ما إن أعلن الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة، تشكيل حكومته في الخارج برئاسة الدكتور أحمد طعمة، حتى أعلن حزب الاتحاد الديموقراطي (الكردي) وبعض القوى المتحالفة معه إنشاء الإدارة الذاتية الانتقالية في بعض مناطق من شمال شرق وشمال سوريا (مناطق في غرب كردستان بحسب التسمية الكردية لها)، في تزامن لافت، لست أدري إن كان للصدفة فيه نصيب.وإذا كان الهدف من تشكيل حكومة الدكتور طعمة، التي أُعلنت من اسطنبول في ختام دورة اجتماعات الائتلاف الوطني التي انعقدت خلال الفترة من 12 إلى 14 تشرين الثاني 2013، هو محاولة خلق عقبات جديدة أمام عقد مؤتمر «جنيف 2» للبحث عن مخرج سياسي للأزمة الراهنة التي تعصف بسوريا، تلبية لرغبات بعض الدول، وأصحاب الأجندات الخاصة في سوريا، فإن تشكيل الإدارة الذاتية الانتقالية، بحسب تصريحات القائمين عليها، لا تعدو كونها إدارة مؤقتة لتنظيم حياة الناس اليومية ريثما يوجد حل شامل للأزمة السورية ككل.
من حيث المبدأ، أن يبحث السوريون عن تنظيم حياتهم اليومية وإدارتها في المناطق التي خرجت عن السلطة المركزية في دمشق لأسباب مختلفة أمر يمكن تفهمه بصورة عامة، دون أن يعني ذلك القبول به دائماً. ينطبق ذلك اليوم بصورة ملموسة على ما أعلنه السوريون الكرد من إنشاء إدارة ذاتية انتقالية في ثلاث مناطق من شمال وشمال شرق سوريا هي عفرين والقامشلي والمالكية التي تقطنها غالبية من الإخوة الكرد.
مما لا شك فيه أنّ اتفاقيات سايكس بيكو قد ظلمت الإخوة الكرد كثيراً بتوزيعهم على دول الاقليم، ولا يتفوق عليهم من حيث الظلم الذي وقع عليهم سوى الإخوة الفلسطينيين. وبالتالي عندما تسمح المعطيات السياسية والثقافية والجغرافيا السياسية في المنطقة في المستقبل، الذي أرجو أن لا يكون بعيداً، بأن يكون للكرد دولتهم المستقلة ذات السيادة الكاملة على أرضهم التاريخية (فهم شعب أصيل في الإقليم) سوف يكون ذلك إنجازاً لجميع شعوب المنطقة ويخدم مصالحها أيضاً. اليوم الإخوة الكرد يركزون على تحقيق حقوقهم القومية في الدول التي يعيشون فيها، وهي حقوق مشروعة، وقابلة للتنفيذ، لكن ينبغي سلوك الطرق الصحيحة الموصلة إلى هذا الهدف، وليس تلك التي تخلق مشكلات على طريقه. ومن جملة هذه الطرق وربما في مقدمتها عدم الانتقاص من حقوق المكونات الأخرى، والعمل على حصول تغيرات ثقافية وسياسية لدى شعوب المنطقة تجعل القبول المتبادل لبعضها على قاعدة المصالح المتبادلة واقعاً معيشاً. هنا يقفز، بلا شك، إلى المقدمة، على الصعيد السياسي، العمل المشترك من أجل الانتقال من الأنظمة الاستبدادية إلى الأنظمة الديموقراطية في كل دول الإقليم كمهمة مركزية ينبغي أن تعمل عليها جميع القوى السياسية والمجتمعية.
