«اسمع صوت المكن الداير... بيقول بس كفاية مذلة. نفس الصوت اللي في حلوان... بيقول شدي الحيل يا محلة». تردد هذا الهتاف مرات لا حصر لها في مصر، ولكن هذه المرة الهتاف له وقع خاص لأنّه ينطلق من المكان الذي ولد فيه. فهكذا هتف عمال شركة الحديد والصلب في مدينة التبين في أقصى جنوب القاهرة، موجّهين نداءهم لعمال شركة غزل المحلة في دلتا النيل، للتأكيد على وحدة الحركة العمالية والمصلحة المشتركة. يعدّ اعتصام عمال شركة الحديد والصلب من أهم الاحتجاجات العمالية، إذ يشارك فيه ما يقرب من 14 ألف عامل. هي أكبر شركات الحديد والصلب في المنطقة. وقد اعتبرت الشركة لفترة طويلة أحد أهم مراكز الحركة العمالية في مصر، خاصة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. كذلك يتخذ الاعتصام أهمية خاصة من طول فترته التي عبّرت عن صبر العمال وقدرتهم على الاستمرار حيث يوشك الاعتصام على أن يكمل أسبوعه الثاني.
ولكن إلى جانب ذلك يحمل اعتصام عمال الصلب قيمة خاصة تجعله نقطة تحول محتملة لعدة أسباب. فاعتصام عمال الصلب للمطالبة بمستحقات مالية سنوية وحماية الشركة من الإهمال المتعمد، كما يؤكدون، وإقالة رئيس مجلس إدارة الشركة الذي يتهمونها بتعمد تخسيرها، بدأ يوم الثلاثاء 27 نوفمبر/ تشرين الثاني، أي في اليوم التالي مباشرة على إصدار قانون «تنظيم الحق في التظاهر»، في اختبار حاسم لقدرة القانون على تحقيق الهدف من إصداره بالسيطرة على الحراك السياسي والاجتماعي تحت لافتة المواجهة مع الإخوان. فقد يكون من السهل توجيه اتهام دعم الإخوان لتظاهرات تضم ناشطين وقوى سياسية، ولكن هذا الاتهام سيصبح نكتة سمجة عندما يوجه لعمال يطالبون بمستحقات مالية. هكذا يحمل الاعتصام الممتد لعمال الصلب معنى سياسياً إلى جانب المطالب العمالية التي يرفعها. فهو يكشف تهافت محاولات السيطرة على الشارع المصري. جدير بالذكر أن العمال حاولوا في بداية الاعتصام الحصول على إذن بالتظاهر خارج الشركة، وعندما ماطل المختصون في الموضوع تجاهلوا الأمر، ثم عادوا وحصلوا على الإخطار للتظاهر أمام الشركة القابضة في وسط القاهرة.
كانت الدلالة نفسها ستقترن بأي احتجاج عمالي كبير وممتد، ولكنها جاءت من شركة الحديد والصلب، وهو ما حمل في حد ذاته معنى مهماً للغاية. فقد كان آخر احتجاج عمالي كبير في شركة الحديد والصلب هو اعتصام أغسطس/ آب عام 1989، وقد مثّل هذا الاعتصام نقطة تحول مهمة في الشركة التي كانت ساعتها من أهم قلاع النضال العمالي، وكان يتوقف على أي تحرك فيها صعود أو هبوط الحركة العمالية. تعاملت الدولة مع اعتصام أغسطس 1989 بوحشية بالغة. فبينما كان الاعتصام سلمياً تماماً وحرص العمال خلاله على استمرار العمل في الشركة، نفذت قوات الأمن اقتحاماً بالمصفحات لبوابات الشركة وتدفقت القوات من الفتحات التي صنعتها المصفحات لفض الاعتصام. وكانت مروحيات قد سبقت المصفحات بالتحليق في سماء الشركة لتصوير الاعتصام وأماكن تمركز العمال. استخدمت قوات الأمن الرصاص الحيّ لفض الاعتصام حتى في مواجهة العمال الذين كانوا في العمل وليس في الاعتصام ــ كان العمال يتناوبون على العمل والاعتصام ــ وقعت ساعتها عشرات الإصابات بين العمال واستشهد العامل عبد الحي السيد حسن في مكان عمله، والذي ظل الهتاف باسمه «حي، حي، عبد الحي، لسه حي» يتردد في الشركة إلى اليوم، وألقي القبض على المئات من العمال، وتم فرض الإجازة الإجبارية على العمال لمدة أسبوع. كان رد العمال عقب هذه الإجراءات الوحشية أن أسقطوا نقابة الشركة التي تواطأت ضد الاعتصام في الانتخابات النقابية التالية، كذلك فاز بمقعد البرلمان عن الدائرة التي تقع فيها الشركة أحد قادة الاعتصام الذي اعتقل بعد فضّه. القمع العنيف من قبل الأمن للاعتصام السلمي، وتزامنه مع إطلاق برامج التكيف الهيكلي التي تضمنت تسريح العمال بموجب التقاعد المبكر وخصخصة شركات القطاع العام، وغيرها من السياسات التي مثلت تهديداً جدياً لأوضاع العمال المستقر. الإرهاب