في عمر جيل مرّ العالم بأطوار ثلاثة عكَس تسارع إيقاعها طبيعة العصر بما وسعه من ثورة في الاتصالات، وتدفق في المعلومات، وتشابك في المصالح بالسلب والإيجاب: أولها، كان خروج الاتحاد السوفياتي من سباق الحرب الباردة لخوار موارده بالقياس مع أعبائه (وكان للرسمية العربية دور فارق في إيصاله للإفلاس عبر إغراق السوق النفطية وإيصال سعر البرميل إلى 6 دولارات عام 1986)، وصولاً إلى انهياره وتشظيه في فترة عامين (نوفمبر 1989 ــ ديسمبر 1991)... كانت النتيجة أن تربعت الولايات المتحدة على عرش الكون، ما بين سقوط حائط برلين وحتى عشية ضربة 11 أيلول 2001، دونما أدنى منازع .وكان ثانيها، العقد الممتد من 11 أيلول 2001 وحتى 3 أيلول 2013، والذي احتفظت فيه الولايات المتحدة بهيلمان العرش، وإن من دون راحة التربع وطاووسية الترفع، وهي التي راهنت على أن استعراض القوة في أفغانستان معطوفاً على اجتياح العراق (المضعَف بـ13 سنة من الحصار الكوني الشامل والخانق) كفيلان باستعادة وتأمين تلك الراحة وذلك التطوس، وبردع القوي عبر ضرب الضعيف (وتلك عادة استمرأتها الولايات المتحدة في معظم حروبها).
كانت النتيجة أن غرَق الولايات المتحدة في أوحال غرب آسيا تكفّل باستنزاف مواردها إلى حدّ التهديد بالنضوب، فضلاً عن انشغالها عن نهوض قوتين منافستين: روسيا والصين، اهتبلتا فرصتيهما على أكمل وجه فوصلت الأولى إلى أن أعادت الاعتبار لقوتها العسكرية بما يجعلها، وهي إحدى اثنتين تملكان قدرة التدمير الشامل المتبادل، قوة كونية كبرى، لا إقليمية عظمى فحسب. كما انتهى إليه حالها ما بين 1991 ــ 2001، وبلغت الثانية إربها بأن أضحت القوة الاقتصادية الثانية في العالم، بل والمقتربة من أن تكون الأولى ــ مكرر في غضون عقد، فيما هي ساعية إلى تملّك قوة عسكرية رادعة تتميز بإبطال مفعول وسائط الهجوم المهولة بدلاً من بناء مثيلاتها، أمرٌ يسحب من الموارد ما فوق طاقة الاحتمال.
وما أن دلفت العشرية الثانية من الواحد والعشرين إلا وكانت تباشير الطور الثالث من عمر جيل هي ولوج الولايات المتحدة إلى عصر الأفول.
هنا أستدرك بالقول أن تعريف الأفول يخالف ويختلف عن مدلول السقوط؛ فالأول انحسار متدرج للقوة الشاملة ــ بين خشنة وناعمة ــ من مرتبة التسيّد إلى عتبة التميز.. والانحسار نوعان: المنظم والعشوائي، يهمنا هنا الأول بما هو بالضبط ما تسعى الولايات المتحدة ــ تبدو الآن أقرب إلى النجاح ــ إلى إنجازه بيدها لا بيد الآخرين، وبإيقاعها لا على نوتة الغير، وبأولوياتها لا وفق هوى الخصوم.
السقوط بالمقابل هو الانهيار الزلزالي الذي يفضي إلى الانتقال من سيدٍ إلى مشروع تابع، كما بدا لوهلة مصير روسيا في عقد التسعينيات من العشرين.
أما الأفول العشوائي فهو ما تدنت إليه بريطانيا مع حرب السويس وفي أعقاب حربين عالميتين أشعلتهما دون وغير داع.
خيمتان وحائرون
للمرء أن يؤرخ إرهاص الأفول يوم 3 أيلول 2013، حين تلمست الولايات المتحدة حقيقة أن شنها الحرب على سوريا سيفضي إلى حرب واسعة النطاق لا قبل لها على تحمل أوزارها، لا في الميدان ولا في السياسة، فعادت أدراجها بتبصّر العارف «بالبير وغطاه».
