يعيش لبنان فراغاً سياسياً مقلقاً بدليل أنه، أولاً، بلا حكومة حائزة ثقة مجلس النواب بعد استقالة حكومة نجيب ميقاتي منذ نحو ثمانية أشهر. وأنه، ثانياً، قد يصبح بلا رئيس جمهورية غداة انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان في 25 أيار/ مايو المقبل لصعوبة التوافق على بديل مقبول. وأنه، ثالثاً، بلا سلطة تشريعية لصعوبة توفّر النصاب القانوني اللازم لاجتماع البرلمان وممارسة صلاحياته.إلى ذلك، تعيش البلاد اضطراباً سياسياً وأمنياً متواصلاً منذ سنوات أدى إلى مزيد من العسر الاقتصادي والظلم الاجتماعي والتدهور الخلقي وهجرة الشباب وأصحاب المهارات.
وتزداد أزمة لبنان حدةً مع تفاقم الأزمة السورية وتحوّلها حرباً إقليمية ضارية أدت إلى نزوح مئات آلاف السوريين إلى الدول المجاورة، ولا سيما إلى لبنان الذي استقبل وحده نحو مليون وخمسمئة ألف لاجئ.
في هذه الأثناء، تنهض أسئلة مقلقة حول ما يمكن أن يفعله رئيس الجمهورية عشيةَ انتهاء ولايته، وردود الفعل المحتملة من القوى السياسية النافذة وربما أيضاً من أطراف إقليمية ودولية معنية بموقع لبنان الجيوسياسي في خريطة المنطقة الجاري رسمها من جديد. ثمة من يدعو الرئيس سليمان إلى التفاهم مع الرئيس المكلّف تمام سلام على تأليف «حكومة أمر واقع» تناط بها، بحسب المادة 62 من الدستور، صلاحيات رئيس الجمهورية إذا ما تعذّر انتخاب رئيس بديل.
غير أن رئيس مجلس النواب نبيه بري يسارع إلى التحذير من اعتماد هذا الخيار لأن «حكومةً بلا ثقة البرلمان تكون غير شرعية ولا يسعها تنكّب صلاحيات دستورية لرئيس الجمهورية».
فوق ذلك، يحذّر فريق من كبار أهل القانون رئيسَ الجمهورية من مغبة إصدار مرسوم بتشكيل حكومة تناقض أحكام الميثاق الوطني، أي العيش المشترك، والعدالة في تمثيل الطوائف بمفهوم المادة 95 من الدستور. كما يحذّر فريق آخر من مغبة اعتبار الرئيس المكلّف تأليف الحكومة مكلفاً حتى بعد بدء ولاية رئاسية جديدة، ذلك أن من كلّفه يكون قد أصبح رئيساً سابقاً. وإذا كان الدستور (المادة 69) يعتبر رئيس الحكومة مستقيلاً عند بدء ولاية رئيس الجمهورية الجديد، فهل يعقل أن يبقى الرئيس المكلّف مكلفاً؟
من ناحية أخرى، ليس ثمة ما يشير إلى إمكانية تجديد ولاية الرئيس سليمان أو تمديدها سنتين أو ثلاث. دون ذلك صعوبات جمّة ليس أقلها عدم وجود توافق على هذا الخيار بين القوى السياسية والكتل النيابية الرئيسية، وصعوبة اجتماع مجلس النواب أصلاً بالنظر إلى «سوابق» عدم توافر النصاب القانوني اللازم، لا لتعديل الدستور ولا للانتخاب.
حتى لو أمكن التوافق على شخصية سياسية مقبولة لإشغال سدة الرئاسة الشاغرة، فإن التفاهم على برنامج سياسي وأسس لتأليف حكومة وطنية جامعة قبل انتخاب الرئيس أو بعده يبدو صعباً إن لم يكن مستحيلاً. يُضاف إلى ذلك موقفُ القوى الوطنية والإصلاحية التي ترفض محاولة تمديد أجَل النظام السياسي الشائخ والفاسد بمعاودة اعتماد مقولة «لا غالب ولا مغلوب» السيئة الصيت والعديمة الجدوى.
