضها الهند على الصين، وأوكرانيا على روسيا وهلم جرا.
صعود أميركا من جديد يستلزم تعرض كل من الصين وروسيا لأعراض الوعث والوهن، كما سبق استعراض كوامنها، واستبقاء الدولار عملة العالم، ووقوع كل من الصين وروسيا وإيران في حبائل الوقيعة وإعلاؤهم التناقض الثانوي بين أحدهم والآخر على الرئيس.
9 – ولنلحظ أيضاً الأمر الأهم وهو أن الطريق الوحيد لوضع مكونات «عتف» في أحجامها الطبيعية، وفي تملّك حيزٍ فارق من خيمة أوراسيا، وفي حبس الناتو عن الاختراق والتمدد، وفي عصرِ إسرائيل إلى فاتيكان يهودية .. كله يشترط بالضرورة عروبة فحواها الجيوستراتيجيا لا الأيديولوجيا، إذ هي في التحليل الأخير فعل ضرورة لا جميل إضافة... هي حاجة حياةٍ لأمة، لا تتويج كرنفالي لصيرورة.
هنا الدور وهنا القدرة وهنا القدْر.. ذلك كله لمن تتسع همتهم لآمال أمتهم... هي في العلا وأقدامهم على أرض الحقيقة.
* كاتب عربي
(محاضرة ألقيت في الأونيسكو – بيروت - 18 / 11 / 2013)