الأفول هنا هو الانتقال من القوة الأعظم إلى القوة الأقوى بين متساوييْن: هي، في المحصلة، الأعلى شأنا عبر البحار وفي الفضاءات... الأكثر تقدماً في العلوم والتقانة... العائدة إلى الاكتفاء في، بل وقدرة تصدير الطاقة... والجاذبة لأموال الغير لتدوّرها في أخضرها.
لكن ذلك شيء والقدرة على الأمر والنهي شيءٌ آخر تماماً: ذلك عصر ينقضي في هذه الأوقات... ولعل ما شاع عن قرن أميركي كان العشرين، انطبق جزئياً على نصفه الثاني، فيما تحوَّل توقع أميركية تالية إلى أثر بعد عين، لأنه ببساطة قرن أوراسي بامتياز.
ما الذي تعنيه الأوراسية هنا؟ هي من جانب معطىً جغرافي وإن متبايناً في الحمولة، ومن جانب آخر معطىً جيو سياسي يتجاوز حدود الجغرافيا إلى تخوم الكون (أوراسيا هنا هي روسيا والصين وإيران مثلاً، كما هي البرازيل والأرجنتين وجنوب إفريقياً).
ما الذي يعرّف الأوراسي: ذاك الذي بالسلب يقاوم سعي الولايات المتحدة إلى الهيمنة الكونية الشاملة، وبالإيجاب يعلي من شأن المشتركات بين مكوناته فوق تلك المفرّقات.
الأوراسية خيمة جيو استراتيجية واسعة متعدّدة الأوتاد ذات الارتفاعات المتباينة، تناظرها خيمة ناتوية مقابلة بذات المواصفات وهي كما خصمها أوسع في الجغرافيا من ضفتي الأطلسي لتمتد إلى آسيا (اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والسعودية والفيليبين مثالاً)، وفي إفريقيا ( إثيوبيا وكينيا مثالاً).
خارج الخيمتين تتناثر أنواع ثلاثة من الدول: أقطاب حائرون بينهما (الهند وإندونيسيا مثالاً).. دول متوسطة أو صغيرة أقرب إلى أيهما (زيمبابوي وسريلانكا وقازاخستان وسوريا أو كولومبيا ومصر وباكستان)... ودول متوسطة أو صغيرة هي في منزلة بين منزلتين، أي تخشى من عمود خيمة هنا ولا ترتاح إلى عمود خيمة هناك (دول جنوب شرق آسيا نموذجاً).
والحاصل أن سمةً تتصف بها مكونات الخيمتين هي سيولة انسياب أو تواصل وظيفية النفع لطرفيها على الجانبين المتقابلين: (مثال الشراكة الروسية ــ الألمانية).
كيف تجلّى التعارض بين الخيمتين؟ في سعي الولايات المتحدة الحثيث لحصار روسيا توطئة لاختراقها، فبتحلل المنظومة الشيوعية أعادت واشنطن إنتاج الناتو ليصبح ذراع التدخل الكونية في العموم، وأداة التمدد إلى تخوم روسيا من الغرب والجنوب وما بينهما على وجه الخصوص... روسيا هي القوة الأخطر والأقدر في عرف المؤسسة... نحوها كراهية ممزوجة بالحساسية ومختلطة بالخصومة، تندخل كلها كسبيكةٍ في تلافيف العقل الجمعي الناظم للمؤسسة... لكن تشريحاً وئيداً للظاهرة يوفر تفسيراً لا ناقض له، فحواه أن تلك الروسيا سبق أن تحدت الغرب لعقود سبعة، مخلفة موروث صراع مستقر في الدواخل، لا سيمّا وهي من تملك ترسانةً نووية مكافئة، وهي موطن الموارد بلا حدود، وصاحبة التاريخ التليد والثقافة الزاخرة، والتي تتمدد فوق قارتين، ما يكفل لها نفوذاً حاسماً في كليهما.
رأس روسيا
كان مطلوباً رأس تلك القوة التي لم تستطع محاولة الإملاق والانتهاب طيلة تسعينات العشرين إيصالها لخفض جناح الذلّ من المسكنة، بل وغذّتها بنوازع الانتقام والثأر وغسلت من أذهان مجتمعها أي غرامٍ تطارحوه مع المثَل الغربي في العقود الثلاثة الأخيرة من عمر الإمبراطورية السوفياتية. والحق أن الانهيار السوفياتي شبه الشامل لم يصل حد تخلّي روسيا عن القدرة النووية، كما فعلت أوكرانيا وكازاخستان، بل حرصت بتصميم منقطع النظير على الاحتفاظ بالترسانة النووية دون مسّ، ليعود الفضل في ذلك أولاً وآخرا إلى المؤسسة الأمنية ــ العسكرية متحالفة مع الصناعات العسكرية.. أي النسخة الروسية عن المجمع العسكري ــ الصناعي الأميركي.