في مسودة مشروع الإدارة المحلية الديموقراطية المؤقتة، التي عرضها حزب الاتحاد الديموقراطي على هيئة التنسيق من أجل تبنيها العديد من المغالطات التاريخية والسياسية، التي تجعل من مشروع الإدارة الذاتية يتجاوز طبيعته المؤقتة ليؤسس لواقع سياسي جديد من طرف واحد، ما سيشكل استفزازاً لبقية الشركاء في الوطن، وخصوصاً العرب. إن مصطلح «غرب كردستان» الذي يستخدمه السوريون الكرد كاسم لمناطق من شمال وشمال شرق سوريا يحتاج إلى تأصيل تاريخي لكي يُقبَل به سورياً بصورة رسمية، وكجزء من هذا التأصيل لا بد من تحديد الجغرافيا التي يشملها. من جهة أخرى، إن مشروع الإدارة الذي أُعلن في الخامس عشر من تشرين الثاني 2013 سيطبق في ثلاث مناطق غالبية سكانها من الكرد، هي منطقة عفرين في الشمال الغربي من سوريا، ومنطقتا القامشلي والمالكية في الشمال الشرقي منها، تفصل بين المنطقتين مسافة تقارب خمسمئة كيلومتر، ما يجعل من وحدة الإدارة ومركزيتها أمراً شبه مستحيل.
في المادة الأولى من الوثيقة المشار إليها ورد أن من مهمات الهيئة التأسيسية صياغة «وثيقة تأسيسية» توضع وفقها «أنظمة الإدارة...». هنا لا بدّ من التساؤل عن طبيعة هذه « الوثيقة التأسيسية»، هل هي دستور مثلاً؟ ثم ما مصير أنظمة الإدارة التي كانت قائمة قبل الأزمة الراهنة، ولماذا لا يُعاد تفعيلها ريثما يجري تغييرها أصولاً بصورة دستورية وقانونية في المستقبل. ألا يعني ذلك تهديم قانوني وإداري لأسس الدولة القائمة في تلك المناطق والتأسيس من طرف واحد لكيان سياسي جديد؟!
ومما يعزز من هذه المخاوف ما ورد في المواد 4 و5 و6 و8 و9 من مسودة المشروع، حيث يجري الحديث عن إعداد «نظام انتخابي» (المادة 4)، وعن بناء «مديريات ومؤسسات» لتسهيل العمل الإداري في المجالات «الإدارية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمن والحماية» (المادة 5). من الواضح أنّ ما ورد في هاتين المادتين يتجاوز مسألة إدارة حياة الناس اليومية وتأمينها وفق القوانين والتعليمات الإدارية السارية المفعول، من الناحية الرسمية على الأقل، في جميع مناطق سوريا، إلى حدود التأسيس لكيان سياسي جديد. ومما يعزز ذلك اعتبار «الهيئة التمثيلية المنتخبة» بمثابة «السلطة التشريعية» (المادة 8)، وهي مخولة إضافة إلى الدور التشريعي المناط بها، (أي إصدار القوانين)، بوضع «الأنظمة واللوائح لعملها» (المادة9). وحتى إنّ القوة العسكرية والأمنية القائمة (قوة الأمر الواقع) ستعمل وفق «القوانين والأنظمة المحلية» التي ستعدها وتصدرها «الهيئة التمثيلية المنتخبة».
إن إدارة شؤون الناس في المناطق التي يسيطر عليها الإخوة الكرد لكي تكون مفهومة ومقبولة من بقية الشركاء في الوطن عليها أن تكون وفق الأنظمة والقوانين والتعليمات الإدارية المعمول بها في الدولة السورية ككل، ريثما تُعدَّل أو تُغيَّر أصولاً، إلا ما يتميز منها بنزعة عنصرية ويتعارض مع تأكيد هوية الإخوة الكرد ومن في حكمهم. وينبغي أيضاً إعادة إحياء مؤسسات الدول السورية التي كانت قائمة في مجال التعليم والقضاء والشرطة والجمارك وغيرها. ربما في سوريا الجديدة، وبعد إقرار الحقوق القومية للسوريين الكرد ومن في حكمهم دستورياً، يمكن النظر في التقسيمات الإدارية القائمة حالياً، بحيث تشكَّل محافظتان جديدتان بأغلبية كردية في كل من محافظة الحسكة ومحافظة حلب. وإذا ما اعتُمدت اللامركزية الإدارية، فعندئذ سيستطيع قسم كبير من السوريين الكرد حكم أنفسهم بأنفسهم في إطار سوريا موحدة أرضاً وشعباً.
* رئيس مكتب الإعلام في «هيئة التنسيق الوطنية» السورية