للمرة تلو المرة سأعيدُها لأصدقائي الذين أحب ولبقيةٍ من عُقلاء سوريين ما زالوا مُصرّين على تمريرِ إعجابِهم بالمرحلة الديموقراطية التي عاشتها سوريا في الخمسينيات على اعتبار أنها أفضل المراحل التي اجتازتها بلادنا في تاريخها المعاصر.وفي كلِّ مرةٍ قُلتُ وسأقول ما معناه ما يلي وبدون محسنات بديعية، وبكلمات مباشرة لا تخفى عمن يريد لب الحقيقة وكنهها:
الديموقراطية في سوريا في نهاية الأربعينيات والخمسينيات كانت وفقَ نسقِ ما أفضّلُ تسميتَه «ديموقراطيةُ العلاك وطق الحنك»، ومثالُها المعاصر ديموقراطية لبنان وهي طريقةٌ تصلحُ في حديقة هايد بارك وبعض شوارع الهيبز والبيتلز في السبعينيات، ترفٌ فكري لنخبٍ بورجوازية إقطاعية وعوائل أرستقراطية مملوكة
ومالكة.
في هذه الفترة التي يفضّلُها بعضُ الهاربين من صراعات الواقعِ، كانت سوريا موقعَ نفوذٍ متغيرٍ للاستعمار البريطاني _ الفرنسي _ الأميركي واستطالاته في المنطقة، وفيها سيقت سوريا من رقبتها وقِيدت وكثُرت فيها الانقلابات حتى دخلت في موسوعةِ أكثر الدول التي حدثت فيها انقلابات.
الجانب الأهم في تلك الفترة هو حالة التخلف والأمية والفقر والاستغلال، التي كانت تعانيها الأرياف والمدن السورية.
وأنا كريفيٍ من حلب ما زلتُ أتذكر أسماء إقطاعيين وبورجوازيين حدثني عنهم أبي، مثل: رأفت بيك ومدحت بيك و... كان الواحد من هؤلاء البيكوات يملكون قرى عدة بمن عليها، وتُسمى القرية أو الضيعة باسم بيكها أو مُدبِّرها المُرابع مع البيك، وبإمكان الجميع تخيل المظالمِ المتوقعةِ في مجتمعٍ تحكمُه علاقاتٌ بدائيةٌ أشبهُ بالرقيق.
بينما في المدينة احتكرت فئةٌ أخرى مناحي الحياة بما فيها السياسة والتعليم والعمل والاستثمار في المصانع واشتهرت عائلاتٌ في سوريا بالسياسة، وبات على السوريين رؤية نخبها، الأطباء والسياسيين وكبار أصحاب المصانع من تلك الفئة أو الطبقة التي تتشكل من أسر تقليدية تعاملت بحذلقة ومهارة التجار مع مرحلة جلاء المستعمر من
سوريا.
عاش أبناؤنا وعشنا الزمن الذي أفِلت فيه أيام أولئك البورجوازيين والإقطاعيين، ولم يعدْ يُذكرون إلا من باب استنطاق التاريخ وأخذِ العِظة بعدما جاءت الستينيات والسبعينيات وحدثت الثورة في طبقات المجتمع فتوزعت الأراضي الشاسعة على زارعيها، وكذلك صار بأمر المصانع وانخرط الريفُ في صلبِ السياسة والتعليمِ والاقتصاد وقُضي على الاحتكار الفئوي لهذه القطاعات.
في ما بعد تحولت سوريا _ بعد حرب تشرين ودخول لبنان من مكانِ تنازعٍ دولي وإقليمي إلى لاعبٍ أهم في المنطقة يملكُ كلَّ ملفاتِ المنطقة، وكلمتُه هي القول الفصل في تجاذب المصالح الدولي والإقليمي على الهيمنة على المنطقة، تحقق ذلك بدماء آلافِ الشهداء وتفكير سياسي قومي مبدئي قرأ الماضي واستشرف المستقبل، فبُنيت سوريا القوية الموحدة، دولة المواطنة الحقة، دولة التنمية البشرية والاجتماعية.
شابَ المرحلةَ _ ككلِ الأنظمة في العالم أخطاءٌ وعثراتٌ أثّرت على انطلاقة المشروع وعلى غلة حصاده النهائي، ولعل أبرزها التسلط الأمني في مفاصل الدولة، والتزاوج غير الشرعي بين بعض أصحاب السلطات الفاسدة مع بقايا الرأسماليات التقليدية في المدن الكبرى، ما شكل طبقة هجينة مؤلفة من ريفيين في السلطة مع بعض تجار فاسدين من أهل المدن، أصبحت هذه الطبقة كتيمة غير قابلة للنقد بعدما تغطت بالأيديولوجية القومية وحمت ظهرها بعصا الأمن الغليظة.
اليوم، وبعدما «ثار» بعضُ الريف السوري على مدنه وسلطته لأسبابٍ مختلفةٍ، قليلُها داخلي مُحقّ، وكثيرها خارجي تابع لأجندات دولية وإقليمية واهمة، فإن هذا الريف ينتفضُ على أبنائه «الريفيين» في السلطة، وها هو يحطم كل إنجازات دولته في قرابة خمسة عقود، وهي مكاسب للطبقات المتوسطة والدنيا بعدما أفرغت الأجندة الدولية مع بعض جُهالِ الوطن وأتت على أسواق حلب وكبار صناعيها وتجارها.