كل هذه الصعوبات والتحديات والاحتمالات تطرح على المجتمع السياسي سؤالاً مصيرياً: أما آن أوان الخروج من أزمة النظام الطوائفي الشائخ والفاسد بعملية سياسية استثنائية تكفل بناء نظام سياسي مغاير يقوم على أسس الديموقراطية وحكم القانون والعدالة والتنمية والتجدد الحضاري؟
ثمة قوى وطنية وتقدمية حيّة تجيب بالإيجاب، وبحماسة. هي ترى أنّ الظروف الراهنة مؤاتية لمباشرة عملية إصلاحية استثنائية لأسباب خمسة:
أولها، إن الظروف الراهنة استثنائية بامتياز. وفي الظروف الاستثنائية يجوز، بل يقتضي، اتخاذ قرارات استثنائية وبالتالي توليد شرعية استثنائية.
ثانيها، إن القرارات الاستثنائية تكتسب مشروعية إضافية عندما يكون هدفها ونطاقها تنفيذ أحكام الدستور، ولا سيما المادة 22 منه التي تنص على إقامة مجلسين تمثيليين: واحد نيابي على أساس وطني لا طائفي، وآخر للشيوخ لتمثيل الطوائف، وتنفيذ المادة 95 التي تنص على إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية.
ثالثها، وصول الشبكة الحاكمة التي تقود النظام السياسي الفاسد الى طريق مسدود يغصّ في آخره بفراغ سياسي، وأزمة اقتصادية، ودَين عام يربو على 60 مليار دولار، وضائقة معيشية شديدة أصبح معها نحو 50 في المئة من اللبنانيين تحت خط الفقر، واضطرابات سياسية وأمنية تتطور باطّراد إلى فتنة مذهبية.
رابعها، انحسار نسبي في تأثير القوى الخارجية على الداخل اللبناني: الولايات المتحدة يتراجع نفوذها في كل أنحاء المنطقة. «إسرائيل» عاجزة عن التدخل العسكري بعد اندحارها في حرب 2006 وخشيتها من أن تتأذى كثيراً إذا ما حاولت تحدي المقاومة مرة أخرى. سوريا مشغولة بنفسها بسبب الحرب القائمة فيها وعليها. السعودية مهجوسة بتداعيات الاتفاق النووي الإيراني _ الأميركي الأخير وانعكاساته على أمن دول الخليج. ذلك كله يُتيح للقوى الوطنية المحلية هامشاً واسعاً من حرية العمل والمناورة.
خامسها، إنّ العملية السياسية الاستثنائية المقترحة للخروج من الأزمة المزمنة المستفحلة والفراغ السياسي المقلق لا تُقصي أحداً إلّا القوى والقيادات التي تُقصي نفسها بتمسكها بأوضاع و«امتيازات» ليس بالإمكان الدفاع عنها أو احتمالها.
لقد بات واضحاً أن من الصعب جداً، إن لم يكن من المستحيل، إصلاح النظام الشائخ من داخل مؤسساته الهرمة. ذلك يستوجب مبادرة القوى الوطنية والإصلاحية داخل السلطة وخارجها الى التوافق على ضرورة اغتنام الظروف الاستثنائية الراهنة لتوليد شرعية استثنائية تتولى تحقيق إصلاحات ومطالب سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية ملحّة وبالغة الأهمية. المبادرة المطلوبة تتحقق بتفعيل السلطة القائمة، أي حكومة تصريف الأعمال، بتوافق القوى الوطنية الإصلاحية المتجانسة داخلها على اضطلاعها بسلطات استثنائية لتنفيذ برنامج متكامل تحدد فيه أولوياتها ومهماتها الأساسية خلال فترة انتقالية أقصاها ستة أشهر، وتكون أولى أولوياتها وضع قانون ديموقراطي للانتخابات تكون الجمهورية بموجبه دائرة انتخابية واحدة على أساس التمثيل النسبي، وإقراره في استفتاء عام إذا تعذّر إقراره في مجلس النواب كمشروع قانون محال عليه بصفة المعجل خلال مدة أربعين يوماً وفق أحكام المادة 58 من الدستور، وعلى أن يصار تالياً الى إجراء الانتخابات خلال شهرين من تاريخ الإقرار.
أجَل، ثمة حاجة استراتيجية إلى توليد صدمة سياسية إصلاحية استثنائية للخروج من الأزمة المزمنة بانتخابات ديموقراطية تُنجب مجلساً نيابياً بطابع تأسيسي وسلوكية وطنية جامعة ونزعة تغييرية تجديدية.
آن أوان الإقدام على إنفاذ صدمة إصلاحية استثنائية. فاللبنانيون لن يخسروا جرّاءها إلا أغلالهم الطائفية والمذهبية المذلِّة.
* محامٍ ـــ نائب ووزير سابق