والشاهد أن نجاة قطاعي السلاح والطاقة من براثن أباطرة الليبرالية المتأطلسة هو ما كفل، في زهاء عقدٍ، عودة الروح للروسيا.
صاحب تمدّد الناتو إلى الحواف الروسية محاولة غزو الداخل عبر سبل عدّة: رعاية وتمويل «أنجزات» المجتمع المدني قاطرة اختراق لنسيج الأمّة... الضغط لتمكين المذهبين البروتستانتي والكاثوليكي من الانتشار، في مغالبة للمذهب الأرثوذكسي السائد رمز التمايز السلافي وصنوه... الوقيعة بين مكوني الأمّة الروسية: السلاف الأرثوذكسي والترك المسلم، عبر رعاية التمرد الشيشاني في التسعينيات والتململ القفقاسي الأصولي مذ ذاك.
لكن السبيل الأكثر راديكالية، الذي تجرّبه واشنطن منذ سنين دون كثير نجاح، هو حرمان روسيا من القدرة على توجيه ضربة نووية مضادة، أي التوفر على السيادة النووية الأميركية... من هنا حكاية الدفاع الصاروخي والتي لم تثبت بعد في امتحان الجدوى، لا سيّما أن المستهدف يحث الخطى نحو تأمين قدرة إبطال الصواريخ المضادة للصواريخ بمضادةٍ لها بالمقابل.
أفول المركز
يتساءل البعض: طيب لم لا تجد واشنطن وموسكو أو واشنطن وبكين لنفسيهما شراكة قيادة؟ والجواب أن تعبير شراكةٍ غير مندرجٍ في المعجم الجيو استراتيجي الأميركي، فحتى الشريك الأوروبي هو شريك ــ جونيور بالجملة، ومستتبع بالمفرق .. فما بالك ببني أوراسيا!.
لكن للأفول ضريبة متوجبة الدفع، يمكن للمرء تلمس قسماتها على النحو التالي:
1 – التخفف من أثقال الانخراط المديد والخاسر في غرب آسيا: الانسحاب من العراق (بتأثير المقاومة العراقية : 2003-2007) وأفغانستان سبيلاً.
2 – الاكتفاء بنمط من الحروب ــ تحت المباشرة يتمثل حزمةً ثلاثية الأبعاد: الخنق الاقتصادي... الحرب النفسية... والعمليات الخفية (الصراع مع إيران ما بين 2004 – 2013).
3 – الاشتغال على خطوط الفالق بين المستهدَفين بالترويض والاستتباع أميركياً: توجس روسيا من أي نفوذ خارجي ــ حتى ولو صينياً ــ في آسيا الوسطى... قلق روسيا من الندرة الديمغرافية في سيبيريا واحتمال استغلال الصين لها لدفع أحمال ديمغرافية ثقيلة إليها للعمل.. روسيا وتسعيرها لصادراتها من الطاقة والصين ورغبتها في أدنى الأسعار وهي المستوردة.. ثم هناك المثال الروسي ــ الإيراني: موسكو المتزاوجة بين حرصها على ألا تسترد واشنطن إيران تابعاً، ففي ذلك تطويق شبه كامل لحوضها القريب، وإعادة تأسيس لمنظومة قواعد عسكرية وتجسسية فيها تكفل اختراقاً معلوماتياً وأمنياً يصعب درؤه، وموسكو ــ بالمقابل ــ التي تعارض امتلاك إيران للسلاح النووي (لا القدرة السلمية) لما في ذلك من فائض قوة إقليمي سبق له أن كان طرفاً في حروب دامية أدّت إلى انتزاع القفقاس وآسيا الوسطى من فارس... هناك أيضاً الخلاف على تحاصص التشاطؤ القزويني (وتذليله ممكن) واحتمال التنافس على تصدير الطاقة الإيرانية (والعراقية) لأوروبا بما يمكّن الأخيرة من التحلل من إسار الاتكال، بثلث استهلاكها الطاقوي، على روسيا (حلولُ تناقضٍ كهذا ليست عسيرة في حال قامت شراكة روسية ــ إيرانية تنسق سياسات التسعير والتصدير والإنتاج والتوصيل).
