بعد زمن الإعمار ومقولة «البلد ماشي» الشهيرة في التسعينيات، إنه زمن التسويات وإعادة رسم الخريطة السياسية الدولية تبعاً للمعادلات الجديدة التي فرضتها المعركة على الأرض في منطقة الشرق الأوسط، ولا سيما في سوريا، والتي من أهم نتائجها، وإن بكلفة باهظة على سوريا الدولة والكيان والشعب والتاريخ، كسر الأحادية الأميركية في إدارة ملفات العالم والمنطقة. وما بين الإعمار والتسوية، خطة ممنهجة ومحكمة لإعادة إحياء النعرات الطائفية والمذهبية، شكّل لبنان إحدى ساحاتها الرئيسية. لطالما كان لبنان على مرّ التاريخ معقلاً للأيديولوجيات والتيارات الفكرية والعقائدية المختلفة، وقد أدت التجاذبات الحادة المترافقة بارتباط بعض القوى بالمشاريع الخارجية أحياناً، إلى مواجهات مسلحة مباشرة، وصولاً إلى حروب أهلية، بدءاً من حقبة اعتماد نظام اقتصاد السوق المفتوح (أو ما يعرف بالـ laissez faire) في منتصف أربعينيات وبداية خمسينيات القرن الماضي وما أفضى إليه من انعكاسات اجتماعية وسياسية سلبية على المجتمع اللبناني أدت إلى حرب 1958 الأهلية في حقبة حكم الرئيس كميل شمعون، وصولاً إلى الحرب الأقسى في 1975، والتي دامت حوالى خمسة عشر عاماً. إلا أنها، رغم قسوتها ونتائجها الكارثية على الدولة، لم تصل إلى هذا الدرك من الخطورة التي يعانيها المجتمع اللبناني اليوم، على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي.
فمنذ تحرير الجنوب اللبناني عام 2000، وهو كان للتذكير الانتصار الأول والأقوى في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، شكّل التفاف الشارع العربي حول المقاومة أرقاً للمعسكر العالمي المتمثل بالولايات المتحدة الأميركية وحلفائها، فكان الوقت قد حان لتنفيذ خطة «الشرق الأوسط الجديد». من هنا، كان «11 أيلول» واحتلال العراق، الذي وإن شكّل أولى مراحل إعادة إحياء النعرات الطائفية وخاصة المذهبية، غير أن المخطط تطلّب صدمة أكبر وفراغاً يتمّ مهمة إعادة المجتمعات العربية، ولا سيما تلك المتنوعة طائفياً ومذهبياً 1400 سنة إلى الوراء، فكان استشهاد الرئيس رفيق الحريري.
لا يخفى على أحد الانقسام الحاد الذي أفرزه الاغتيال، والذي ترافق مع شحن مذهبيّ هو الأخطر في تاريخ لبنان، وما أحداث اليوم في طرابلس وصيدا وبعض مناطق بيروت والبقاع إلا ترجمة لخطة ممنهجة بدأ العمل عليها منذ سنوات (كما تمت الإشارة سابقاً) بمشاركة أطراف لبنانية عن قصد أو غير قصد. إلا أن أخطر ما أنتجه هذا المخطط، وبمعزل عن السياسة، هو الاجتياح المخيف لثقافة التخوين التي باتت حاضرة عند جميع مكونات المجتمع اللبناني. ثقافة أنتجت خطوط تماس نفسية وعقائدية حديثة في كلّ حيّ، وفي كلّ شارع، وفي كلّ منطقة، وخصوصاً عند الشباب وطلاب الجامعات، وهي لا تقلّ خطورة عن تلك التي نعرفها في حرب الشوارع. وما الإشكال الذي حصل في جامعة القديس يوسف أخيراً، والشعارات التي رفعت فيه إلا خير دليل. فطلابنا بمختلف توجهاتهم يدورون في فلك منظومة مخيفة، تتجلى تبعاتها بوضوح في النقاشات التي يخوضونها في جامعاتهم، التي من المفترض أن تكون صرحاً لتعلّم الإصغاء إلى الفكر المختلف واحترام الرأي الآخر، ولتعلّم النقد الذاتي والبنّاء ومساءلة كل التوجهات والتيارات والمنظومات الفكرية التي يحملها الطالب معه من المنزل والحزب والمجتمع.
