يحار المرء أمام هذا الاندفاع الجارف، بين معشر قادة هذا العالم، لكيل المديح لنلسون مانديلا، علماً بأن جلّ هؤلاء القادة، إن لم يكونوا جميعاً، هم من المتسلطين متسلطون بالوكالة أو مباشرة، على الشعوب القبلية في البلاد المتخلفة دعماً للتخلف.بصرف النظر إذاً عن الجدية النسبية التي تسم عادة سلوكية الدجالين في وداع العظماء وعن تفوّههم في مثل هذه المناسبات بكلام لا يعدو خداع ألفاظ، فإن الراحل العظيم نلسون مانديلا يدعونا بداهة إلى أن نحفظ عنه أنه مناضل ضد التمييز العنصري وضد الاستعمار الاستيطاني.
اللافت للنظر هنا أن المستعمرين الإسرائيليين تغيبوا عن المشاركة في مراسم تشييع مانديلا تحت حجج واهية من نوع أن تكلفة الرحلة إلى جنوب أفريقيا مرتفعة! هذا لا يمنعهم طبعاً، من تحمل نفقات احتلال سماء لبنان على مدار الساعة، بواسطة طائراتهم الحربية.
يجب أن نعترف لهم بأنهم منطقيون مع أنفسهم، فهم لا يضمرون المحبة والاحترام لمانديلا. مرد ذلك إلى موقف الأخير من القضية الفلسطينية كما نتبيّنه من خلال خطاب يقول فيه إن هذه القضية لم تبدأ في حزيران سنة 1967، ولكنها تتواصل منذ سنة 1948، حيث إن المشكلات التي نجمت عن إنشاء الكيان الإسرائيلي لم تحل. وهنا يضع النقاط على الحروف: حق عودة اللاجئين والمساواة بين الناس. إن نضال الفلسطينيين من وجهة نظره ليس من أجل دولة، وإنما من أجل الحرية والتحرر والمساواة. لا تريد إسرائيل دولة فلسطينية وإنما عملية فصل «أبارتهايد» وعزل في «بانتوستان» أو محميات كتلك التي حاول تطبيقها نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا. أما الهدف من ذلك فهو إظهار «يهودية إسرائيل» والمحافظة عليها عن طريق «تطهيرها» من العرق العربي. يذكر مانديلا في الخطاب نفسه أن نسبة كبيرة من الإسرائيليين هم عنصريون ويعبرون عن ذلك بأقوال كمثل «أكره العرب» و«أتمنى الموت للعرب». وأخيراً لا ينسى أن يشير إلى أن لدى الجهاز القضائي الإسرائيلي مقاربتين مختلفتين لحياة الإنسان، بمعنى أن حياة الفلسطيني هي على درجة أدنى من حياة اليهودي.
مجمل القول إن دولة المستعمرين الإسرائيليين لا تزال تطبق نظام التمييز العنصري، الأبارتهايد، رغم تخلي حلفائها في جنوب أفريقيا عنه بعدما اقتنعوا بأن مثل هذا النظام لا مستقبل له، إذا ما اعترضته حركة تشبه المؤتمر الوطني الأفريقي (ANC) وقائد شديد الشكيمة من طينة منديلا.
ما يحمل في إطار هذه المقارنة بين المستعمرين الإسرائيليين من جهة والعنصريين البيض في جنوب أفريقيا من جهة ثانية، على الملاحظة أن قادة الغرب، أصدقاء المستعمرين الإسرائيليين حضروا جميعاً إلى جنوب أفريقيا لوداع جثمان مانديلا. يحسن التذكير هنا بأن الأخير ما كان لينزعج من هذا الحضور. ألم يكن ضد الفصل العنصري، الأبارتهايد، والحصارات والجدران؟ هل أراد قادة الغرب وكثيرون من بينهم كانوا يصفون مانديلا بالإرهابي، التعبير عن ندمهم على ما فعلوا. لا أظن في هذا السياق أن الإدارة الأميركية محت اسم مانديلا من على لائحتها الخاصة بالإرهابيين؟
يخادع المستعمرون ويبدون أسفهم عادة بعد مضي سنوات على اقتراف جرائمهم. يطلبون المعذرة من أحفاد أحفاد ضحاياهم. طلبوا المعذرة من يهود أوروبا على ما صنعوه ضدهم عندما تولتهم العنصرية بحماها في النصف الأول من القرن الماضي. طلبوا المعذرة أيضاً من الأفارقة الذين كانوا ينقلونهم إلى أميركا لبيعهم في أسواق النخاسة، وكذلك قدموا الاعتذار أمام الهنود الحمر أو من بقي منهم في المحميات. لم يندموا بالمناسبة على ما فعلوا في الجزائر... لم يحن الوقت!