الذي مثّله القمع والتهديد الذي عبرت عنه السياسات الجيدة جعلا الحركة العمالية تتراجع لفترة طويلة في الحديد والصلب حتى مع صعود الحركة العمالية في كل مصر، فلم تشهد الشركة عقب 1989 سوى احتجاجات جزئية وقصيرة الأمد. المشهد داخل اعتصام الصلب كان يؤكد أن مياهاً كثيرة قد تغيرت في الشركة. فالقيادات التقليدية التي تزعمت الحركة العمالية في الصلب قد اختفى أغلبها في ساحة الاعتصام. فعلى مدى 24 عاماً غاب أغلبهم عن الشركة، إما بالوفاة أو بالتقاعد. التركيبة العمرية لعمال الشركة نفسها قد اختلفت. فالكثيرون ممن عاصروا اعتصام 1989 قد تقاعدوا، إما على سن الستين أو بالتقاعد المبكر. أغلب العاملين في الشركة لم يعودوا إذن من أولئك الذين عاشوا اللحظات الصعبة أثناء فض الاعتصام. بل على العكس، كان جيل جديد من العمال عاش صعود الحركة العمالية في السنوات الأخيرة وانتصارات العمال المتلاحقة في مواقع العمل المختلفة، والأهم طبعاً أنهم عايشوا أحداث الثورة التي كان فض الاعتصام بالنسبة إليها أمراً هيّناً. هذا التغير في الأجيال، إضافة طبعاً إلى إقدام الدولة للمرة الأولى على الاعتداء على حق راسخ وثابت للعمال، وهو المكافأة السنوية، جعل شبح فض الإضراب يتراجع بين العمال وجعل إمكانية تنظيم اعتصام قوي وممتد في الشركة أكثر قوة. التغيرات التي جرت في الأوضاع العمالية في الشركة لم تواكبها تغيرات في عقلية النظام الذي من المفترض أن أشخاصه تغيروا مرات عدة منذ 2011. فالاعتصام والمطالب التي رفعها قوبلت بتجاهل من الدولة، ولم يقم أي مسؤول على مدار الأسبوعين بإجراء مفاوضات مع العمال. واعتمدت الدولة على الدعاية المشوهة نفسها ضد الاعتصام، متهمة العمال بوقف عجلة الإنتاج، رغم أن الاعتصام كما أوضحنا استمر العمال في الإنتاج خلاله. كذلك فإن مطالب العمال الرئيسية تضمنت ضخ استثمارات في الشركة ووقف تخريبها وتحسين إدارتها لتعمل بكامل طاقتها، أي إن العمال كانوا أحرص من الدولة على الإنتاج. وبررت الدولة عدم صرف مستحقات العمال بأن الشركة تخسر، في الوقت الذي لم يتوقف العمال فيه طوال الفترة السابقة على الاعتصام عن كشف الخلل في إدارة الشركة واتهامها بتعمد تخسيرها تمهيداً للخصخصة.
نقابة الشركة أيضاً لم يختلف موقفها عن 1989، فقد غادرت الشركة والاعتصام ما عدا أفراداً وقفوا بأشخاصهم وليسوا ممثلين للنقابة، ما دفع العمال إلى تكرار حملة سحب الثقة من النقابة، والتي قاموا بها في 1989. الغريب أن اتحاد العمال الرسمي، رغم تخاذل النقابة التابعة له، حاول استخدام الاعتصام في تصفية حسابته مع وزير القوى العاملة، من دون أن يبذل أي مجهود لتبنّي الاعتصام أو دعمه. هناك أمر آخر لا يمكن تغافله في اعتصام الصلب، أنه يأتي ضمن موجة صعود جديدة في الحركة العمالية، أعقبت التراجع النسبي الذي فرض نفسه في أعقاب أحداث الثالث من يوليو. وهو ما سيعني تأثيراً قوياً في صعود الحركة العمالية إذا انتصر عمال الصلب في موقفهم. وهو ما يفسر أيضاً تمسك الدولة برفض مطالب العمال، لأن الاستجابة لعمال الصلب ستحفز موجة احتجاجات واسعة لنيل مستحقات شبيهة.
في ساحة الاعتصام في شركة الحديد والصلب، وأمام مقر إدارة الشركة الخالي، تناثرت خيام عدة نصبها العمال، في رسالة مفادها أننا مستمرون في الاعتصام حتى تلبية المطالب. وأمام مقر النقابة الخالي أيضاً وضع العمال مكبرات صوت ضخمة يرددون من خلالها هتافات تؤكد صمودهم في الاعتصام. على الجانب الآخر، أغمضت الدولة عينيها وصمّت أذنيها عن الاعتصام، فربما ينفد صبر العمال.
يدرك العمال المعتصمون أن خسارة مطالبهم لن تعني فقدان المكافأة السنوية فقط، بل قد تعني بداية انهيار كامل للشركة. وتدرك الدولة أن تنازلها أمام عمال الصلب قد يكون بداية موجة عمالية قوية تستدعي تنازلات فادحة. وفي نهاية الأسبوع الثاني من الاعتصام، واستعداد العمال لخطوات تصعيدية خارج أسوار الشركة، يبدو صبر العمال أطول كثيراً مما توقعته الدولة.
* كاتب مصري