في وثيقة داخلية بعنوان «مشروع النظام الأساسي للتجمع الوطني الديمقراطي»، عممت على أعضاء أحزاب التجمع في شهر نيسان 1998، كان هناك مشروع لتحويل التجمع من صيغة تحالفية لأحزاب نحو أن «يكون تنظيماً سياسياً يتجاوز صيغة الحزب... ليصبح في حالة من تعدد الرؤى الأيديولوجية ووحدة البرنامج السياسي... على أن تحتفظ أحزاب التجمع ببناها التنظيمية الخاصة... شريطة الالتزام باعترافها بالتجمع إطاراً لتمثيلها ونشاطها السياسي وبالخطوط العامة لبرنامجه السياسي...على أن يسعى التجمع في توجهه العام إلى اندماج أحزابه في حركة سياسية واحدة».وقف الدكتور جمال الأتاسي (توفي في 31 آذار 2000)، ومعه أغلبية قيادة الحزب الشيوعي ـــ المكتب السياسي وكل قيادة حزب الاتحاد الاشتراكي، وراء هذا المشروع، بالتضافر مع مثقفين محسوبين على «المكتب السياسي» مثل ميشال كيلو وبرهان غليون. أعطى الأستاذ رياض الترك، بعد الإفراج عنه من السجن في 30 أيار 1998، قوة دفع حاسمة للمعارضة التي ظهرت في صفوف «المكتب السياسي» ضد هذا المشروع، وهو ما أدى إلى دفنه في صيف ذلك العام، لكن كان هذا الاصطفاف، في «التجمع» وفي «المكتب»، مرآة لآراء سياسية تتعلق بمروحة مواقف تتجاوز تلك الوثيقة لتصل إلى رؤية للمرحلة كان فيها الاتجاه نحو «تطليق الأيديولوجيا»، أو ضبابية تخومها، مترافقاً مع اعتدالية تجاه السلطة الحاكمة، التي خففت القبضة الأمنية بالنصف الثاني من التسعينيات، فيما كان الاحتفاظ بالفوارق الأيديولوجية عند معارضي الوثيقة مترافقاً مع تشدد تجاه النظام.
كان لتلك اللوحة داخل القوة الرئيسية للمعارضة السورية في الداخل، أي «التجمع»، تأثيراتها على الموقف من العهد الجديد، الذي بدأ إثر وفاة الرئيس حافظ الأسد في يوم 10 حزيران 2000: صحيح أن «التجمع» في 15 حزيران قد أصدر بياناً يرفض فيها تعديل الدستور الذي جرى، وهو ما تابعه الأستاذ الترك في مقابلة مع جريدة «لوموند» يوم 28 حزيران مازجاً رفضه لعملية تعديل الدستور مع الرفض لعملية الاستفتاء المقررة على منصب رئيس الجمهورية، إلا أن الأجواء الشفهية عند غالبية قيادة «المكتب» وعند قيادة «الاتحاد» كانت في مقلب آخر تجاه عملية الاستفتاء وما تبعها من خطاب القسم في 17 تموز الذي ألقاه الرئيس الجديد بشار الأسد: ظهرت الإشارات الأولى لذلك من خلال رباعية مقالات لميشال كيلو في جريدة «النهار» في العشرية الأخيرة من شهر آب، رأى فيها أنّ هناك اتجاهاً نحو «الاصلاح» في العهد الجديد، وأنّه ليس ناتجاً «عن ضغوط مارستها على النظام معارضة داخلية متعاظمة أو قوية... بل إن الاصلاح هو محاولة تقوم بها السلطة بقيادة مركزها الأعلى (...) الاصلاح هو إذاً نتيجة من نتائج اقتناع جهات رسمية مسؤولة بضرورة ايجاد بدائل لسياسات النظام ولتصوراته وممارساته الراهنة» (ميشال كيلو: «حل صيني لأزمة سوفياتية»، «النهار»، 24 آب2000).