ماذا يحدث اليوم؟ إن اللغة التي يستعملها طلابنا، وهم مستقبل البلد، تمثّل النقيض تماماً، لا بل تتجلى في مقاربات حاملي الشهادات لمختلف المواضيع، صورة طبق الأصل عن الاصطفافات الطائفية والمذهبية الحادة، فباتوا في جامعاتهم فرقاً ومذاهب وطوائف تتكتل حول بعضها البعض، يستعملون لغة السياسة نفسها والتي تترجم في الشارع، لا يتقبّلون رأي «الآخر»، وهو زميل لهم في الجامعة، وأحياناً يلامس هذا الخلاف حدّ رفض وجوده إطلاقاً.
ومن الرفض ولغة التخوين التي أضحت ثقافة معظم شبابنا، إلى حالة اليأس التي بدأت تنمو عندهم نتيجة انهيار أبسط مقومات الحياة الإنسانية أمامهم كل يوم وعند كل مفترق، حتى باتت الحالات الشاذة في قاموس جميع الدول، مثل منطق الرشوة والفساد والاستزلام والمحسوبيات مقبولة، لا بل أضحت في قاموسهم جزءاً لا يتجزأ من الحياة اللبنانية. هكذا إذاً، يدوّي يأسهم بالسخرية التي يظهرونها متى سمعوا مصطلحات كـ«دولة»، «أخلاقيات مهنة»، «قانون»، «نظام»، «وطن».
بالأمس القريب، كان اللبنانيون على موعد مع عيد استقلال تعمّد بالدم. وكان طلابنا في أحاديثهم عن المناسبة وفي كل مناسبة وطنية وفي كل حدث أمنيّ، على موعد مع أحلام يعتقدون أن الوطن لا يستطيع تأمينها لهم، والعمل لتحقيقها يبدو مستحيلاً عند شريحة كبيرة منهم، في ظل الواقع الحالي. وهم لا يرون فيها حالة استثنائية يمرّ بها الوطن، بل قاعدة، إذ «إن لبنان لطالما كان ساحة صراعات دولية، وبقعة جغرافية لا يمكنها أن تقوم بالحدّ الأدنى من دون وصايات أجنبية على مختلف جنسياتها». وبالحديث عن الوصايات، لا ينفك شبابنا يتغنون ويتحسرون على الانتداب الفرنسي، الذي بات اليوم عند الكثير منهم «فرصة لو بقيت، لكنّا وجدنا الأمان والثقافة وفرص العمل، ولكنا أحسسنا بأننا مواطنون لهم حقوق وتعلّموا كيفية القيام
بواجباتهم».
إن طلابنا هم أبناء أحزاب اليوم الرازحة تحت ثقل ماضيها. وثقافتهم وأيديولوجياتهم ولغتهم هي جميعها نتاج ما يتلقونه من تربية حزبية، لا تؤدي دورها بالشكل الصحيح. فأي مجتمع نبني؟ وأي مستقبل جيل ووطن ننتظر، عندما لا يقوى شباب اليوم على الفصل بين الانتماء للحزب وللطائفة والولاء للوطن الكلي المتعدد؟ من هنا، على الأحزاب اللبنانية المختلفة مسؤولية وطنية تجاه أبنائها من الشباب توازي أهمية قضاياها الكثيرة، وعلى الجهات المعنية في الدولة العمل على وضع خطة وطنية تربوية بامتياز، تبدأ من المدارس ولا تنتهي بالجامعات، علّها تنقذ بعضاً من أمل.
* أستاذة جامعية