يحقُّ الآن لكثيرٍ من الأسر التقليدية من بيت الأتاسي والجابري... وما شابههم الدفاع عن تلك الفترة وصبغها بكل أنواع الحرية السياسية والديموقراطية وتداول الانقلابات فهذا لا يخفي على أقل قارئي تاريخنا القريب نباهة أن سوريا كانت لهم وحدهم وكان معظم السوريين يعملون عندهم.
لكن لا يحق لهم أن يستخدموا أولاد مملوكيهم أو مرابعيهم في جوقة الطبالين والزمارين لإطلاق ألحان زائفة عن ديموقراطية سوريا في الخمسينيات، بينما كان كل الريف يغرق في ظلام دامس وتخلف وعبودية وفقر.
ستُقابل هذه الجوقةُ بمئات الألوف وربما الملايين من أولئك الذين درسوا في المدارس والجامعات المجانية وتعالجوا في مشافي الدولة وارتقوا الطبقات الاجتماعية بعدما أمّنت لهم الدولةُ الظروفَ الملائمة، كثيرٌ منهم نسلٌ من أولئك الفلاحين والعمال الصغار _ وأنا منهم _ رأوا قُراهم ومدنَهم وهي تُبنى حجرةً حجرة ومدماكاً مدماكاً وشاهدوا بلدهم وهو يعمُّه النورُ وضياءُ العلم وتطورُ الخدمات الاجتماعية واقتنعوا بدور بلدهم في الرباط والدفاع عن مقدسات العرب والمسلمين في فلسطين والمنطقة.
فأعلنوها بدون مواربة أو خوف أو وجل بأننا سندافع عن مكتسبات الفقراء والطبقات المستورة في هذا الوطن العظيم المشرف بأسناننا وسنحفظها بين القلوب وأضلعنا وسنتابع رسالة هذا البلد الحضارية الإنسانية، وسنكون مستعدين لسفك دمائنا رخيصة في سبيل المحافظة عليها أمام أي تيار هدّامٍ يريدُ فرضَ نسقِه بالقوة ومحدوديةِ التفكير أو لدى التصدّي للتتارِ والمغولِ
الجدد.
* كاتب سوري
4 تعليق
التعليقات
-
البعثوماذا عن الستينات وهي الفترة التي شهدت هزيمة 67 عندما كان حافظ الاسد وزير دفاع، وحين انقلب على زملائه واودوعهم السجون حتى ماتوا من شهد تلك الحقبة يقول انها كانت جيدة من حيث العدالة الاجتماعية قبل ان يتصالح الدكتاتور الطائفي مع برجوزاية المدن
-
حرية الكرش الخليجيكل مرة يطالعنا الرأي القائل أن سورية كانت تعيش ديمقراطية غير شكل. يا جماعة لاينفع معنا نحن العرب الأمة الأمية الا ما قاله صاحب التعليق الأول الديكتاتور الرحيم أو المستبد العادل .....هذا تاريخنا وفيه الحكم أما الشرط الأخر فهو تعميم الوعي والثقافة والقضاء على الفقر والعوز لأن صندق انتخابات بدون توفر الأمو السابقة سيقع في جيب أبو متعب أو سعدو أو أي كرش خليجي واسع و شايفين شو سوت الحرية في بلداننا العربية ومن هم عرابوها تحياتي للكاتب ...كلمة حق في زمن الحرية المزعومة وقطع الروؤس
-
كم كنت أنتظر هكذا مقال!تحية للكاتب ولجريدة الأخبار بالفعل، الفترة القصيرة التي عاشتها سوريا مما تعارف عليه باسم "الديمقراطية" كانت في معظمها كلام فارغ وقشرة جميلة براقة تغطي كتلة كبيرة من العفن الإقطاعي وبرجوازي وأرستقراطي وسلبياتها التي ذكرها المقال أعلاه. واليوم يريدون لنا ذات المثال "الديمقراطي" القائم على "العلاك وطق الحنك". وعود خليجية بتحويل سوريا إلى ألمانيا أو يابان الشرق الأوسط! ألم نسمع تلك الوعود سابقاً للعراق بعد صدام؟ ولليبيا بعد القذافي؟ ألا نتعلم نحن العرب أبداً؟ إلى متى ستستمر شعوبنا تقع في ذات الحفرة؟
-
نصف الحقيقة = الكذبأحترم من يقول الحقيقة كاملة، لا من يقول نصفها. نعم شهدت الخمسينات والستينات ديمقراطية " العلاك وطق الحنك " لكن هل شهدت السبعينات والثمانينات حقاً بناء دولة " المواطنة الحقة" كما يقول الكاتب؟ أجزم بالنفي وان كنت لا أجزم حتى الآن أي المرحلتين أو النظامين السياسيين كان الأفضل. الديمقراطية في بلادنا لم تنفع - على الأقل حسب ما رأيناه ونراه - والديكتاتورية المتوحشة بالتأكيد لن تنفع، فما الحل؟ أتمنى من بعض المفكرين الذين نحترم عقولهم ويحترمون عقولنا إعطائنا إجابة مقنعة دون الوقوع في فخ حتمية وجود إجابة لكل سؤال ! إذ أنني بت أخشى الوصول إلى قناعة مشابهة لقناعة البعض بأن أقصى مانتمناه هو " الديكتاتور العادل" !