في لهجة تأكيدية من قبل الكاتب على وجود تيار اصلاحي داخل العهد الجديد بقيادة الرئيس الجديد، لا على مراهنات بامكانية حصول ذلك: في بداية شهر أيلول جرى تخصيص العدد 59 بأكمله من جريدة «الموقف الديمقراطي»، الناطقة باسم «التجمع»، لنص حمل عنوان: «قراءة في خطاب القسم». سُجّلت ايجابيات في الخطاب: «نقول إن شعبنا بعد سبع وثلاثين سنة يسمع للمرة الأولى من مسؤول كبير اقراراً بوجود رأي آخر... الكلمة الأولى للرئيس الجديد تعرضت لأمور مهمة. لم تجر على منوال غيرها في مثل هذه المناسبات... وهذا أمر يجب الإشارة إليه». لم يجرِ التطرق في النص إلى اجراءات تعديل الدستور ولعملية الاستفتاء، في المقابل لم يصعد النص إلى الطابق الذي صعده ميشال كيلو باتجاه العهد الجديد لما تحدث عن اصلاح بقيادة المركز الأعلى في العهد الجديد، بل حاول التلويح ببعض من برنامج «التجمع» القديم: «الثوب القديم لا يرقع برقعة جديدة، لقد اقترحنا كفاتحة بعض التدابير التي نراها ضرورية: رفع الأحكام العرفية... اصدار عفو عام يحسم ملف الاعتقال السياسي ويسمح بعودة المهجرين من الخارج، وكشف مصير المفقودين، واطلاق الحريات العامة، وخصوصاً حرية الرأي وحرية الأحزاب السياسية وهيئات المجتمع المدني». سكت النص عن المادة الثامنة في الدستور، التي قالت بقيادة حزب البعث للدولة والمجتمع. في أواسط كانون أول بدأت «الموقف الديمقراطي» (افتتاحية العدد 62) تطرح تصوراً يقترب من رؤية للعهد الجديد تضعه بين «اصلاحيون» و«محافظون»: «إذا اعتبرنا أن نوايا الاصلاح والتغيير متوافرة لدى القيادة الجديدة، فإن من غير الممكن تحقيق أية خطوات جديدة على هذا الطريق ما دامت القوى المعطلة في داخل الحزب والسلطة هي نفسها الممسكة بزمام الأمور».
في أواسط أيلول عام 2000 ظهرت قوة معارضة جديدة غير مألوفة في وسط المعارضة السورية: جرى توزيع نص تحت عنوان «مشروع تأسيس جمعية أصدقاء المجتمع المدني»، مرفق بترويسة تحت العنوان تحمل مقتطفاً من خطاب القسم. كان وراء النص مجموعة من المثقفين (مثل ميشال كيلو، عبد الرزاق عيد، صادق جلال العظم...) وصناعي دمشقي عضو في مجلس الشعب هو رياض سيف. جرى التمترس أو الاختباء وراء مصطلح «المجتمع المدني» الملتبس معرفياً، بدلاً من مصطلح «الديموقراطية»، الذي بدأ المعارضون في طرحه عام 1978 ودخلوا السجون على أساسه، للوصول إلى تحقيق متضمنات المصطلح الثاني، معتبرين الأول طريقاً اجبارياً، وهذا ليس صحيحاً في التجربتين الانكليزية والفرنسية، للثاني: «لا يمكن للديمقراطية أن تتجسد إلا عبر نهوض المجتمع المدني». أتاحت هذه الثغر المعرفية المجال لفريق السلطة الفلسفي، ممثلاً في طيب تيزيني وعماد فوزي الشعيبي، لمشاغلة المعارضين معرفياً وفلسفياً في سجالات، كان غرضها الأساسي التركيز على الإشكالات الفلسفية وتفخيت المصطلح الجديد الذي تحول إلى شعار سياسي بدلاً من مصطلح «الديموقراطية». في تشرين ثانٍ جرى تأسيس «لجان احياء المجتمع المدني» بطاقم مثقفين مع استبعاد الصناعي رياض سيف، وقد كان النص الموضوع يومها هو النواة مع تعديلات أضيفت ليصبح ما اصطلح على تسميته بعد شهرين «بيان الألف» (نشر في «الحياة»، عدد 12 كانون ثانٍ 2001)، الذي كان به شيء جديد وسقف أعلى مما سبق من طروحات معارضة لما طالب بـ«إعادة النظر في مبدأ الحزب القائد للدولة والمجتمع». في 31 كانون ثانٍ قدم الصناعي سيف برنامجاً ليبرالياً صريحاً، لأول مرة منذ 8 آذار1963، عبر نص «مبادئ حركة السلم الاجتماعي»، تحدث فيه عن «انفراد مجموعة محددة جداً بالقرار السياسي» و«انتخاب جمعية تأسيسية تعمل على صياغة دستور جديد»، وعن رؤية للمجتمع السوري كـ«تعددية عرقية ودينية... وكلوحة فسيفسائية جميلة. وكي يبقى هذا التنوع ميزة ايجابية يجب الحفاظ على علاقات متوازنة توفر لكل فئة المناخ الضروري، الذي تتألق فيه خصوصياتها وميزاتها».