4 – استثمار أوضاع داخلية قابلة للإشعال في دول «مارقة» تعرّضها لحروب بالوكالة، تخوضها بالنيابة كونترا خادمة أو متخادمة: المثال السوري شديد السطوع.
5 – السعي إلى ضرب خصمين لها ببعضهما البعض: القاعدة والنظام في سوريا راهناً، وإيران والعراق سالفاً.
6 – اجتذاب أقطاب حائرين لصفّها بالغواية والترهيب في آن: منافع التحالف ضد خصم تاريخي للاثنين (كل من الهند وفيتنام ضد الصين).
7 – استبقاء مصدري الطاقة من تابعيها العرب في حوزة الدولرة، والتي بدونها ينقلب الحال من أفول إلى سقوط، وبل ومدوٍ.
8 – تظهير حلفاء في صدارة مواجهات محدودة: القيادة من الخاصرة (مثال مالي الفرنسي، وقبله مثال ليبيا ــ متعدد الجنسيات ــ وقبل الاثنين مثال لبنان 2006 ..وهو الفاشل بامتياز).
9 – تفعيل خط الفالق السني ــ الشيعي في عالم العرب والمسلمين ليكون أخدوداً زلزالياً يعصف بمناعته وصحته وقابلياته.. والحق أن الحرب العراقية ــ الإيرانية كانت طلقة البدء الأولى، ليليها احتلال العراق صاعقَ تفجير على مقياس 7 ريختر، توالت بعده ارتداداته في لبنان ثم في سوريا ــ وعودةً إلى العراق ــ على أبشع منوال.
10 – تجريب اعتماد أوراق الإسلام الإخواني حاكماً في العالم العربي بحسبان أن شعبيته بدت حول مطالع الألفية وكأنها بلا منازع، وعلى خلفية أنه ليس مصدر تهديد، وهو الذي عاش عقوده الستة الأخيرة في كنف «التبعية العربية».. وبالرغم من الانزعاج من تبنيه نهجاً مقاوماً في فلسطين منذ نهاية الثمانينيات تحت ضغط الضرورات.. وبظن أنه ــ تحت الرعاية التركية المخضرمة والمجربة ــ قادر على جملة أمور: الانخراط في الصراع المذهبي حامياً لحمى السنة.. التهدئة المضمونة والمفتوحة مع إسرائيل.. وتعبئة مسلمي الصين وروسيا ضد دولهم بحجة الاستنهاض
والحقوق.
انتهى التجريب إلى فشل محقق في مصر حيث رفضت العسكرية المصرية، كما كل أطراف بنيان الدولة، شراكة الإخوان في سلطتها.. وإلى فشل أكثر دموية في سوريا وليبيا، كما إلى فشل جزئي في تونس، مما جعل واشنطن تضطر لمراجعة أوراق الاعتماد، توطئةً لسحبها بتدرج المضطر.
أفول بالتبعية
أفول المركز يترتب عليه تطوران في المحيط: أفوله بالتبعية، واتساع هامش حركته قياساً للمركز... بمعنى أن أفول الولايات المتحدة يعني بالضرورة أفول إسرائيل والأوروبيات ــ بتفاوت ــ والسعودية واليابان وتايوان... أيضاً يعني أنهم ــ بتفاوت ــ يستطيعون أن ينوسوا بين قعر التململ وسقف التمرد، إذا اختلفوا مع الكبير في ما يتصرف به بما يخصهم، أو خالفوه... مثال ذلك ما يصم الآذان من زعيق سعودي وإسرائيلي سخطاً على الانفراج الأميركي ــ الإيراني وتوجساً من مفاعيله.
من أهم تجليات الأفول اقتصاد القوى وترتيب الأولويات... عنى ذلك الانزياح شرقاً لأعماق أوراسيا حيث جائزة القرن، والارتحال عن غرب آسيا بتسكير خانات الاستنزاف فيها معطوفاً على تسويات إقليمية تُقرّ فيها واشنطن بما سعت طويلاً لنفيه عن خصومها، وتحتفظ معها بطلّة نافذة على حشايا ذلك الغرب.