تأسيساً عليه، كيف نفهم وقوف رؤساء الولايات المتحدة الأميركية وإنكلترا وفرنسا أمام نعش مانديلا احتراماً وتقديراً، رغم السياسات العدوانية التي يتبعونها ضد الشعوب في سوريا ومالي وأفريقيا الوسطى وغيرها، وبعد المجازر التي ارتكبوها في العراق وليبيا؟ ومن المعروف عنهم أيضاً أنهم أصدقاء وحلفاء للمستعمرين الإسرائيليين الذين يطبقون بشهادة مانديلا نفسه، نظام الفصل العنصري الأبارتهايد. كأن مانديلا أبى وهو يترك هذا العالم إلا أن يسخر من قادة المستعمرين ويظهر صلافتهم وانتهازيتهم. فهم يقبلون الأبارتهايد إذا كان الذين يفرضونه أصدقاء لهم، ويتغاضون عن الإرهابيين إذا كانوا هم الذين أوكلوا إليهم ارتكاب جرائم القتل والتهجير!
يلزم التذكير هنا، لعل الذكرى تنفع، وفي إطار المقارنة التي نحن بصددها، بأن الزعماء الفلسطينيين سلكوا نهجاً معاكساً، أو بالأحرى مضاداً للنهج الذي سار عليه مانديلا. فهم ارتضوا بتقسيم الضفة الغربية إلى محميات «بانتوستان»، بعدما تخلّوا بموجب اتفاقية أوسلو عن 78% من فلسطين، ووافقوا ضمنياً على إلغاء حق العودة وعلى «يهودية» الدولة في فلسطين المحتلة وعلى جدار الفصل العنصري. بتعبير أكثر صراحة ووضوحاً، قبلوا بنظام الفصل العنصري «الأبارتهايد» الذي يريده المستعمرون الإسرائيليون غشاوة للآثام التي ارتكبوها بحق الفلسطينيين بوجه خاص وشعوب المنطقة بوجه عام، خوفاً من لعنة التاريخ.
يبقى أن نقول إن «الثورات» العربية التي أهلّ هلالها في العراق بشعار «اجتثاث البعث» وإعدام الرئيس صدام حسين شنقاً بينما كان يقرأ الشهادتين و«عاشت فلسطين»، في صبيحة يوم هو أقدس أيام الإسلام، والتي أدمس ليلها في سوريا، فإذا بها ثورات إجرامية فاشية توكلت بالفصل وبتطبيق الأبارتهايد بحسب خريطة طريق أميركية ـــ إسرائيلية. تفرقة الناس على أساس عرقي وطائفي ومذهبي هي من صلب نظرية الأبارتهايد. ثوار آل سعود ينفذون في سوريا، التطهير العرقي، عن طريق ارتكاب المجازر لترويع الناس وإجبارهم على النزوح عن ديارهم، بالإضافة إلى محاولاتهم المتكررة وضع المتفجرات في الأماكن العامة ورمي قذائف الهاون عشوائياً على الأحياء السكنية. ألا تماثل هذه الأفعال الشنيعة أمامنا جرائم المستعمرين الإسرائيليين في فلسطين؟
من البديهي أن نظام آل سعود كمثل نظام الأبارتهايد في أفريقيا الجنوبية لا مستقبل له. وأن نظام الأبارتهايد الإسرائيلي لا مستقبل له أيضاً. مهما تطلب ذلك من تضحيات. السلطتان الفلسطينيتان كمثل قادة المحميات العشر في أفريقيا الجنوبية، لا مستقبل لهما. أعلن المؤتمر الوطني الأفريقي «ميثاق الحرية» سنة 1955 وظل متمسكاً به حتى تحققت الأهداف، بعكس مواثيق حركة التحرر الفلسطينية والعربية التي تبدّلت وتحولت إلى اتفاقيات أسماؤها: كامب ديفيد، وادي عربة وأسلو وثورات من أجل فرض الأبارتهايد. لم تتحقق الأهداف، بل ألغيت!
* كاتبة لبنانية