رفع الرئيس الجديد «الكارت» الأحمر في وجه المعارضين عبر مقابلة مع جريدة «الشرق الأوسط» في 7 شباط 2001: «تحت سقف استقرار الوطن وضمن منهج التطوير كل شيء مسموح به... فضلاً عن ذلك ستقف الدولة بحزم بوجه أي عمل يؤدي لإحداث خلل يضر المصلحة العامة». جرى اغلاق المنتديات في 21 آذار مع استثناء «منتدى جمال الأتاسي»، الذي كانت المعارضة الحزبية من ورائه. تحت الضغط تراجع المثقفون في «لجان احياء المجتمع المدني»، وقدموا سقفاً منخفضاً عن «بيان الألف» من خلال وثيقة «توافقات» الصادرة في 15 نيسان.
عادت المعارضة الحزبية لكي تتصدر المشهد في ربيع 2001، وقد كان الأستاذ رياض الترك، في العالم الشفوي للمعارضة السورية، متوجساً من حركة المثقفين من أن تمثل بديلاً للأحزاب، لكن كان رأيه في أواخر عام 2000 أن يتركهم في «وضعية سلاح الهندسة: ينزعون الألغام أو تنفجر فيهم»، وعندما كيلت الاتهامات من قبل أطراف في السلطة بأن «بيان الألف» لا يتجاوز المئة توقيع بعد نشره في جريدة «الحياة»، وهذا كان صحيحاً كواقعة، فإنه قد أوعز للحزبيين لكي ينشطوا خلال ثلاثة أيام لتواقيع تتخطى الألف جرى ارسالها لميشال كيلو لكي يحتفظ بها كضمانة تجاه المساءلة القانونية. في المؤتمر التداولي للحزب الشيوعي ـــ المكتب السياسي (28 شباط - 1 آذار 2001) ظهرت خلافات حول الموقف من العهد الجديد، وقد تذرع «المعتدلون»، ضد الأستاذ الترك، ببداية انفتاح السلطة على «التجمع» في مرحلة ما بعد التضييق على المنتديات وتركيزها على قمع حركة المثقفين. لم تحسم الأمور في «المكتب السياسي»، وكان غالبية قيادة هذا الحزب تستقوي ضد الأمين الأول للحزب برأي أحزاب «التجمع»، ثم بالجوّ العام لأطراف المعارضة الذي يميل نحو المهادنة والانتظار تجاه خطوات الرئيس الجديد، وهو ما شمل كذلك جماعة «الإخوان المسلمين»، الذين أكد بيانهم في 18 شباط 2001 ثم مراقب الجماعة علي البيانوني أنّ «الانتقال من حكم الحزب الواحد إلى التعددية يحتاج إلى تدرج، داعياً الحكم إلى التركيز حالياً على الملف الانساني» («السفير»،27 شباط 2001)، فيما أكد عضو المكتب السياسي لحزب «الاتحاد الاشتراكي»، عمر كرداس، أنّ «التجمع» هو تجمع وطني يرفع شعارات السلطة نفسها، أما الخلافات، فهي على أمور داخلية («السفير»، 22 آذار 2001). تعززت «اعتدالية» الإخوان المسلمين مع نشرهم لنص «ميثاق شرف وطني» في 3 أيار قال بـ«نبذ العنف».