كان غرب آسيا موطأ واشنطن الذي ظنته كفيلاً بتيسير قفزها اللاحق نحو الشرق فوجدته سبخاً يشد الأقدام إلى أسفل ويضرب كعوب أخيلها بالحت والتعرية.... موارد طاقته الآن فارقة لكنها غير فاصلة، بتوافر الصخريات في الشمال الأميركي بل وغيره... وإسرائيل فيه تتراجع من رصيد إلى عبء وظيفيين، دون أن يمس ذلك من قيمتها الاعتبارية عضواً متمماً في النسيج الأميركي الكلي.
ما يهم واشنطن من المنطقة، في العقود القادمة، هو نفوذ وازن لها في قرار الطاقة بما يكفل تقويض تأثير الصين وروسيا الحاسم عليه... وتأمين أمن إسرائيل المباشر، لا وظيفيتها أو توسعها، فلقد برهنت حرب تموز على انحسار قدرتها على الأداء... بجلاء , وأصبحت أسيرة معادلة ردع إقليمية تقعدها عن حسن الأداء في المجمل.
في غرب آسيا ملفات تحتاج إلى توضيب يسبق الارتحال، وتمتد ما بين هندوكوش وحتى بير العبد: هناك حاجة إستراتيجية موضوعية لانفراج مع إيران يعترف بها كدولة إقليمية عظمى بطلّة كونية، تقابلها حاجة إستراتيجية موضوعية لدى إيران ترفع عنها ضرّ العقوبات الخانقة وتفتح أمامها سبل تطوير قطاعها الطاقوي، بما لذلك من فائدة جمّة لمواردها وفائدة مناظرة لمطوّريه وبينهم كثرة غربية.
أشبه ما يكون الانفراج هذا بسابقه الصيني المدشن في تموز 71 بزيارة كيسنجر السرية لشواين لاي في بيجينغ، والمتوج بزيارة دينغساوبينغ لواشنطن في يناير 79، أي عبر قرابة عقد.
لم ينته الحال بالصين أن أصبحت حليفة للولايات المتحدة، ولا هي أرادت أن تكون خصماً لها، لا بل تعاملت معها بمزيج من مسالمةٍ مصابرة وندّية مثابرة وثبات مشتد العود باضطراد.
أشبه ما يكون حال إيران في المقبل الوسيط بالصين، مع اعتبار تسارع إيقاع الحوادث مذ ذاك: لن يكون الانفراج تحالفاً أو حتى وفاقاً بل تفاهمات وظيفية متعددة البؤر ومترابطة الحلقات، وإن دون تواقت أو حتى تعاقب سريع بالضرورة.
لن تتخلى إيران عن دورها شرق المتوسطي.. ففي تخلّيها تبهيت لمقامها الجيو استراتيجي بما لا يقل عن النصف، وحصرٌ لها في برزخ قزوين ــ الخليج، حيث آسيا الوسطى وخلفها روسيا من جانب ومحميات الجزيرة وحولها أميركا من آخر لا تتيح مدىً حيوياً وافراً... فيما أفغانستان مربط تجاذب بينها وبين باكستان والهند، فضلاً عن روسيا.
«سوراقيا» إذن حلفاً وامتداداً فعل ضرورة... تلك حقيقة تعكس أقانيم المشروع الإيراني الأربعة: الأقنوم الدولتي، وبه إيران الدولة تسعى إلى أوسع فضاء حيوي ممكن في محيطها القريب وما بعده... الأقنوم الشيعي، وبه إيران المذهب ترمي إلى استقواء معتنقيه حيثما الاستضعاف سائد: الخليج مثالاً.... الأقنوم الإسلامي، وبه إيران الاسلام تبغي أن تتوسد حيّزاً من صدارة عالم الإسلام: هي تعلم علم اليقين أن تفرّدها بها محالْ وأن حاجتها تلواً إلى شريك سني وعربي فرض عين... من هنا قيمة سوريا الجيوستراتيجية لها... والأقنوم العالمثالثي، وبه إيران النداء تروم إلى تشبيك أواصرها مع القارات الثلاث طلباً لتجمع عالمثالثي يجعل من عالم الجنوب شريكاً موقَّراً لمن هو من عالم الشمال.
* كاتب عربي
(محاضرة ألقيت في الأونيسكو – بيروت - 18 / 11 / 2013)