من هنا كان الأستاذ الترك في الضفة الأخرى حيال المعارضين الآخرين، بما فيهم الكثير من أعضاء وقادة «المكتب السياسي»، عندما ألقى محاضرته الشهيرة بمنتدى جمال الأتاسي يوم 5 آب 2001، التي أكد فيها «استحالة تحقيق الاصلاح اعتماداً على القوى الذاتية للسلطة». كان اعتقاله في 1 أيلول 2001 ليس خارج سياق هذه اللوحة التي ظهر فيها «مغرداً لوحده»: استغلت قيادة «الحزب الشيوعي ـــ المكتب السياسي» اعتقال الأمين الأول للحزب، ومعه تسعة من النشطاء والمثقفين، ليس للتأكيد على تشدد السلطة، بل للتأكيد على اعتداليتها تجاه العهد الجديد، وعلى تنسيب الاعتقالات إلى متشددي و«محافظي» النظام: «سعت القوى الرجعية النافذة عبر الاعتقالات الأخيرة إلى ضرب عصافير كثيرة بحجر واحد، أولاً: تطويق الحركة الديمقراطية وعزلها، ثانياً: كسب جولة جديدة في التنازع على السلطة خشية أن يغادر اصلاحيو هذا العهد الأطر الضيقة للمطبخ الحكومي والأمني، وكان الرهان الخبيث لهذا الهجوم المحافظ هو أن تنقلب اصلاحية القصر على ذاتها فتفقد مرتكزاتها وصدقيتها» (افتتاحية العدد 4 من جريدة «الرأي»، تشرين أول 2001). تأكدت هذه الاعتدالية في الأسبوع الأخير من عام 2001 مع نشر «مشروع البرنامج السياسي للتجمع»، ثم وصلت إلى حدود كبيرة مع مقالة لميشال كيلو («النهار»، 15 شباط 2002، أعيد نشرها في جريدة «الموقف الديمقراطي») قال فيها إنّ «المعارضة تتجه إلى الاقتصار على نقد عيوب النظام»، وأنها لا تطرح تداول السلطة، داعياً بدلاً من ذلك إلى الاتفاق على «ديمقراطية توافقية» تتوافق على سقوفها السلطة والمعارضة، في إشارة لما كان موجوداً آنذاك في مصر مبارك وتونس بن علي من «أحزاب معارضة مشروعة» و«ديمقراطية القفص المغلق».
لم تتجاوب السلطة مع هذه الاعتدالية عند معظم المعارضين السوريين: بعدما تجاوزت السلطة المرحلة الأولى القلقة للانتقال نحو العهد الجديد صار اتجاهها متزايداً نحو التشدد الداخلي، ولم تعد إلى تكرار ما أبدته في النصف الثاني من عام 2000 من صورة انفتاحية واعتدالية وسماح بحرية الحركة للمعارضين. كان تجاوبها معدوماً مع الطروحات الاعتدالية للمعارضة، التي لم تقتصر على الخطاب السياسي، بل أعطت إشارات (مثل تلك التي أعطاها التجمع في خريف 2002 لاحتمال مشاركته في انتخابات مجلس الشعب القادمة لو توافرت «مناخات مقبولة») على استعداد للدخول في خطوات سياسية عملية تقاربية من السلطة، وهو ما كانت أبواب السلطة موصدة أمامه، مما دفع قيادة «التجمع» في النهاية لاعلان مقاطعتها للانتخابات بعدما كانت قد أخذت قراراً سرياً بالمشاركة لو رأت تجاوباً من السلطة.
يبدو أن غيوم الحرب الأميركية على العراق، التي بدأت بالتجمع منذ أيلول2002، قد جعلت السلطة غير قابلة لفتح ملفات داخلية في ظل توتر اقليمي كبير. في المقابل كان سقوط بغداد في 9 نيسان 2003 نهاية لمرحلة في تاريخ المعارضة السورية انقلبت فيها صفحة المراهنات عند معارضين كثر من المراهنة على تغيير يأتي «من داخل السلطة» إلى مراهنة على تغيير يأتي عبر «الاستعانة بالخارج»، كما فعلت المعارضة العراقية ضد صدام حسين.
في مرحلة ما بعد 10 حزيران 2000 لم تعد سياسة المعارضة تبنى إلا بدلالة «الآخر»، سواء كان في الداخل أو خارج الحدود، ولم تعد تبنى كما كانت في مرحلة 1976 - 2000 على أساس ما تراه الذات المعارضة من برامج وفقاً للتوازنات، سواء كانت السقوف عالية أم منخفضة، حيث كان ما تراه الذات السياسية المعارضة هو الذي يرسم الحركة، نحو الأعلى أو سقف أخفض وفقاً لتغير موازين القوى، وليس بدلالة «آخر» تتحدد برامج وحركة المعارضة من خلاله.
* كاتب سوري